الباقة الزرقاء
09-07-2016

 

أوكتافيو باز

ترجمة محمد منصور

 

استيقظتُ مبلَّلًا بالعرق. تصاعد بخارٌ ساخنٌ من الطوب الأحمر، الخاصِّ بأرضيّة الغرفة المرشوشة بالماء منذ قليل. رفرفتْ فراشةٌ ذاتُ أجنحة رماديّة، تحوم مبهورةً حول الضوء الأصفر. قفزتُ من أرجوحة نومي الشبكيّة، وبقدمين حافيتين عبرتُ الغرفةَ محاذرًا ألاّ أدوس عقربًا قد تكون خارجةً من وكرها باحثةً عن قليل من الهواء المنعش. اقتربتُ من النافذة الصغيرة، وتنشّقتُ هواء الحقول. أنصتُّ إلى أنفاس الليل، أنثويّةً، مترامية. عدتُ إلى وسط الغرفة، ودلقتُ ماء الجرّة في الطشت المعدنيّ المصقول، وبلّلتُ المنشفة. فركتُ جذعي وساقيَّ بالفوطة المبللة، وتنشّفتُ قليلًا، وارتديتُ ملابسي بعد التأكّد من خلوّها من أيّة حشرات مختبئة في ثناياها. نزلتُ قافزًا الدرج الأخضر. عند الباب تعثّرتُ بصاحب النزل، وهو رجل كتومٌ أعور. كان يجلس على مقعد خيزراني واطئ، يدخّن، وبعين شبه مغلقة سألني بصوت مبحوح:

- إلى أين أنت ذاهب يا سيّد؟

- في جولة قصيرة، فالجوّ حارّ جدًّا.

- هممم...، كل شيء مقفل الآن، ولا إضاءة في الشوارع. من الأفضل لك البقاء هنا.

هززت كتفيْ متمتما: "سأعود بعد قليل" وولجتُ العتمة.

بدايةً، لم أتمكّن من رؤية أيّ شيء. سرتُ متحسّسًا حصى الطريق. أشعلتُ سيجارة. فجأةً، ومن قلب غيمةٍ سوداء، ظهر القمرُ ساطعًا، وناثرًا بقعةً بيضاءَ فوق جدار عتيق، بعضُ حجارته متآكلةٌ ومنهارة. توقفتُ وقد أعشاني ذلك الضوءُ ببياضه الباهر. هبَت نسمةٌ خفيفة. تنشقتُ رائحة التمرهندي. تماوج الليلُ مع الحشرات وأوراق الشجر. عسكرت الزيزانُ فوق الأعشاب المتطاولة. نظرتُ إلى السماء: هناك أيضًا نشرت النجومُ معسكراتها. فكرتُ أنّ الكون عبارة عن نظام من الإشارات، حوار بين ذوات هائلة. أفعالي، صرير الزيزان، ومضة النجم، كلُّها ليست إلّا استراحات قصيرة، مقاطعَ، جملًا متناثرةً من ذلك الحوار. فما هي الكلمة التي أنا مجرّد مقطع صوتيّ منها؟ من ينطق بتلك الكلمة؟ ولمن؟

قذفتُ سيجارتي على الرصيف، فرسمتْ قوسًا عابرةً من الضوء، وللحظة، أطلقتْ شراراتٍ كأنّها نيزكٌ مصغّر.

تابعتُ سيري ببطء لفترة طويلة. شعرتُ بأني طليق، آمنًا بين الشفتين اللتين كانتا تنطقانني  في تلك اللحظة بهذا القدر من السعادة.

كان الليل حديقةً من العيون. أثناء عبوري للشارع شعرتُ بأنّ أحدًا خرج من أحد الأبواب. التفتُ، لكنّني لم أر شيئًا. أسرعتُ الخطى. بعد لحظات سمعتُ خرفشة صندلٍ فوق الحصى الساخنة. لم اشأ الالتفاتَ، مع أنّني كنتُ مع كلّ خطوة أشعر بظلٍّ ما يقترب مني. خطر لي أن أركض. فلم أستطع. فجأةً، تسمّرتُ في مكاني. وقبل أن أتمكّن من الدفاع عن نفسي، شعرتُ بنصل سكينٍ يضغط على ظهري، وبصوتٍ عذبٍ يقول:

- لا تتحرّك، يا سيّد، وإلّا غرزتهُا فيك.

