الإصلاح وتبيئة المفاهيم في فكر الجابري (ملفّ)
15-10-2016

 

كان "تحيينُ"(1) قضايا الفكر العربيّ من ضمن اهتمامات الجابري، وذلك عن طريق تجديد التفكير فيها، والوقوفِ على سياقاتها الجديدة، وبناءِ تصوّراتها على أساس أسئلةٍ تختلف عن أسئلة الفترة التي جرت فيها عمليّةُ التفكير السابقة. عمليّة التحيين تُلزم الدارسَ بالتغيير كلّما تغيّرتْ معطياتُ الواقع؛ وما لم تُعتمدْ هذه الاستراتيجيّةُ فسيظلّ الحاضرُ غائبًا عن أفق الفكر، وتكونُ الهيمنةُ للماضي، ويصبحُ التقدّمُ مستحيلًا.

 

راهنيّة الإصلاح

ولأنّ الجابري كان صاحبَ مشروع، فقد فكّر في غير قضيّةٍ من قضايا الفكر العربيّ المعاصر: الهويّة، العروبة، الإسلام، الدولة، التسامح... وكان الإصلاح من بين ما حظي باهتمامه في محطّات مختلفة من مسيرته.(2)

ومسوِّغُ معالجة الجابري لقضيّة الإصلاح يرجع إلى أنّ الإصلاح ظلّ دومًا مطلبًا ملحًّا على جميع المستويات، ولذلك كان دائمَ الاقتران بالفكرة التي شغلت الفكرَ العربيّ منذ بداية القرن التاسع عشر، وهي فكرة النهضة. وإذا كان الإصلاح قد طُرح في مرحلة النهضة نتيجةً للوعي بالفارق بين الأنا والآخر على مستوى التقدّم، فإنّه اليوم يُطرح من جديد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهو الإصلاح الذي دعت الولاياتُ المتحدةُ الأنظمةَ العربيّةَ إلى تبنّيه، واتّخذ شكلَ مجموعةٍ من التدابير التي تمسّ التعليمَ والمؤسّساتِ الدينيّةَ والتشريعيّة. وهذا النوع من "الإصلاح الأمريكيّ،" بحسب الجابري، يقوم على تصوّرٍ سينتهي بإشعال حربٍ أهليّةٍ في المنطقة العربيّة.

 

إصلاح الإصلاح

في هذا الصدد يدعو الجابري إلى القيام بحفريّات أوّليّة تنصبّ على الإصلاح في مجالنا العربيّ الإسلاميّ؛ فـ"الإصلاح" لدينا في حاجة إلى إصلاح بسببِ ما علق بهذا المفهوم من دلالاتٍ تجعله مضادًّا لكلّ تجديد، استنادًا إلى فهمٍ سطحيّ لِما له علاقةٌ بـ"الإبداع،" الذي يجعله البعضُ مرادفًا لـ"الابتداع" بمعناه الدينيّ المغلوط. وهو ما يرفضه الجابري، مفضّلًا إبقاءَ الوضع على ما هو عليه. تضاف إلى ذلك ضرورةٌ أخرى من ضرورات "إصلاح الإصلاح" لأنّ الإصلاح اكتسب، في مجالنا التداوليّ العربيّ الإسلاميّ، طابعًا تشاؤميًّا بسبب تلك الأحاديث الدينيّة والآثار التي تجعل من المستقبل حيّزًا زمنيًّا أقلَّ إيجابيّةً من الماضي، وتُرسِّخ في الذهن مقولةَ "ليس في الإمكان أبدعُ ممّا كان."

الأمر يقوم على نوع من المفارقة. فالإصلاح في الغرب تأسّس بفعل عواملَ عدّة، من بينها الموروثُ العربيُّ الذي أدّى إلى ظهور تيّار فكريّ تجديديّ في أوروبا انطلاقًا من القرن 13، وساهم ــــ عبر الترجمة ــــ في تزويد حركة الإصلاح الدينيّ (القرن 16) ببعض الأفكار. هذه الإشارات التي يقف عندها الجابري لا تدخل في إطار إعادة كتابة التاريخ فحسب، بل هي كذلك إجراءٌ ذو طبيعةٍ تربويّة، هدفُه إعادةُ الثقة بالذات العربيّة والمساهمةُ نفسيًّا في تمكينها من تجاوز مأزقها الحضاريّ.

