التحريض الطائفي في إعلام ما بعد "الربيع العربي"
31-05-2019

 

في التقرير السنويّ الذي أعدّته اللجنةُ العليا للتنسيق بين القنوات العربيّة، الصادرِ سنة 2014،[1] تبيّنَ أنّ القنوات الفضائيّة الدينيّة تحتلّ المركزَ الخامس من مجموع القنوات الفضائيّة العربيّة، وعددُها حوالي 1400.

بيْد أنّ المسألة ليست محضَ استثمار سياسيّ وإيديولوجيّ وثقافيّ؛ فعلى أثر زلزال "الربيع العربيّ" بشكلٍ خاصّ، بات لهذا القطاع بعدٌ اقتصاديٌّ ضخمٌ أيضًا، نظرًا إلى ما يحقّقه من عائداتٍ وما يتلقّاه من تمويلٍ ودعم. فحجمُ الاستثمار الاقتصاديّ في قطاع القنوات الفضائيّة الدينيّة اليوم يقدَّر بحوالي 6 مليارات دولار، مصدرُ أغلبِها الدولُ الدينيّةُ الأربع الأهمّ في المنطقة: المملكة العربيّة السعوديّة، والإمارات العربيّة المتحدة، وقطر، وإيران.[2]

هذه المحطّات التلفزيونيّة والفضائيّة الدينيّة تتخصّص بالوعظ والإرشاد وتوجيهِ شؤون المؤمنين في كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من حياتهم اليوميّة، مُعفيًا إيّاهم من إعمالِ العقل والتفكير الحرّ. لكنْ، إلى جانب هذه الوصاية البطريركيّة على عقول المشاهدين المؤمنين، ثمّة تجييشٌ وتحريضٌ مذهبيّان، يمضيان جنبًا إلى جنب مع تلبية مصالح الجهات المموِّلة والدول الداعمة، وبلغا ذروتَهما بعد "الربيع العربيّ."

وعلى الأثر، ازدهرتْ مجموعةٌ من الدعاة الدينيين يتقنون التقديمَ التلفزيونيّ، ولغةَ الإعلام، ومختلفَ أنواع الأعمال الاستعراضيّة والدعائيّة، تمامًا كنجوم السينما؛ بل هم ينافسون هؤلاء في معدلات "تريند" المشاهدات وأعداد المتابعين (followers) على مواقع التواصل الاجتماعيّ. وهم، عبر سيلٍ من الفتاوى والأحكام الاعتباطيّة (عن التلصّص والإرضاع والآثار والكرسيّ مثلًا!)[3] يكدِّسون الثروات، ويحقّقون مداخيلَ خرافيّةً جديرةً بأولئك النجوم.

في هذا السياق، قدّرتْ مجلّةُ فوربس الأمريكيّة مجملَ ثروة الداعية المصريّ الشهير عمرو خالد بحوالي 52 مليون دولار، وكان قد حقّق رقمًا قياسيًّا في مداخيله الإعلاميّة للعام 2008 (2،5 مليون دولار). وإلى جانبه أسماءٌ لامعةٌ أخرى، أمثال الداعية الكويتيّ طارق سويدان، بدخلٍ سنويّ يُقدَّر وسطيًّا بمليون دولار؛ والداعية السعوديّ عائض القرني بـ 533 ألف دولار؛ والداعية المصريّ عمر عبد الكافي بـ 373 ألف دولار؛ والداعية السعوديّ سلمان العودة بدخل سنوي يُقدّر بـ 267 ألف دولار.[4] وهم يعيشون في أرقى الفنادق، مع أساطيل السيّارات الفارهة، وكلّ ما تتطلّبه حياةُ النجوميّة من متطلّبات. فعمرو خالد خضع لعمليّات تجميل؛ ومنذ فترة ليست بالبعيدة كان الداعية المصريّ مصطفى حسني قد أثار أزمةً عبر إطلالته بتيشيرت ماركة Philipp Plein يصل ثمنُها في مصر إلى حوالي 20 ألف جينيه.

