أيّام في الشمس
21-08-2016

 

في القنصليّة اللبنانيّة في دبي، أخبرتني الموظّفة أنّني سأحصل على تأشيرة دخولٍ إلى لبنان عند وصولي مطارَ بيروت، بناءً على شروطٍ، منها: حيازتي ألفيْ دولار عند الدخول، وتذكرةَ طيران (ذهاب/ إياب) بتاريخٍ لا يتعدّى الشهرين، وحجزًا فندقيًّا. أخبرتُها أنّ زوجتي لبنانيّة، وأنّه ينبغي أن يكون هناك بعضُ التسهيل. أجابتني باقتضاب: "هذا هو القانون."

خارج القنصليّة كانت الشمس تحتدُّ على رأسي. الآن، مطلوبٌ منّي تدبير ألفيْ دولار لأُبرزها أمام ضابط المطار، وليس مهمًّا إنِ اقترضتُها من الراكب المجاور لي على الطائرة، حتّى نعْبر البوّابة!

في طريقي إلى محطّة مترو دبي تذكّرتُ أنّ عليّ أن أستخرج تأشيرةً لابني ليدخلَ معي إلى لبنان. صحيح أنّ أمّه لبنانيّة، وأنّه وُلِد في بيروت، ولكنّه مضافٌ على جوازي، وإقامته تتبعني؛ فهو مصريّ،  وأمُّه ــــ حتّى الآن ــــ لا يحقّ لها أن تعطيه جنسيّتها.

عدتُ إلى القنصليّة. ذكرتُ للموظّفة وضعَ ابني الرضيع. دقّقتْ في أوراقه، وقالت: "لا مشكلة، سيدخل معك إلى بيروت ويعامل معاملتَكَ لأنّه مضافٌ إلى جوازك." شكرتُها وذهبت.

لكنّ زوجتي قرّرتْ أن تسافر وحدها مع الطفل، على أن ألحق بهما. قال لي أحدُ الموظّفين المتعاملين مع دوائر الهجرة وشؤون الجوازات "إنّ من حقّ الأمّ أن تسافر مع ابنها رغم أنّ جنسيّة الطفل تتبع الأب، شرط أن تُحضرَ تصريحًا من السفارة المصريّة بأنّك توافق على سفرها، وبأنّك تسمح لها بالسفر مع الطفل." قلت له: "ولكنّها أمّه!" أجابني باقتضاب: "هذا هو القانون."

في الطريق إلى السفارة المصريّة كنت أركل الأحجار وأنا أراجع في ذهني قوانينَ الإقامة والجنسيّة والزواج والسفر... إلخ. وبينما كانت الشمس تحتدُّ على رأسي، رأيتُ مئاتِ المصريين الذين أتوْا لإجراء معاملات. عندما بلَغتُ الموظف أخبرتُه بغايتي، فتناول ورقةً مكتوبًا عليها "توكيل خاصّ" وطلب مني أن أملأها وأسلّمَها إلى موظف الشبّاك، مرفقةً بصورة عن جواز سفري وجواز سفر الأم، والرسوم. ملأتُ الاستمارة، وتوقّفتُ طويلًا أمام خانة "أوافق أنا فلان الفلاني على أن أوكل للشخص الفلانيّ التصرّفَ في ..."  التصرّف في ماذا؟!

أمام موظّفة الشبّاك دفعتُ بالأوراق، ودفعتُ الرسوم. طلبتْ إليّ العودة بعد يومين لتسلّم التوكيل. شكرتُها وعدتُ أركل الحصى في الطريق.

رجعتُ بعد يومين إلى السفارة. قلّب الموظّف بضع أوراقٍ أمامه قبل أن يناولني التوكيل. قال لي إنّه لا يصلح إلّا لمرةٍ واحدة. شكرتُه وذهبت.

