أكاسيا وشبحي في المقعد
28-02-2016

 

كان ثمّة بنت، بنت غريبة. وثمّة مقعد. وثمّة أنا، الغريب أيضًا عن هذه البلاد، على المقعد قبالتها. وثمّة شبحي في المقعد الفارغ؛ فقد كنتُ هنا منذ لحظات، وكان الكلامُ يُزيِّن الطريقَ من روما، وينسينا تعدادَ المحطّات.

أتساعدني؟

وكيف لا؟ يا لَهذه الحقيبة الثقيلة!

هل عرفتِ أنّني الغريب؟ وأنّنا الغريبان الوحيدان في القُمْرة "وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ!"

حديث متقطّع. ثم يذوب الجليد.

أين تقع سورية؟

البنت لا تحفل بالحرب. تداري خجلَها. ليس جهلًا، لكنْ لم تتّضح تفاصيلُ العالم بعد. ثمة نحن التفاصيل التي تأتي تباعًا.

كيف تستطيعين حملَ هذه الحقيبة؟ ثمّ إنّني سأنزل في محطّة قريبة. مَن سيساعدك؟

غريبٌ آخرُ، مثلي ومثلك.

البنت لا تتأفّف من الحرِّ. بأناقةٍ أخرجتْ علبةً ما. رشّت الرذاذَ على ساعديْها. ما بان من ساقيْها نال نصيبَه منه، ومن نظراتي. البنت الأخرى تحاول أن تمنع نفسَها من النظر. لستُ وحدي مَن يختلسُ النظر إذًا.

ثمّ لماذا تلبسُ هذا الثوب، لا الجينز والحذاءَ الرياضي، كما تفعل المسافرات؟ لا بد من أنه حظِّي الجميل، ربما كي تكتمل الأنوثةُ. أنوثةٌ هبطتْ فجأةً على القُمْرة الحزينة، فاستقرّت العيونُ على الجمال الآسيويّ.

أتريد؟

كلا، شكرًا، لا أنزعج من البرغش.

ليس للبرغش؛ إنه يعطيك إحساسًا بالبرودة في هذا الحرّ.

آه، لِمَ لا؟

أسندتْ رأسها إلى الخلف كأنّها لا تريد الكلام، أو ربما لترتاح قليلًا. لكنها باغتتني بعد قليل بالسؤال، كأنّها تذكّرتْ حديثًا معلّقًا لم نختتمه:

ــــ لم تَقُل لي أين هذه الـسورية؟

ــــ وأنتِ لم تخبريني عن اليابان.

ــــ لستُ من اليابان، وهل أشبهُ اليابانيّات؟ أنا من تايوان، أتعرفها؟

ــــ نعم.

ــــ قل لي أنت، هل سورية قريبة من هذه البلاد؟ جزيرةٌ ما؟

ــــ كلّا، لماذا؟

ــــ أنتَ تشبههم لكنك تتكلم معهم بالإنكليزيّة.

ــــ نعم، يجمعنا بحرٌ واحد نتنشَّقُ نسيمه كلنا، وتفرّقنا اللغات. هل سمعتِ بلبنان؟ الأردن؟ العراق؟ تركيا؟

ــــ زرتُ إسطنبول.

ــــ سورية تقع بين هذه البلدان.

ــــ وماذا تفعل هنا؟

ــــ في سورية حربٌ.

ــــ حربٌ؟ أصحيح؟

ــــ مؤكّد أنكِ سمعتِ بداعش.

ــــ وكيف لا؟ الكل يعرف داعش.

ــــ أنا من هناك، حيث داعش.

ــــ وماذا تفعل في هذه البلاد؟

لا تملّ أكاسيا من سماع القصص. تقول: "جيدٌ أن تسمعَ القصصَ من أهلها. تعالَ إلى بلادنا، إنها مكان آمن، لكن لا أعرف إنْ كانت تستقبل لاجئين."

غابت قليلًا بين صفحات هاتفها النقّال ثم قالت: "لقد وجدتُك، وأرسلتُ إليك طلبَ صداقةٍ."

تبادلنا عنوانيْ صفحتيْنا على الفيسبوك قبل أن نتبادل رقميْ هاتفيْنا. وأخبرتني عن برنامج جديدٍ للاتصال المجّانيّ عبر الهاتف النقال، نصحتني به: "لقد ظهرَ حديثًا، والجميع يستخدمونه الآن."

لم تعد اللغة عائقًا أمام تعارفنا. أنت تكتبين بلغة الماندرين على صفحتك، وأنا أكتب بالعربية.

في المحطة التي سرعان ما باغتتنا، تركتُ مقعدي فارغًا، وبقيتْ أكاسيا تنظر إلى المقعد. تكتب أكاسيا عن المقعد الفارغ على صفحتها. تنظر إليه علَّ شبحي قد بقي فيه، أو أشباحُ مَن أسمعتُها قصصهم: الذين ماتوا تحت القصف أو بالغازات السامة أو مَن غرقوا في البحار وهم يحاولون حياةً أخرى. ربما ترى على المقعد صورَ اللاجئين لتخبرهم أنّها تتمنّى أن تستقبلَ بلادُها لاجئين.

تريد أكاسيا أن تخبر القصة. تريد لصورةِ المقعدِ الفارغ على صفحتها على الفيسبوك أن تكون شاهدًا. لو أنّ أشباحنا، لو أنّ صورنا بقيت هناك، لفرحتْ أكاسيا.

سوريا

مالك ونّوس

كاتب صحفيّ ومترجم سوريّ. نشر ترجمات ومقالات ومراجعات كتب في صحف ودوريّات سوريّة وعربيّة. نقل إلى العربية كتاب:غزّة، حافظوا على إنسانيّتكم، للمتضامن الدوليّ فيتوريو أريغوني عام 2011.