أوراقٌ ثبوتيّة
14-08-2017

 

 

هذا المكانُ الحارُّ، بذبابِه، وبالضغط الذي يمارسُه على طبلة أذنيّ، يثيرُ فيَّ الشعورَ الذي طالما تملّكني: شعورَ أنّني أسكنُ في واحةٍ إسمنتيّة، ضائعةٍ شرقَ النهر، في قلب العاصمة المكتظّة؛ واحةٍ تعجُّ بالملل، ورتابتُها تجعل من أيِّ ضيفٍ حدثًا قابلًا للتداول لأسابيعَ في صالونات الجيرةِ الشحيحة.

في تلك الأيّام، لم أكن أعرفُ من أين يأتي ضيوفُنا، ولا أدري كيف أصوغ بحروفٍ ذلك التدفّقَ الدمويَّ، من رأسي وإليه، حين تلجُ سيّارةُ أجرةٍ، محمّلةٌ بجبلٍ من الحقائب، البوّابةَ الحديديّةَ السوداء؛ فأركضُ، مسابِقةً إخوتي، باتّجاه أمّي، صارخين كأبواق في احتفالٍ عسكريٍّ، ومعلنين قدومَ ضيفٍ على غفلة، في زمنٍ كانت فيه المكالماتُ بين البلدان مكلفةً، ولا تُستخدم إلّا في الأعياد والمآتم.

بعيدًا عن واحتي بأعوام، ينكشف أمامي عاريًا سرُّ منبع الزوّار. هنا، قبالةَ الشقّ العربيِّ من المعْبر، حيث مآتمُ الوطنِ وأعيادُه على الطرف الآخر، يمنعنا الاحتلالُ من الوقوف في صيوانها. أجلسُ على أرضٍ تسلّلتْ حرارتُها إلى جلدي. أنتظر مع وجوهٍ أحفظُها وداعَ صديقنا.
تتلمّسُ رائحةُ الجوّافة أنفي من دون سبب: إنّه موسمُها، وصديقُنا يحبُّها، فكأنَّ سفرَه المفاجئ هذا جاء في موعده. تُرى، هل ستزرع له والدتُه شجرةَ جوّافة، أمْ شجرةَ زيتون، على شرف عودته إلى أحضان الوطن؟
تلمعُ في عينيّ دموع، تركب أمواجها "غالونات" الزيت البلاستيكيّة المتعربشة على أكفّ المسافرين، المنهكين من السفر عبر الحواجز.
كلُّ ما حولي يثيرُ الحزن: لقاءاتُ الغيّاب، وداعاتُهم، أحضانُهم، قبلاتُهم. حتّى حقائبُهم، بشرائطها المزركشة والموشومة بعناوينَ وأسماء، زادت من ذلك الانقباض في قلبي.
نحن هنا لوداع صديقنا، وهو في الداخل يكشفون عن هويّته، ويصرّ على صمته، متعنّتًا تعنُّتَ الموتى عن النهوض.
أهناك مَن أخبره أنّنا هنا بانتظار السلام عليه؟

قبل أيّام كنّا معًا. احتدّ النقاش بيننا على الغداء في مطعم شعبيّ، وارتبك النادلُ، وطلب منّا أن نخفّف من جلبتنا، فخرجنا. يبدو الوقت والمكان مناسبيْن لإكمال ذلك الجدل، ولكنّه في الداخل، وكلٌّ منا يشغل نفسَه عن هذا السفر بأمر تافه: أحدُنا يجري مكالماتٍ غيرَ ضروريّة، وآخر يَغرز إظفرَ خنصره في قواطعه الأماميّة، أمّا صديقتُه المقرّبة فتتحدّثُ بلا توقّفٍ مع أختِها الّتي تهزُّ رأسها باستسلام.

وجدتُني أَعدُّ البشرَ من حولي: أراقبُهم ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا، يخرجون من وراء حاجز التفتيش، مجتازين رجلَ أمن، غيرَ آبهين به؛ فيما هو على أهبة استعداده، يتمشّى جيئةً وذهابًا، بسلاحٍ أظنُّه جائعًا لذخيرةٍ حقيقيّة.
مذ وصلنا وأنا أفترش الأرضَ متعبةً. لا أدري كيف اندمجتُ في لعبة عدِّ الأرجلِ هذه. أعيدُ الكَرّةَ من الصفر كلّما تدفّق فوجٌ من الأحذية خارجًا من ذلك المنفذ. أزواجٌ وأزواجٌ تخرجُ، كفيلقٍ من نملٍ يسعى في مناكبه: 2، 4، 6، 8، 10، 12،.........42
يقترب حذاءٌ رجاليّ. بنيٌّ، رباطُه مرتخٍ ومقطَّع، نعلُه ذائبٌ من الخلف. لاحظتُ أن عمليّات رتقٍ كثيرةً أُجريتْ له. هناك ثقبٌ قابلٌ للتوسّعِ في الجانب الأيسر من الفردة اليمنى. كانت هذه أوّلَ مرّةٍ ألتقي حذاءً محبطًا بهذا الشكل! اصطفَّ بجانبي، نافثًا رائحةَ جوفه في أنفي. تلملم جمعُنا المبعثرُ بعد ساعات من الانتظار. يقول رجلُ الأمن إنّ علينا إحضارَ ما نقص من أوراق صديقنا المسافر الثبوتيّة.