في الطريق إلى مطار دبي ناولتُ زوجتي جوازي ــــ المضاف ابني إلى إحدى صفحاته ــــ والتوكيلَ. ودّعتُهما في صالة السفر لأذهب إلى عملي. فجأةً سمعتُ الموظّفة تناديني، فعدتُ إليها.

ــــ أين باسبور الطفل يا أستاذ؟

ــــ لم أستخرج له باسبورًا بعد، ولكنّه مضاف إلى باسبوري. يعني يعامَل معاملتي. كما أنّ له إقامةً ساريةً في باسبوري و...

قاطعتني بنفاد صبر أنّ كلّ هذا لا يعنيها، وأنّ على الطفل كي يسافر أن يكون معه جوازُ سفر. قلت لها: "ولكنّ موظّف الجوازات والمعاملات قال لي..."

ــــ من أخبرك بهذا مخطئ. أنا أعرفُ القانون جيدًا. لا يمكن أن يسافر هذا الطفل من دونك.

انطفأ وجهُ زوجتي، وبدأ الطفل يبكي وقد شعر أنّ شيئًا ما قد وتّر الجوّ. قلتُ للموظّفة: "يا أختي، أنا مواطن مصريّ، وهذه زوجتي لبنانيّة، وهذا الطفل عربيّ، ونحن عربيّان نعمل في بلدٍ عربيّ ثالث ، فما الداعي لكلّ هذه التعقيدات؟ أصلًا، الحدود التي تفصل الدولَ العربيّة وهميّة وضعها الاستعمارُ..."

قاطعتني:

ــــ سأنادي لك المديرَ لتكمل معه حصّة القوميّة العربيّة هذه!

أتى المديرُ المتأنّق بشدّة، وكان ردُّه حاسمًا: "إمّا أن تسافرَ معهما أو لا سفر للطفل."

أُسقط في يدي. تذكّرتُ كيف أنّني سافرتُ بالقطار السريع في أوروبا بين أربع دول بتذكرة واحدة من دون أن يوقفني أحدٌ على الحدود، أو يسألني من أيّ بلدٍ أتيت، أو يطلب منّي ألفيْ دولار! اتّصلتُ بمديري في العمل:

ــــ مرحبًا أستاذ. سأتأخّر قليلًا! لا شيء... مشوار قصير إلى بيروت وراجع!

اتّصلتُ بزميل لي فأتى إلى المطار سريعًا، حاملًا ما تيسّر معه من مال ــــ لم يبلغ الألفَ دولار. عدتُ إلى مدير شركة الطيران: "من فضلك أريد تذكرةً إلى بيروت." بوغت الرجل: "ما ستفعله مغامرة. أولًا هل معك ألفا دولار؟" أخرجتُ له كلّ ما في جيبيّ. أطرق، ثم قال: "ويجب أن يكون في حوزتك حجزٌ فندقيّ في بيروت أو مكانُ إقامة." قلت: "سأسجّل عنوانَ أهل زوجتي، فإقامتها في جواز سفرها مُسجّلة على عنوانهم." طلب مني الانتظار. عاد بعد قليل. قال: "لو وجدنا لك مقعدًا على الطائرة فلا تدفع إلّا قليلًا من الألف دولار التي معك." فكّرتُ قليلًا، ثم أخرجت محفظة نقودي: "سأدفع ببطاقة الائتمان. الحساب خالٍ الآن، ولكن يمكن السدادُ خلال أيّام." سار إلى مكتب حجز التذاكر. نهض الموظّفُ سريعًا، ودار بينهما حوارٌ قصير. أشار إلى شيء على شاشة الكومبيوتر، فهزّ المديرُ رأسه. نظر في ساعته وهو يقول له شيئًا، فانهمك في التعامل مع الكمبيوتر. سار المديرُ إليّ، وقال: "فُرجتْ! وجدنا لك مقعدًا. صحيحٌ أنّه لن يكون بجوار أسرتك، ولكنّه مقعد أخير وحيد." ابتسمت له وحييتُه. قال وهو يهمّ بالابتعاد: "فعلتُ ما استطعتُ عليه هنا. أمّا في بيروت فالله معك."

