أصلُ الحكاية
15-09-2017

 

ينهض الطفلُ من نومه متثاقلًا ليستقبلَ يومًا تمنّى لو لم تشرقْ شمسُه. عليه الآن أن يستعدّ للذهاب إلى مدرسةٍ لم يحبّها يومًا. تحضِّر له والدتُه طعامًا خفيفًا، وتنشغل مع أبيه بتناول أطعمةٍ أدسم. لا يشغله تناقضُ ذلك الدسَم مع الوقت المبكّر، بقدْرِ ما يشغله تناقضُه مع الابتسامة المشعّة التي سترسمها الوالدةُ بعد قليل في وجه الجارات اللواتي تناولنَ لحمَهنَّ نيئًا مع زوجها للتوّ. "مممم.. كيف يفكّر هؤلاء الكبار؟! سأكبر يومًا وأفهم كلَّ شيء!" قال.

ينهي طعامَه سريعًا، ويهبط درجاتِ السلم قفزًا على الرغم من معرفته أنّ الحافلة لن تصل قبل نصف ساعة.

تصل الحافلة. وقبل أن يصل إلى مقعدها الأخير، الذي سيزاحمه فيه سبعةُ أطفال آخرين، ينطلق السائق، عامر، بنزَقٍ. يترنّح الطفل، ولكنّه يتمالك نفسه قبل أن يسقط على الفتاة الجالسة بمحاذاته. الأغاني الصاخبة المتخمة بالكلمات البذيئة، والصادرة من مسجّل الحافلة، تشعره بالغثيان.

تصل الحافلة إلى المدرسة. وقبل أن يكحّل الطفلُ عينيه بمرأى معلّمته الجميلة، يُجبَر على مواجهة الحائط، في وقفة تطول نصف ساعة، مع رفع اليدين، عقابًا على تأخّر جميع تلامذة الحافلة. ينبري صبيّ أكثر جرأة، فيهتف في وجه الناظر أنّ الذّنْب ذنبُ سائق الحافلة. وقبل أن يكمل جملتَه يعاجله الناظر عمّار بصفعةٍ أرغمتْ جميعَ الواقفين على الالتفات إلى الخلف. يؤكّد عمّار أنّ تأخّر التلاميذ في النزول من بيوتهم هو الذي أجبر عامر على التّأخر، فلا يملك أحدٌ الجرأةَ على تكذيبه. تشابه الأسماء هنا ليس صدفة. فالناس منذ القدم يطلقون على أبنائهم أسماء متشابهة كتعويذة تنجيهم من الشرير، قبل أن ينصرفوا إلى تعليمهم الشرور على أنواعها، وعامر وعمار لهما شقيق ثالث ليس سوى عمران مدير المدرسة!

تنتهي الحصّة الأولى. المعلّمة لطيفة حتى كأنّها لا تنتمي إلى هذا العالم، ولكنّ الكتاب المدرسيّ ليس كذلك. تضحك المعلّمة حين يقول لها الطفلُ ذلك. تقول له إنّه "أكبر من عمره،" وتخبره بالحكاية كاملة: "ثمّة عمولةٌ يحصل عليها مديرُ المدرسة لقاءَ اعتماد هذا الكتاب دون غيره!"

يهزّ رأسه من دون أن يفهم شيئًا.

تبدأ الحصّةُ الثانية المملّة والطويلة. ويشعر الطلّاب أنها أطولُ من عادتها لأنّ المدرِّس، كما يحدسون، تعارَكَ مع زوجته صباحًا، ولم تمنّ عليه شجاعتُه بجوابٍ مُفحم؛ وحين واتتْه الشجاعة ووافاه الجواب، كان الأوانُ قد فات، وكان عليه أن يعوِّض هزيمتَه في مكان أسهل.

يحمل المدرِّسُ الطفلَ من أذنيه. ليس مهمًّا إنْ كان قد ارتكب فعلًا يستحقّ هذا العقاب، أو إنْ كان كلُّ جرمه ينحصر في إجابة خاطئة في مادّةٍ لا يحبُّها. في الفرصة، لا يسمح له الوقت بتناول منقوشة الزعتر، التي استطاع شراءها من دكّان المدرسة بعد تدافعٍ عظيمٍ بالمناكب مع أولادٍ أكبر منه سنًّا. أحدُهم كسر شجرةً صغيرة في ملعب المدرسة، وكان الوقوفُ أمام الحائط عقوبةً جماعيّةً هذه المرّة إلى أن يظهر الفاعل.

يدوّي صوتُ الناظر خلف ظهره: "إزرعْ ولا تقطعْ!" يكرّرها غيرَ مرّة، مزهوًّا ببلاغته وحكمته، متخيّلًا وقعَها في نفوس التلاميذ. يقول الطفل في نفسه: "لم أقطعْ ولا أريد أن أزرع، فما شأني بهذا وما شأنكم بي؟" يحمد الله أنّ أحدًا لم يسمعه؛ فعبارته التالية التي يقولها في نفسه أكثرُ خطورةً: "لم أقطعْ، ولكنّني في المرّة المقبلة سأفعل! هكذا سأحاسَب على ذنْبٍ ارتكبتُه فعلًا!"