وعليه، وجب إقصاءُ "الإصلاح" بوصفه شعارًا لا غير، إذ في هذه الحالة لن يكون إلّا أداةً لتهدئة الأوضاع وتخديرِ الشعوب التي تتوق إلى التغيير. وفي المقابل، فإنّه تجب العنايةُ بالإصلاح بوصفه مفهومًا مركّبًا "من عدّة مفاهيم، لكلٍّ منها تاريخُه الخاصّ في كلٍّ من المرجعيتين العربيّة الإسلاميّة والأوروبيّة الحديثة. وبالتالي فاستيعاب مضمون فكرة الإصلاح يتطلّب التعرّفَ على تاريخ المفاهيم التي تعطيه مضمونَه الاجتماعيّ والسياسيّ والفكريّ"(3) ــــ وهي مفاهيمُ يوجزها الجابري، بالنسبة إلى أوروبا، في العلمانية والعقْد الاجتماعيّ وحقوق الإنسان.

 

مشاريع الإصلاح

عندما تقارَن تجاربُ الإصلاح في العالم العربيّ بتجارب الإصلاح في بعض جهات العالم الأخرى يتبيّن إلى أيّ حدّ كان الإصلاحُ عندنا متعثّرًا، بحيث يصعب أن نقدّم نموذجًا عربيًّا ناجحًا على غرار "إصلاحات ميجي" في اليابان.(4) ولأنّ مِن بين أولى دعوات الإصلاح في سياقنا العربيّ تلك التي نادى بها التيّارُ السلفيُّ المتمثّل في الأفغاني ومحمّد عبده، في مواجهة الأول للاستعمار، وفي تبنّي الثاني لأطروحة "المستبدّ العادل،" فإنّ إخضاعها للتمحيص من طرف الجابري انتهى به إلى أنّها غيرُ ذات مفعول على المدى البعيد، بل كثيرًا ما تكون نتائجُها سلبيّة.

أمّا التيّار الحداثيّ أو الليبيراليّ في الفكر العربيّ المعاصر فيتّخذ المرجعيّةَ الأوروبيّةً مصْدرًا لرؤاه، فتكون بذلك أشبهَ بالسلف الذي يقف في وجه "سلفٍ آخر." والجابري هنا يدعو إلى عدم الاكتفاء بنقل المفاهيم كما هي، من مجالٍ تداوليّ إلى آخر، بل يطالب بتبيئتها وإخضاعها لعمليّة تفكير شديد التركيب.

 

التبيئة اجتهاد

يُعتبر مفهومُ "التبيئة" من المفاهيم الأساسيّة في منظومة الجابري الفكريّة، وقد عمل على استحضاره في سياقات مختلفة، من بينها حديثُه عن الإصلاح. وتُعتبر التبيئة اجتهادًا فكريًّا يُلزم مَن يأخذ به عدمَ الاكتفاء بما قاله السابقون، أو بما أنتجه الآخرُ من أفكار جوابًا عن أسئلةٍ طُرحتْ في بيئته الخاصّة، بل جعل المفاهيم منسجمةً مع البيئة التي التحقتْ بها بعد انتقالها من بيئتها الأصل.

والتبيئة، بحسب الجابري، تتطلّب خطوتين: التعرّفَ عن كثب إلى تاريخ المفهوم الذي يراد نقلُه؛ والتفكيرَ في كيفيّة إعادة استنبات هذا المفهوم في المرجعيّة التي يراد نقلُه إليها. ويمكن في هذا الإطار الاستشهادُ بموقف الجابري من العَلمانيّة، إذ انتهى إلى أنها طُرحتْ في العالم العربيّ طرحًا مزيّفًا، بمعنى أنّها أريد منها أن تعبّر عن حاجاتٍ معيّنةٍ بمضامينَ غيرِ متطابقةٍ مع هذه الحاجات؛ والحلّ لتجاوز هذا الزيف، حسب الجابري، هو تعويضُها في سياقنا العربيّ بمفهومَي الديمقراطيّة والعقلانيّة.(5)

إنّ ضرورة التبيئة تنبع من كون الكثير من مفاهيم الحداثة لا تجد مرجعيّتَها في التراث العربيّ الإسلاميّ، هذا من دون أن ننفي أنّ بعض مضامين تراثنا يتقاطع مع مضامين المفاهيم الغربيّة. والحفر في أصول هذه المفاهيم، أو كتابةُ تاريخها، هما اللذان يسهّلان الاستفادةَ منها وجعلَها قابلةً للاندماج في سياق آخر، إذ "من دون كتابة تاريخها لا يمكن إدخالُها في تاريخ جديد."(6)

 

الإصلاح تحديث ولكنْ...