جلستُ في الطائرة، على الكرسيّ الاحتياطيّ بجانب المضيفة، أراقب زوجتي وابني من بعيدٍ وهما ينظران عبر النافذة.

***        

أنشب ضابطُ الجوازات عينيْه الحادّتين في عينيَّ وكرّر كلامَه للمرّة الثالثة: "يا خيّي قلت لك لازم 2000 دولار لتدخل لبنان. ما بقدر أعطيك التأشيرة بالألف يللي معك!" شرحتُ له الموقفَ للمرّة الثالثة أيضًا، وأنّني اضطررتُ إلى السفر لأوصل زوجتي وابني إلى أهلهما هنا. وقلتُ إنّ الإنسان عادةً لا يسير بألفيْ دولار في جييه ليوصل شخصًا إلى المطار إلّا إذا كان الوليد بن طلال أو سعد الحريري! عاد يهزّ رأسه محنقًا. قال وهو ينظر إلى زوجتي التي وقفت في صفّ "جوازات اللبنانيين": "وحتّى إذا كانت زوجتك لبنانيّة... على راسي، هي يمكنها الدخول، أمّا أنت فلا." قلت له وأنا أنظر إلى طفلي الذي بدأ يبكي على كتف أمّه: "وهذا الطفل، هل أرجع به إلى دبي؟! كيف سيبقى معي بلا أمه؟ عمرُه شهور!"

راح يتفحّص جوازي، ويقف طويلًا عند التأشيرات: أختام أحد عشر بلدًا. توقّف عند إحداها وقطّب حاجبيْه. قال: "هل سافرت إلى أوروبا؟!" رددتُ بالإيجاب. "مَن تعْرف في لبنان؟" أخبرتُه أنّ شقيق زوجتي يعمل في الأمن العامّ مثله تمامًا. طلب منّي رقمه فأعطيتُه إياه. هاتفه. سأله عنّي، ثمّ أغلق الخطّ. قال وهو يسلّمني جوازي: "اذهبْ إلى شبّاك البنك خلفك. اشترِ طابعَ دخولٍ وتعال." اشتريتُ الطابع بـ45 ألف ليرة وعدتُ إليه. وضعه على جوازي وختمه. قال وهو يشير إلى بوّابات الخروج: "شرِّفْ."

ابتسمتُ لزوجتي فتهلّل وجهها، وابتسم ابننا وقد أصابته عدوى الفرح. ترافقنا إلى المدخل وأنا أشعر بالامتنان لأوروبا التي أدخلتني لبنان! استوقفنا ضابطُ الجمارك وتفحّص جوازيْنا. "حضرتك شو بتشتغل؟" رددت: "كاتب." تجهَّم وجهُه. أغلقوا الحقائب، ثم أشار أحدُهم إلى بوّابات الخروج مشيحًا عني.

***

مساءً كان الجميع فرحين. كنتُ أجلس في الشرفة أشرب القهوةَ مع شقيقها الكبير، وهو يستمع بدهشةٍ إلى ما حدث معنا. قال إنّ عليّ أن أحصل على إقامةٍ في لبنان لي ولابني. سألتُه عن قضيّة إعطاء الأمّ اللبنانيّة الجنسيّةَ لأبنائها، فردّ مبتسمًا: "انسَ..." فجأةً انطفأت الأضواءُ في البيت. قلت: "يبدو أنّ هناك "ماس" كهربائيًّا ضرب المنطقة بسبب المطر." قال وهو يضحك: "لا ماس ولا شي. هذا الموعد الرسميّ لانقطاع التيّار."

***  

 أمام ضابط الجوازات في مطار بيروت رحتُ أفرك يدَيّ من البرد، وأنا أقف أمامه بملابسي التي لم أغيّرْها من الأمس. قال:

ــــ أين يوسف؟

ــــ يوسف من؟!