 

تنتهي الفرصة. يكمل العقربان دورتهما البطيئة. تأتي الحصّةُ الأخيرة وأذناه حمراوان من الشدّ، وأطرافُه متصلّبة من الوقوف الطويل. وكأنّ هذا لا يكفي، حتى تضافَ إليه رغبةٌ ملحّةٌ في دخول الحمّام. يهمّ باستئذان المعلّمة، ولكنّ صيحتها تسبقه وهي تُقسم بأغلظ الأيْمان أنّ من يطلب الذهاب إلى التواليت هذه المرّة سيكون نصيبُه المبيتَ في غرفة الجرذان؛ فقد ضاقت ذرعًا بالطلبات المماثلة التي لمستْ فيها رغبةً من التلاميذ في الهروب من الصفّ. الغرفة، المقفلة دومًا في آخر الممرّ، تؤكّد هذا الهاجس، وتضاعف من حالة الرعب. سيمرّ وقتٌ طويل قبل أن يدرك أنّ غرفة الجرذان أكبرُ مقلبٍ "شربه" في حياته.

ولكنّ هذا المقلب ليس مضحكًا أبدًا، والاكتشاف بدوره ليس مُرضيًا أيضًا بعد أن فات أوانه. وحين تنتهي الحصّة سيكون عليه التوجّهُ فورًا إلى الحافلة، لا إلى الحمّام، كي لا يتركه عامر في المدرسة كما فعل ذات مرّة.

يصل إلى منزله بعد لأْي، ولو استطاع لدخله من طاقة الحمّام اختصارًا للوقت. يتخيّل حَراجة موقفه أمام سوسن لو تأخّر في الوصول دقائق إضافيّة. يقسم بأنّه لن يشرب الماءَ ثانيةً، مهما عطش.

لا رغبة لديه في تناول الطعام؛ فلقد أعدم شهيّتَه حديثُ والديْه الصباحيّ حول الجيران. وقد استؤنف هذا الحديثُ على الغداء من حيث انتهى. يحمل هاتفَ والدته الذكيّ ليلهو به قليلًا، فلا تمانع؛ المهمّ عندها أن ترتاح منه ومن طلباته. المدرسة كفلتْ لها التخلّصَ منه صباحًا، وينبغي البحث عن أسبابٍ أخرى للراحة بعد الظهر. يشاهد عبر اليوتيوب مَقاطعَ يَفصل فيها بشرٌ رؤوسَ بشر آخرين عن أجسادهم بمتعة بالغة. وبعد لحظات ينتقل إلى مشاهدة أشياء أخرى أكثر إمتاعًا.

تشعر شقيقتُه بشيء مريب، فتناديه كي تحكي له حكاية بدلًا من اللهو بالهاتف. وقبل أن تصل إلى العبارة الأخيرة التي تطمئننا إلى أنّ الأمير والأميرة تزوّجا وعاشا في ثبات ونبات، يناديها والدها ليطلب منها فتحَ الباب والقول للطارق إنَّه ليس في المنزل. تنظر إليه بعتب وتساؤل، فيُسكتها بابتسامة مشجّعة فيها القليل من الرجاء.

ينتهي اليوم الذي لا يقلّ شؤمًا عن سابقه بعودة الطفل إلى فراشٍ تمنّى صباحًا لو لم يغادره. ولكنّ موعد نومه ليس متوائمًا بالضرورة مع موعد نوم سائق الدرّاجة الناريّة التي تجعر تحت نافذته، ولا سائق السيّارة التي يختلط صوتُ عادمها المخروق بصوت هاني شاكر المخنوق أسفًا على خسارة حبيبته. لا نوم إذًا قبل أن يصيب الأوّلَ النعاسُ، ويرقّ قلبُ الحبيبة على الثاني.

يتكرّر هذا السيناريو كلّ يوم مع فوارق بسيطة. الأيّام تمرّ. الزمن يمرّ. يكبر الطفل بمرور الزمن المرّ. تقوده قدماه إلى السجن. وفي الطريق، يدوس على بشر كثيرين، بينهم أحبّته. وهؤلاء أيضًا يدوسون على آخرين أحبّوهم بصدق. تقسم والدته ألّا تزوره في سجنه؛ فهي لن تسامحه بما أهدرته من وقت في تربيته، ولن تغفر له إحناءه رأسَها أمام الجيران. أمّا والده فلا يفكّر إلّا في أقساط المدرسة الباهظة التي ذهبتْ هدرًا ولم تؤتِ ثمارَها. وأمّا عامر، سائق الحافلة، فهو يتمنّى لو أنّ حافلته توصله إلى مكان بعيد عن هذا الكوكب ليهرب من مثل هذه الأنباء السيّئة التي يسمعها يوميًّا. وأمّا الطفل، الذي أصبح كبيرًا، فسيخرج من سجنه يومًا، وسيتزوّج، وسينجب أطفالًا ويسأل نفسه بعد أعوام: "كيف أصبحوا هكذا؟" فلا يجد جوابًا.

صور (لبنان)

مهدي زلزلي

كاتب من لبنان. له مجموعة قصصيّة بعنوان: وجهُ رجلٍ وحيد.