من خلال ما قدّمه الجابري من أفكار عن الإصلاح يتبيّن أنّ ما قصده من ذلك، بالدرجة الأولى، هو الالتحاقُ بركب الحداثة واستلهامُ مفاهيمها وإعادةُ التفكير فيها، مع أخذ البيئة العربيّة في الاعتبار. وتأكيدًا لذلك يأخذ مثالَ مَن(7) يدعو إلى اعتماد "فكر الأنوار" من أوروبا مباشرةً، من دون أيّة علاقة بتراثنا، فيراه أمرًا غيرَ منتِج وغيرَ معقول: فحين "يُطلب من العرب أن يستوعبوا الليبراليّةَ الأوروبيّة، فإنّ ذلك يعني أنّ عليهم أن يستعيدوا على صعيد وعيهم تراثًا أجنبيًّا عنهم، بموضوعاته وإشكاليّاته ولغته، وبالتالي لا يشكّل جزءًا من تاريخهم؛ هذا في حين أنّ الشعوب لا تستعيد في وعيها، ولا يمكن أن تستعيد، إلّا تراثَها أو ما يتصل به."(8)

ينطلق الجابري في معالجته لموضوعة الإصلاح، إذن، من أنّه لن يتحقّق إلّا من خلال "تطوير العقل العربيّ وتجديدِه، أو تكسيرِ بنية الفكر القديم من خلال استحضار هذا الفكر ذاته والعيشِ معه ونقدِه من الداخل،"(9) ومن خلال نقد فكر الآخر الأوروبيّ وتنسيبه وتمريرِه من مصفاة النقد (التبيئة). إنّ رفض هذا الفكر أو ذاك بشكل مسبّق لا مكان له في الإصلاح إلّا بعد ممارسة النقد، وإنّ الكلمة الأولى والأخيرة من أجل تحقيق الإصلاح تبقى للانفتاح والتفاعل والتفكير وإعادة التفكير... بالإضافة إلى توفّر الإرادة التي من دونها يتحوّل كلُّ شيء إلى هباء.

الدار البيضاء


 

1- دخلتْ لفظة الـتحيين "Actualisation" (المشتقّة من الحين) إلى العربيّة بفعل الترجمة من اللغات الأجنبيّة. وهي تعني جعلَ الشيء متوافقًا مع الشروط في الزمن الحاليّ الذي تجري فيه عمليّةُ التفكير.

2- انظر: المغرب المعاصر: الخصوصيّة، الهويّة، الحداثة والتنمية (الدار البيضاء: مؤسّسة بنشرة للطباعة والنشر، 1988)، وبخاصّةٍ الفصل الأول، ص 9-45؛ في نقد الحاجة إلى الإصلاح (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة)، 2005.

3- في نقد الحاجة إلى الإصلاح، ص 129.

4- محمد عابد الجابري، مواقف إضاءات وشهادات، العدد 22 (الدارالبيضاء: دار النشر المغربيّة)، 2003، ص 19.

5- نفسه، ص 86. طبعًا هنا قد يثار السؤال: هل مفهوم "الديمقراطيّة" أكثر "إسلاميّة" و"عروبةً" من العلمانيّة؟

6- نفسه، ص 111.

7- يقصد الجابري بذلك شبلي شميّل وسلامة موسى وعبد الله العروي وغيرهم وإنْ لم يذكرهم بالاسم.

8- نفسه، ص 115.

9- محمد عابد الجابري، مواقف إضاءات وشهادات، العدد 15 (الدارالبيضاء: دار النشر المغربيّة، 2003)، ص 107.

رشيد الإدريسي

 أستاذ بجامعة الحسن الثاني، الدارالبيضاء.دكتوراه في مناهج النقد الحديث. له أبحاث ودراسات في النقد الحدي، والسرد العربيّ. له مقالات عديدة عن الوضع اللغويّ والثقافيّ في المغرب والعالم العربيّ.