ــــ ابنك؟!

ــــ مع أمّه طبعًا.

ردَّ وهو يعيد إليّ الباسبور: "آه! مشكلة. ابنك ليس له تصريح للبقاء في لبنان بمفرده. هو مضاف إلى باسبورك. يعني في حال سفرك يجب أن تأخذَه معك كما أحضرتَه." رددتُ بأنّ أمّه ستعيدُه معها. "لا ينفع. هو الآن في لبنان بلا سند قانونيّ. أنا أعترف بهذا الباسبور فقط. إذا تحرّك شرقًا يجب أن تكون معه، وإذا تحرّك غربًا يجب أن تكون معه. أنتما مرتبطان بالباسبور، وليس هو الذي يتبعكما!"

ــــ ولكنّ أمّه ستعود به، وأنا حصلت لها على توكيل خاصّ وقد رأيتَه بنفسك...

قاطعني:

ـــــ التوكيل الخاصّ يصلح لو كان جوازُ ابنك لبنانيًّا، والتوكيل يصلح في حالة المنقولات والأثاث... صرختُ مقاطعًا: "أثاث"؟!

أتى على صوتينا ضابطٌ أعلى رتبةً، راح يرمقني في ارتياب، ويشير إلى الضابط من خلف الزجاج، فخرج وشرح له القصةَ باقتضاب. طلب الضابطُ الأعلى جوازي. قال: "تعال معي من فضلك." سبقني إلى إحدى الغرف الجانبيّة فلحقتُه. "اسمع... هذا هو القانون. أنا أتفهَّم وضعك جيّدًا، ولكنْ لا يمكنك أن تذهب وتترك ابنك هنا بلا سند قانونيّ. يجب أن تستخرج تصريحًا من القنصليّة المصريّة يتيح للأمّ السفر بالطفل، وتصريحًا آخر يتيح لابنك البقاءَ هنا مع أمّه حتّى تعود بالسلامة."

ــــ وطبعًا هذا يعني أنّني لن أسافر الآن.

هزّ رأسه بالإيجاب.

ــــ وهذا الدفتر الذي سجَّلتَ اسمي عليه الآن هو للممنوعين من السفر؟

ابتسم ولم يجبني. سلّمني الجوازَ وقال لي: "تفضّل. أمامك مشاوير كثيرة. مُرّ عليّ عند سفرك. وإنْ واجهتك مشكلة فأخبرني." شكرتُه وذهبت.

***

في القنصليّة المصريّة ساعدني الموظّف على ملء الاستمارات، التي لم تترك تفصيلةً منذ ميلادي إلى ميلاد جدودي. طلب منّي تصوير أوراق كثيرة خارج السفارة. عدت إليه بها. قال: "استلام التصريح غدًا الساعة الثانية من بعد الظهر." شكرتُه وذهبت.

أمام السفارة وقفتُ أمام كابينة الهاتف الوحيدة:

ــــ آلو. مرحبًا. أرجو أن تمدِّد لي الإجازة. أشكرك.

من نافذة سيّارة السرفيس رحتُ أطالع الحيطان والشعارات: "الحقيقة والسما زرقا"... "بيروت لأهلها واللي ما بدو يزحِّط." دخلتُ شارع بيت زوجتي، ففاحت روائحُ القهوة والزعتر والمناقيش، ومن النوافذ أطلّتْ أصصُ أزهارٍ وحبقٍ ونعناع. نظرتُ إلى أعلى، فطالعني وجهُ زوجتي تشير إليّ مبتسمةً، وابني في حضنها. دلفتُ إلى البناية. وقفتُ أمام المصعد، فاكتشفتُ انقطاعَ التيّار. بينما كنتُ أستريح في الطابق الثالث عبقتْ من الشبّاك رائحةُ القهوة. شعرتُ بنشوةٍ مباغتة. رحتُ أصعد ممنّيًا نفسي بفنجانٍ من يدِ حماتي الطيّبة.