لم تكن المرّة الأولى التي أدخل فيها بيتَه، ولكنَّ قبحَ البيوت من دون أصحابها جعلني ألاحظ فوضى العازبين المتناثرة في كلّ مكان: دوائرُ من القهوة الجافّة ارتسمتْ على طاولةٍ تكدّست الكؤوسُ على سطحِها كبثورٍ اعتلت وجهَ مراهقةٍ قبيْل دورتها الشهريّة؛ قمصانٌ متعرّقةٌ بين ذراعيْ أريكةٍ بقدم مكسورة. قابسُ سخّانِ الماء يلمع؛ خطفتُ نظرةً إليه: "لتراته" الإحدى عشرة تغلي، فأطفأتُه. فراشٌ عارٍ من ملاءاته، رفعتُ وسادته من على الأرض ووضعتُها مكانها.
صديقتُه القريبة مشت بخطواتٍ واثقةٍ وكأنّها تقطع حقلَ ألغامٍ تعرف مصائدَه، متفاديةً الدوسَ على أيّ شيء. فتحتْ أحدَ جواريره واعترتها نوبةُ بكاء. الباقون كانوا يبحثون عن الورقة الرسميّة المفقودة. أمّا أنا فلاحقتُ التفاصيلَ، واللكنةَ الفلّاحيّة الهاربة منها. مسحتُ ما رشح من عيني بطرف كمّي؛ فالسفر حين يأتي فجأةً يخلِّف حزنًا مضاعفًا ويصبح التحضير له ترفًا.
التقطتُ ورقةً من منفضة السجائر. لم تكن إلّا فاتورةَ حساب وجبة الغداء قبل عدّة أيّام.  لم تكن ضالّتَنا، ولكنّي تشبّثتُ بها كأنّها ورقةُ يانصيب رابحة.

في نهاية الأمر وجدناها. مرّرناها بين أصابعنا جميعًا، نقرأ معلوماتِها. عاملناها بدلالٍ مفرط؛ فنحن ــــ اللاجئين ــــ نعرف قيمةَ أوراقنا الثبوتيّة وأرقامنا، بل نتوارثها تركةً تسبق الأموالَ المنقولةَ وغيرَ المنقولة.
صديقنا المسافر لم يكن لاجئًا، بل مجرّدُ مغتربٍ عن أرضٍ نُمنع زيارتَها. لو كان بإمكاننا مرافقته، هل سيكون الفراق أسهل؟

ضمّ رجلُ الأمن جميعَ الأوراق بدبّوس حديديّ، معلنًا اكتمالَ معاملة السفر. وبتململ واضح، سمحَ لنا بدقائق لوداع صديقنا القابعِ في سيّارة رسميّة يعلوها كشّافان أزرق وأحمر.

فتح لنا الحرسُ السلسلةَ الحديديّة. اقتربنا بنظام. عندما حان دوري، شعرتُ أنّني سأقطعُ أميالًا قبل الوصول إليه. قدماي تخوناني، وجسدي يرتجف، ولكنْ لا بدّ مما لا بدّ منه.
شعرتُ بدوارٍ خفيف كاد يوقعني داخل السيارة.

ــــ احذري لا تلمسيه.

انكمشتْ معدتي خوفًا. لم أزح نظري عن صديقنا، متجاهلةً تعليقَ فقيهِ الطهارة. وبحذر، وضعتُ فاتورة حساب غدائنا تحت رأسه؛ فربّما ذلك لن يشعرَه بجوع الوحدة.
تقهقرتُ خطوتين إلى الوراء، فيما زعق بوقُ سيّارةِ الإسعاف، معلنًا عن رحلة مفاجئة باتجاه واحدٍ: إلى تحت ثرى مقبرةٍ في الوطن، يفصلنا عن شواهد قبورها جيشُ المحتلّ.

نحنُ الآن ثلّةٌ من المكلومين، يهرول نحونا الحذاءُ المحبطُ، ويأمرنا بعصبيّةٍ بإخلاء المكان.

عمّان

اسماء عوّاد

كاتبة فلسطينيّة مقيمة في الأردن. حاصلة على دبلوم تكنولوجيا المعلومات