إنْ خـافَ الأمَّ أبـنـاؤُهـا
28-05-2016

 

= آه... ليتني أتحرّر لغويًّا!

* أنت؟! أنت، عاشق الضاد، تقول ذلك؟

= أجل، أيّها المستغرِب المزْمِن!

* ومِن الحبّ ما قَتَل!

= أحبّ هذه اللغة، لكنْ لا أريد للحبّ أن يكون قيدًا.

* لكنّني لم أفهم ما قلتَه أوّلًا.

= آتي لأكتب "الأحفاد" كالشائع في المكتوب والمنطوق، فأتراجع إذ أتذكّر أنّ الصواب هو "الحُفَداء" على نحو ما ورد في القاموس. والقاموس ناموس!

* أو ناووس!

= آتي لأكتب "تَجَوَّلَ،" فأتذكّر أنّ هذا الفعل لم يَرِدْ في القاموس القديم، فتزجرني نفسي الضعيفة، فأزدجر!

* ألهذا الحدّ يجعلك القاموسُ تمتنع عن ممارسة حرّيّتك؟

= وأكثر! أحاول عدمَ الانصياع لمن يحاول منعي من القول "تقييم" ويصرّ على "تقويم،" رغم أنّ هنالك مَن يجيز الأولى. وسرعان ما أجدني أنصاع لشرطة اللغة!

* يا لَشرطة اللغة هذه! إنّها تمنع السير في الطرق التيسيريّة.

= "لغتنا العربيّة يُسرٌ لا عُسرٌ، ونحن نملكها كما كان القدماءُ يملكونها، ولنا أن نضيفَ إليها ما نحتاج إليه من ألفاظ لم تكن مستعملةً في العصر القديم..." منذ سنين حفظتُ هذا الكلام عن ظهر قلب، ونسيتُ أن أعمل به.

* ذكِّرني بمن قال "لغتنا العربيّة يُسْرٌ لا عُسْرٌ..."

= إنّه العميد العظيم البصير، قاهرُ الظلام.

* أجل، أجل. طه حسين، سابقُ عصره!

= يا أخي، أحاول أن أكتب "في الشارع الرئيسيّ،" فينبري لي بعضُ اللغويّين قائلين: "الصواب: في الشارع الرئيس." ويشرحون ويبرّرون، ولا يقنعونني. ورغم ذلك، أراني أنقادُ.

* "الشارع الرئيس"؟! ما أشنع هذا الاستخدامَ وذاك المنعَ!

= والشوارع الرئيسَة، والعوامل الرئيسَة...

* "الشوارع الرئيسَة"؟! يا لَهذا "الصواب" ما أقبحه!

= في هذا أذْكر موقفًا طريفًا ورد ضمن برنامجٍ فكاهيّ أردنيّ قبل سنين بعيدة، جمع بين مذيع (هشام يانس) ومسؤول (نبيل صوالحة). كان المسؤول كلّما قال "الشوارع الرئيسيّة" انبرى له المذيعُ "مصوِّبًا": "الرئيسَة. الشوارع الرئيسَة"! بعد بضعة "تصويبات" متكرّرة، جحظتْ عينا المذيع المتفاصح إذ سَمع ذاك المسؤولَ الظريفَ يقول مفرِطًا في الاحتراز: "...الشوارع الرئيسَة، والشوارع الفَرْعَة"!

* مُضحِكٌ مُبْكٍ!

= وعلى الغرار ذاته، يحلو لي أن أقول: "هذا سببٌ أساسيّ،" فيأتي هؤلاء أنفسُهم قائلين بأصواتهم المتعالمة: "الصواب: هذا سببٌ أساسٌ."

* "سببٌ أساسٌ"؟! يا لطيف!

= تتملّكني الرغبة في أن أقول: "يتوجّب عليّ أن..." لكنّ ذاكرتي تُحيلني على كتب "الأخطاء الشائعة" التي تشير إلى أنّ الفعل "تَوَجَّب" لم يَرِدْ في معاجم العربيّة القديمة إلّا بمعنى واحد وحيد: "أكلَ في النهار أكلةً واحدة." فأتراجع وأقول: "يجب." فالقاموس ناموس!

* أو كابوس!

= إي والله.

* وهل هنالك في زماننا مَن يستخدم "تَوَجَّب" بهذا المعنى؟! لم أسمع ولم أقرأ استخدامًا كهذا قَطُّ.

= وأنا كذلك. هو استخدامٌ قديمٌ مُمات. أورده القاموس، وتعبّدتْ له بعضُ النفوس!

* الحياة نبذتْ ذاك الاستخدام، وخلقت استخدامًا جديدًا مقْنعًا سلسًا مفهومًا. والمخطِّئون...

= المخطِّئون على حالهم: يعيشون الحاضرَ والقادمَ بأذهانٍ لا تعترف إلّا بالأمس السحيق. أتعرف؟ كم من مرّة رغبتُ في القول "تَواجَدَ،" فتذكّرتُ المخطِّئين وارتددتُ.

* وما حجّتهم في هذا؟

= حجّتهم أنّ "التواجُد" له معنى واحد فقط ورَدَ في القواميس القديمة لا يتّفق مع هذا الاستخدام، وهو: "تَواجَدَ القومُ" أيْ تبادَلوا الوجْدَ.

* وهل هنالك مَن يستخدم هذا الفعلَ في أيّامنا بهذا المعنى؟

= لم أصدف هذا الاستخدام إلّا في معاجم اللغة.