***  

ناولني الموظفُ التصريحَ الخاصَّ بي، ممهورًا بتوقيع القنصل. نصحني بأن أذهب إلى ضابط المطار لأقدّمه إليه وأسأله عن أيّ نقصٍ في الأوراق قبل أن أسافر في اليوم التالي. شكرتُه وذهبت. خارج القنصليّة وجدتُ تجمُّعًا كبيرًا من شبابٍ لبنانيين يرفعون لافتاتٍ ضدّ الطائفيّة، ويَدْعون فيها إلى سيادة المواطنة ومفهوم الدولة. شبابٌ كالورد، وفتياتٌ كالتفّاح، وكلُّهم اجتمعوا على موقفٍ ومبدأ. شعرتُ بالتفاؤل، ولوّحتُ لهم بعلامة النصر، فبادلوني الإشاراتِ الإيجابيّة وهم يبتسمون. واصلتُ سيري إلى البيت. عادت الشعارات تطالعني: "بدنا المحاكمة" ... "لا محاكمة للشرفاء." لا لافتات تتحدّث عن انقطاع الكهرباء. أشرتُ إلى سيرفيس ليحملني إلى المطار.

***    

 وقفتُ أمام غرفة الضابط منتظرًا خروجَ العسكريّ الذي دخل ليستأذن لي في الدخول. عاد وقال بنبرةٍ محايدة: "الضابط غير موجود. يمكنك المجيء غدًا."

ذهبت.

المطر يُغرق الشوارع، والريح تكاد تقتلعني. وقفتُ أمام كابينة الهاتف العموميّ:

ــــ آلو. صباح الخير. السيّد المدير؟ من فضلك مدَّدْ لي الإجازة يومين آخرين.

تجاوب الرجل مرحِّبًا. شكرته وأغلقتُ الخطّ. قفزتُ إلى الجهة الأخرى من رصيف الحمرا، أمام المقهى الثقافيّ القديم الذي استحال محلَّ ملابس، أنتظرُ سيّارة أجرة تقلّني إلى بيت أهل زوجتي. اقترب السيرفيس، فأشرتُ إليه شبهَ متوسّلٍ بأن يقف. حشرتُ نفسي بين الركّاب وأنا أناضل لأجد لحقيبتي مكانًا. راكبٌ يجادل السائق في الأجرة، فيصرّ الأخير على أخذ "سيرفيسيْن" (أجرة مزدوجة). الراكب يشتم الأجور كلّها: "كـ... أخت الأجرة!"

أكثر تعبير حنقٍ سمعتُه في لبنان هو: "كـ... أخت" الشيء، أيًا كان هذا الشيء.

مسكينة هذه الأخت!

رحت أنظر من النافذة. كان المطر قد حوَّل الشوارع إلى ما يُشبه البركة، وقد اختلطتْ مياهُ الصرف الصحيّ بمياه المطر. عدتُ أفكّر في ما سأفعل بالأوراق وتصريح سفر يوسف. أفاقني من تأمّلاتي صوتُ السائق الخشن وهو يطلب منّي الأجرة. مددتُ يدي إلى جيبي، بينما راح الراكب المحنّق بجانبي يتذمّر من حقيبتي.

*** 

هزّ ضابطُ المطار رأسه من خلف الزجاج وهو يطالع التصريحَ الذي وضعتُه أمامه. اقترب من الزجاج: "أهذا ما طلبتُه منك يا أستاذ؟ هل طلبت منك أن تعمل لزوجتك توكيلًا لبقاء الطفل، أم تصريح سفر وعودة؟" قلت له إنّهم أخبروني في السفارة المصريّة بأنّ هذا هو المطلوب لوضعي. هزّ رأسه نافيًا: "لا. ليس هذا المطلوب. قلت لك تصريح سفر وعودة." وكرّرها بالفرنسيّة بعصبيّة: "aller et retour. تصريحٌ على مستندٍ لونُه أصفر."

