إدوارد سعيد: تحيّة إلى "تحيّة" (الآداب، 6/7، 1994)
27-09-2018

 

بين نهاية الربيع ومطلع الصيف من العام 1994، قدّمتُ عبر مجلة الآداب أكبرَ ملفّ صدر باللغة العربيّة في حينه عن المفكّر الراحل إدوارد سعيد. ضمّ الملفّ ثلاثَ مقالات ومقابلةً، فضلًا عن ثلاثِ دراسات، وتقديمٍ مطوَّلٍ لي بعنوان: "مسؤوليّةُ مثقفِ ما بين الحضارات." وقد شارك في الملفّ كلٌّ من: الأستاذ الجامعيّ اللبنانيّ الراحل الصديق والحبيب د. عفيف فرّاج، والناقد الفلسطينيّ الكبير الدكتور فيصل درّاج، والباحثة الجامعيّة الأميركيّة ــــ اللبنانيّة كيرستن شايد (زوجتي السابقة).

في ذكرى رحيل إدوارد سعيد الخامسة عشرة، تعيد الآداب، في باب "الذاكرة الورقيّة" تحديدًا، نشرَ مقالٍ جميلٍ لإدوارد سعيد عن الراقصة والفنّانة المصريّة الرائعة تحيّة كاريوكا. المقال نُشر في لندن ريفيو اوف بوكس في 11 أيلول (سبتمبر) 1990.

***

كان إدوارد بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة من عمره حين شاهد تحيّة كاريوكا، بصحبة ثلاثة فتيانٍ آخرين، في "كازينو بديعة" في الجيزة. وكان شريكُها في الحفل الفنّان عبد العزيز محمود. لن تفوتَ القرّاءَ ملاحظةُ الأوصاف الدقيقة التي قدّمها سعيد لجسد تحيّة "المذهل في لدونته وتناسقه،" ولـ"برَق" ثوبها الخلّاب، وستائرِه الشفّافةِ المتهدّلة على البيكيني ــ ــ وكلُّها سماتٌ جعلتها "أكثرَ الأشياء الجنسيّة اشتهاءً." لكنّ أهمّ ما يركّز عليه سعيد أمران:

ـــ الأوّل، رقصُها البعيدُ عن "الهزهزة والنطنطة الفظيعتيْن اللتيْن تُعتبران ’إغراءً‘ رخيصًا وتخلّعًا حريميًّا ليس إلّا." وهنا يسترسل سعيد في الحديث عن "الإيحاء" الذي يميِّز الرقصَ العربيَّ الحقيقيّ، متّخذًا من تدلّلها على عبد العزيز محمود نموذجًا: "فهي تنزلق من ورائه، فيما هو يدندن أغانيَه برتابة، وهي تبدو وكأنّها ستخرّ بين يديه، وهي تقلّده وتسْخر منه ــ ــ وإنّها لتفعلُ ذلك كلَّه من غير أن تلمسَه أو تستثيرَ ردَّه على الإطلاق!"

ـــ الثاني، بسمتًها الهادئة، التي عدّها سعيد رمزًا لتميّز تحيّة كاريوكا "داخل ثقافةٍ طلعتْ علينا بدزيناتٍ من راقصاتٍ... اعتُبر أكثرُهنّ في مرتبةٍ لا تعلو درجةً واحدةً على مرتبة العاهرات."

بعد ذلك، يتناول سعيد أدوارَ تحيّة في الأفلام المصريّة (قال إنّه شاهد رقصَها في خمسة وعشرين أو ثلاثين فيلمًا!). ويتحدّث عن لقائه بها. وهنا ننتقل إلى مَقاطعَ لا تقل إثارةً وبهاءً عن وصف رقصها: إنّها المَقاطع التي يركّز فيها سعيد على وصف البيئة التي نشأتْ فيها تحيّة، ومواقفِها السياسيّة (سجنها عبد الناصر في الخمسينيّات لانتمائها إلى منظمةٍ "مواليةٍ لموسكو"، وهي "تحب الناس في امريكا" لكنها تكره "سياسةَ حكومتهم،"...)، وصولًا إلى تديّنها وهي تقترب من آخر سنوات حياتها.

***

لا أريد اختزالَ المتعة التي سينالها القرّاءُ من هذا النصّ البديع. لكنّني لا أودّ ان أنهيَ هذه التقديم من دون الإشارة إلى أنني نقلتُ هذا النصّ إلى العربيّة (شأن عددٍ من النصوص الأخرى) وأنا على اتصالٍ هاتفيّ دائم بأستاذي إدوارد. ففي بداية العام 1993، أيْ بعد تخرّجي من جامعة كولومبيا بعاميْن، عشتُ في نيويورك بضعة شهور. في أثناء ذلك بدأتُ في إعداد ملفّ الآداب عن إدوارد. كنتُ أتصل به وأسأله عن قصده من هذه الكلمة أو تلك. وكانت محادثاتُنا تستغرق نصفَ ساعة أحيانًا. وأذكر تحديدًا أنّني سألتُه عن كلمةٍ بالإنكليزيّة، وردتْ في نصّه عن تحيّة، وفهمتُ أنها تعني "مَهيبة" أو "عظيمة" أو "جليلة"... ليفاجئني إدوارد بالقول وهو يضحك بصوتٍ عالٍ:

"لاه لاه يا زلمة! ليك لوين رحْت! قصدي ناصحة، سمينة، ضخمة!"
 

بيروت

لقراءة المقال، أنقر هنا

ولقراءة الملف الخاص بإدوارد سعيد في العدد نفسه، أنقر هنا

سماح إدريس

رئيس تحرير مجلة الآداب الورقيّة (1992 ـ 2012) والإلكترونيّة (2015 ـ...). له كتابان في النقد الأدبيّ، وأربعُ رواياتٍ للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال، وعشراتُ الدراسات والمقالات والكتب المترجمة. عضوٌ مؤسِّسٌ في "حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان" (2002 ـ ...). ينتهي خلال أعوام من إنجاز معجم عربيّ  ضخم صادر عن دار الآداب.