اوكتافيو باز Octavio Paz (1914-1998)

- ولد اوكاتفيو باز لوزانو في مدينة المكسيك و يعتبر من اهم شعراء الإسبانيّة في القرن العشرين.

نشر اولى مجموعاته الشعرية في السابعة عشرة من عمره، وحقّق شهرة واسعة مع إصدار المجموعة الثانية    "القمر المتوحش" وهو في التاسعة عشرة. درّس بين 1969 و 1974 في جامعتي كامبردج وهارفارد. من اعماله: متاهات العزلة (1950) وحجر الشمس (1957).نشرت اعماله الشعرية الكاملة بين 1994-2004. حاز جائزة ميغيل دي سرفينتس (1981) وجائزة نوبل (1990).

من دون أن ألتفت سألتُ:

- ماذا تريد؟

- عينيك، سيدي! أجاب الصوتُ الناعم، وفيه رنّةُ اعتذار.

- عينيّ ؟ لماذا تريد عينيّ؟ انظرْ، لديّ بعض المال، ليس بالمبلغ الكبير، لكنه مبلغ. سأعطيك كلَّ ما لديّ إذا تركتني. لا تقتلني.

- لا تخف يا سيدي. لن اقتلك. سوف لن آخذ أكثر من عينيك.

- لكنْ لماذا تريد عينيّ؟

- انها رغبةُ حبيبتي. فهي تريد باقةً من العيون الزرق. وفي هذا المكان يندر وجودُ هذه العيون.

- عيناي لن تنفعاك. فهما ليستا زرقاوين، بل عسليتان.

- لا تحاول خداعي، يا سيد. انا متأكّد أنهما زرقاوان.

- لا تقتلع عينيْ أخ مسيحيّ مثلك. سأعطيك شيئًا آخر.

- لا تلعب معي على وتر الايمان- قال بقسوة. أرني وجهك.

استدرتُ نحوه. كان نحيلًا هشًّا. تغطي نصفَ وجهه قبّعةٌ مصنوعةٌ من سعف النخيل. كان يحمل في يده اليمنى سكينُ حقلٍ، تلتمع تحت ضوء القمر.

- أرني وجهك.

أشعلتُ عودَ ثقاب وقرّبتُه من محيّاي. أجبرني وهج اللهب على زمّ جفنيَّ. باعد جفنيَّ بيدٍ حازمة. لم يتمكّن من الرؤية جيدًا. تمطى على رؤوس اصابع قدميه، وبتركيز شديد حدّق في وجهي. أحرق عودُ الثقاب أصابعي. قذفته بعيدًا. مرّت لحظاتٌ من الصمت.

- هل اقتنعتَ الآن؟ عيناي ليستا زرقاوين.

- آه... ما أذكاك- اجابني. لنر. هيّا أشعلْ عودًا آخر.

أشعلتُ عود ثقاب آخر وقرّبتُه من عينيّ. شدّني من كمّي وأمرني:

- اركعْ!

ركعتُ. أمسكني من شعري بيده اليسرى ودفع برأسي الى الخلف. انحنى فوقي محدّقًا بعصبيّة، مقرّبًا  السكين من وجهي حتى لامستْ جفنيّ. أغمضتُ عينيّ.

- إفتحهما جيدًا، أمرني.

فتحت عينيّ. أصلى اللهب رموشي. فجأةً، تركني.

- اذن، ليستا بزرقاوين، سيدي. اذهبْ.

اختفى. استندتُ إلى الجدار، ورأسي بين يديّ. استجمعتُ قواي. بعد تعثري، وسقوطي ثم نهوضي، ركضتُ لمدة ساعة في شوارع البلدة المقفرة. عندما بلغتُ الساحة، رأيتُ صاحب النزل ما يزال جالسًا أمام الباب. دخلت من دون أن أتفوّه بكلمة.

في اليوم التالي غادرتُ البلدة.

محمد منصور

كاتب ومترجم فلسطينيّ، يقيم في لبنان.