ــــ  طيّب، ما العمل الآن؟

ــــ اعمل التصريح!

ــــ يا عزيزي حقيقةً لا أفهم ماذا سيفعل رضيعٌ في لبنان! كيف سيهدّد الأمنَ القوميّ اللبنانيّ؟

علت وجهَه ابتسامةٌ ساخرة. قال لي: "هذا هو القانون." أشار إلى البوّابات، حيث تربض الطائراتُ خلفها وقال: "لا يمكنك عبورُ هذه البوابات من دون أن تُحضر لي هذا التصريح." استدرتُ خارجًا. قال لي: "بالمناسبة، بعد أن تعمل التصريح سجِّلْه في الأمن العام واختمْه، وهاته ممهورًا بتوقيع مسؤول دائرة الأجانب والإقامات هناك."

***

بعد ثلاثة أيام أخرى من الذهاب والإياب إلى السفارة المصريّة، خرجتُ ممسكًا بالتصريح الأصفر. اتّجهتُ إلى كابينة التليفون. اتصلتُ ببيت أهل زوجتي، وطمأنتُها. سألتُها عن الأحوال. قالت لي إنّ أهلها دفعوا "فاتورتَي" الكهرباء اليوم. سألتُها متعجّبًا: "هل تُحصِّل الدولة الكهرباءَ مرّتين من الناس؟!" ضحكتْ وأوضحتْ لي أنّ معظم الناس في لبنان يدفعون فاتورةً للكهرباء النظاميّة، وأخرى لكهرباء "الاشتراك" التي يحصَّلها منهم أصحابُ المولِّدات بطريقةٍ غير شرعيّة. قلت لها إنّ الكهرباء تنقطع رغم ذلك! قالت: "عادي... اتعوّدنا حتّى فاتورة المَي بندفعها رغم أنّنا نشتري عبوّات المياه المعبّأة من المعامل لنشرب."

عدتُ أنتظر السيرفيس. مرّت من أمامي سيّاراتٌ حديثة. تابعتُها ببصري وهي تخترق منطقةً عشوائيّة، تتداخل فيها البناياتُ بأسمنتها وزجاجها. أشرتُ إلى السيرفيس القادم، وطلبتُ إليه أن يتّجه إلى "الأمن العامّ."

***

اتّسعت عيناي أمام الضابط الذي صمت ينتظر ردّي. قلت له: "لم أفهم." عاد يزفر وهو يهزّ رأسَه في ضيق ويكرّر سؤاله: "أين أمّ الطفل لتضمن لي أنّها ستقبل ببقاء ابنها معها بعد أن نعتمد لك هذا التصريح لتسافر منفردًا؟"

ــــ لكنّها أمّه! أهناك أمٌّ ترفض احتضانَ ابنها؟!

قالي لي ببرود: "نعم. توجد الكثيرات!" قلت له: "لكن زوجتي ليست كذلك." قال لي: "حلو. أحضرْ زوجتك إذًا لتقرَّ لي بهذا وتوقّعَ عليه أيضًا!" صرختُ وأنا أنتفض ناهضًا من مقعدي: "ولكنّ منزلهم بعيد، ولو اتّصلتُ بها لتأتي سيكون عملُ الدائرة قد انتهى، وستقولون لي: مرّ غدًا. وغدًا يعني خصمَ يومٍ آخر من راتبي، وتأجيلَ سفري للمرّة السادسة، وهذا حرام والله. هذا ابنها... ابنها يا ناس. وأنا مصريّ، ولست إسرائيليًّا!"

تأمّلني الضابط طويلًا وقال لي: "اجلسْ." جلستُ محبَطًا. قال وهو يراجع بعضَ أوراق أمامه: "هل شقيق زوجتك زميلٌ لنا في الأمن العامّ؟" رددت بالإيجاب. قال لي: "اعطني رقمه." اتّصل به. دار بينهما حديث حول وضعي. شكره باحترام وأغلق الخطّ. سألني عن رقم بيت أهل زوجتي. أعطيته له. طلب الرقم، وانتظر قليلًا.