* إذًا، ذاك استخدام محنَّط!

= والمخطِّئون محنِّطون. يريدون اللغةَ مومياء؛ تُوهِمُك بالحياة ولا حياة!

* ليتهم يرأفون بأبناء اللغة! أليست كثرةُ التخطئاتِ ذاتُها خطأً فادحًا؟!

= خطأ فادح، وخُسْران أفدح. يظنّون اللغة دِينًا لا يتبدّل.

* حتّى الدين ــــــ المتّهَم بالجمود ـــــ يأتيه أناسٌ مِن داخله يَدْعون إلى عصرنته، ولا يروْن في ذلك مسًّا بجوهره، يَحدوهم في هذا اعتقادٌ راسخ أنّ الدين ــــ حين يواكب العصرَ ــــ يفيد أهلَه ويكتسب زخمًا محمودًا. العصرَنة لا تعني التفريط.

= وهنالك مَن يخطّئ مَن يقول: "اشتريتُ حِذاءً"!

* والصواب؟

= "الصواب" أن تقول: "اشتريتُ حذاءَين"!

* يا الله!

= ينسى المخطِّئون أنّ البلاغة تُجيز التعبيرَ عن الكلّ بواسطة الجزء. نقول: "بكت عينِي" قاصدين بذلك "بكت عينايَ." المَجاز المرسَل يُجيز ذلك. والعكس من هذا (التعبير عن الجزء بالكلّ) جائز أيضًا؛ إذ نقول: "بكت عيوني،" ونحن نقصد "بكت عينايَ."

* لِمَ تَفترض أنّهم يَنسَوْن؟! أليس من المحتمَل أنّهم يجهلون؟

= لا يمكنني أن أجزم. المَجاز، عمومًا، أثرى اللغة عبر التاريخ. ويخطّئونك إن قلتَ: "سنلتقي في نفس المكان."

* يا ساتر! ولماذا؟

= لأنّ المكان ليس له نفس! وإذًا، "الصواب" أن تغيّر الترتيب، فتقول جاعلًا التوكيدَ بعد المؤكَّد: "سنلتقي في المكان نفسه"!

* وما تقول أنتَ؟

= أرى أنّ مَن يجيز القول "في قديم الزمان" و"لشديد الأسف" و"جزيل الشكر،" مضيفًا النعتَ إلى المنعوت، لا ينبغي له أن يخطِّئ إضافةَ التوكيد إلى المؤكَّد، ولا سيّما أنّه لا يخطّئ قولَنا "سافر جميعُ الزملاءِ" بديلًا لقولنا "سافر الزملاءُ جميعُهُم."

* وإلى متى سنبقى في خوف؟! يا أخي، بتنا نخاف الكتابةَ بالعربيّة الفصيحة، ومجرَّدَ التكلّم بها.

= وهنا يَكمن الإزعاجُ والخطورة. كثرةُ التخطئات، والتشدُّدُ والتسرّعُ في إصدار الأحكام، والادّعائيّةُ الدميمة، والاعتقادُ أنّ اللغة فعلُ ماضٍ مفروضٌ على الحاضر وعلى الآتي، والالتزامُ بما لا ينبغي أن يُلزِم، والاعتقادُ أنّ اللغة معطًى ثابتٌ وأنّ لها قداسةً تستوجب الثبات... كلّ هذه تجعل اللغةَ غريبةً عن أبنائها وتُنفّرهم منها. كم أخشى على هذه اللغة الحلوة من أهل الادّعاء والتزمّت! سنخسر اللغة إنْ ظللنا منصاعين لهم. خطرُ مثلِ هذا "الاهتمام" لا يختلف بكثيرٍ، في النتيجة، عن خطر ذاك الإهمال!

* كان من الأجدر أن يَحملهم خوفُهم عليها ومحبّتُهم لها على التروّي.

= وأن يتذكّروا دومًا أنّ اللغة نتاجٌ بشريّ حضاريّ، وأنّ الحضارة لا تتوقّف عند الأمس.

* لو تذكّروا، لما كانت حالتهم على ما هي عليه. مخيف هذا الوضع!

= مخيف جدًّا. أخشى أن يُضطرّ بعضنا إلى الهجرة إلى العامّيّة، أو إلى لغة غير العربيّة.

* مَن رسَخ لديه الاعتقاد أنّ لغته عويصة، وأنّ كلّ ما يخطّئه هؤلاء هو خطأ فعلًا، فليس من المستبعَد أن يهجر لغته.

= لغةٌ بلا متكلّمين بها، بلا كاتبين بها، بلا منجذبين إليها محبّين إيّاها... لغةٌ كهذه إنْ لم تجد مَن يهواها ليست بعيدةً عن الهاوية. لغةٌ يخافها أبناؤها لن يخافوا عليها. لن يتواصلوا معها ولا بها.

* وسيَسْخرون منها ويستخفّون ويتعالَون. بل هذا ما هو حاصلٌ فعلًا.

= سنخسر هذه اللغة إن بقينا محكومين لاستبدادِ بعض عشّاقها وسلفيّتهم. من السلَفيّة والاستبداد، لن نجني سوى الاستبعاد والابتعاد.

عبلين

حنّا نور الحاجّ

مدرّس للّغة العربيّة في بلدته الفلسطينيّة الجليليّة "عبلّين"، منذ العام 1988. حائز شهادة الماجستير في اللغة العربيّة وآدابها من جامعة حيفا.