ــــ آلو... أهلًا. ممكن أكلّم مدام ...؟ مرحبًا مدام.

سألها إنْ كانت تقبل برعاية ابني في حال سفري منفردًا. فهمتُ من ردّة فعله أنّ زوجتي صُدمتْ من سؤاله. سمعتُها تصيح في الهاتف. طلب منها أن تهدأ. قال: "إذًا لا مشكلة أن يظلّ الولدُ معكِ أسبوعين. شكرًا لكِ." وأغلق الخطّ.

ــــ اسمعْ. أنا أتفهّم وضعك... ولكن، هذا هو القانون.

هززتُ رأسي في يأس ولامبالاة. أكمل:

ــــ أعرف أنّك مُرهق. عمومًا... هانت. ولم يبق سوى إجراء أخير.

ناولني التصريحَ الأصفر بعدما مهره بتوقيعه وختمه. رفع السمّاعة وطلب أحد الضبّاط. بعد لحظات أتى الضابط، فقال له: "خذ الأستاذ ومعه التصريح الأصفر، واجعلْه يوقّع على التعهّد واصرفْه."

ــــ أي تعهّدٍ سأوقّع عليه؟

ابتسم وهو يعود ليجلس إلى مكتبه الفخم ويعبث بقلم فاخر: "سيخبرك الضابط. تفضّلْ معه."

تبعتُ الضابط إلى مكتبه، في طرقةٍ طويلة اصطفّ على جانبيها كثيرٌ من الناس وقد حملوا أوراقًا في أيديهم وهم ينظرون إلى ساعاتهم في يأس. جلستُ أمام الضابط. راح يُطالع التصريح، ثمّ أخرج استمارةً رسميّةً من أحد الأدراج، مكتوبًا أعلاها: "تعهُّد." ناولني إيّاها وقال: "هذا تعهّدٌ ستأخذه على ابنك بألّا يقوم بأيّ نشاطٍ مخالفٍ لقوانين الإقامة في لبنان ريثما تعود لتأخذه." انفرج فمي قليلًا وأنا أحدَّق فيه بعينين ذاهلتين.

ــــ نشاط مخالف لقوانين الإقامة؟ يا سيّدي ابني رضيع!

ــــ القانون هو القانون يا أستاذ.

انفجرتُ بالضحك وأنا أضع كفّي أمام وجهي. قطّب الرجلُ ما بين حاجبيه وهو يتأمّلني. علا صوتي وارتفعتْ شهقاتي. بعد لحظات سألني: "لماذا تبكي يا أستاذ؟!"

***  

في مطار بيروت، وقفتْ زوجتي تودَّعني حاملةً طفلنا على كتفها. قبَّلتُ رأسها، وقبّلتُ يد يوسف الذي بدا سعيدًا.

ارتفعت الطائرة. رحتُ أنظر إلى الأرض من النافذة. بعد برهة أخبرنا الطيّار أنّنا اجتزنا حدودَ لبنان، وعبرنا سوريا باتّجاه الجزيرة العربيّة. أخذتُ أتأمَّل كلّ ذلك، فيما كنت أحاول أن تذكّر أين تركتُ مفاتيح البيت، فلا أذكر إن كنتُ قد نسيت البابَ مفتوحًا أمْ أغلقته.

القاهرة

حمزة قنّاوي

شاعر وكاتب مصريّ. محاضر بجامعة الجزيرة، كليّة الإعلام، دبي. من أعماله: الأسئلة العطشى (2001)، وأكذوبة السعادة المغادرة (2003)، وأغنيات الخريف الأخيرة (2004)، وبحّار النبوءة الزرقاء (2006)، وقصائد لها (2007).وفي الرواية/سيرة ذاتيّة: المثقفون (2009)، من أوراق شاب مصري (2012).