 

قدّرتْ فوربس ثروة عمرو خالد بـ 52 مليون دولار

 

الشارع الدينيّ الشيعيّ أيضًا له "نجومُه." فهناك أسماء معروفة جيّدًا في إيران تعمل على النمط  نفسه، مثل: محمد تقي مصباح يزدي (الذي قَدّرتْ فوربس ثروتَه بحوالي 50 مليون دولار)، وواعظ العبسي، وأسماء أخرى مشابهة، خصوصًا في العراق.

السبُّ العلنيّ، واللعنُ المتبادل، والتجييشُ الصريح والغرائزيّ، من العلامات الثابتة اليوم في القنوات الدينيّة، وبخاصّةٍ تلك التي تلعب على أوتار الانقسام الشيعيّ - السنّيّ في المنطقة. واللافت أنّ القنوات الأهمّ التي تؤدّي دورَ"الطليعة المقاتلة" من الطرفيْن، وتضخّ الخطابَ الأكثرَ تطرّفًا وعدوانيّة، لا تبثّ من الوطن العربيّ، بل تكاد تكون متجاورةً في العواصم الغربيّة، لا تفصل بينها إلّا بضعةُ شوارع.

 

من لندن (حيث ياسر الحبيب) تُسبّ عائشة

 

فمن لندن تُرسم خرائطُ الكره واللهيب والقتل والتفجير بين الأعظميّة والكاظمية في العراق، وتُسَبُّ عائشة، ليَحصدَ حيُّ الكرادة في بغداد الدماءَ! وعبر مصطلحات ضارية جاهزة، نجد لدى كلّ منبرٍ إعلاميّ ترسانةً تحريضيّةً كاملةً، مخصّصةً ومجهّزةً للتعبئة والحقد وإذكاء أبشع أنواع العنف. فقنوات مثل الأنوار (قناة شيعيّة متطرّفة مقرُّها بغداد، وقد مُنعتْ من البثّ غيرَ مرّةٍ بسبب خطابها التحريضيّ والطائفيّ)، وأهل البيت (قناة شيعيّة أخرى متطرّفة، مقرُّها في كاليفورنيا، حيث يقيم مؤسِّسُ القناة ومذيعُها الشهير الحسين اللهياري)، تتناول مهمّةَ القضاء على "الناصبيّة" بوصفها مهمّةً مقدّسةً، وذلك عبر بثّ تلفزيونيّ مستمرّ على مدار 24 ساعة. وفي المقابل، فإنّ أشباه وصال وصفا تبيح دمَ "الروافض،" داعيةً إلى قتلهم وتهجيرهم، باعتبار ذلك من أعظم درجات "الجهاد."

كلا النمطين وجهان لعملةٍ واحدة. قنوات تلفزيونيّة مهووسة، يقودها ويديرها متعصّبون يكاد يُشَكُّ في صحّتهم العقليّة والنفسيّة، أمثال ياسر الحبيب وحسن اللهياري من جهة، ومحمد الزغبي ومحمد صابر من جهةٍ أخرى. معاركُ ناريّة، وخُطبٌ ملتهبة، وبكاءٌ على الهواء، وأشعارٌ حماسيّة، وألفاظٌ نابية. هؤلاء هم "قادةُ الرأي" في عالم الأصوليّة العربيّة، ونجومُ حيّزٍ ضخمٍ من فضاء الإعلام العربيّ الحديث: إعلامِ ما بعد "الربيع العربيّ."

سوريا

 

[3] فمثلًا، أفتى الداعيةُ المصريّ أسامة القوصي بجواز "تلصّص" الشابّ على خطيبته خلال استحمامها ليشاهدَ منها ما تمْكن رؤيتُه كي يبتَّ بأمر زواجه منها. وأفتى الدكتور عزّت عطيّة بحقّ المرأة العاملة في إرضاع زميلها في العمل، منعًا للخلوة المحرّمة؛ إذ قال إنّه إذا كان وجودُ الاثنيْن في غرفة مُغلقة، وكان ذلك من مقتضيات ظروف العمل، فعليها أن تقومَ بإرضاعه خمسَ رضعات تبيح لهما الخلوةَ ولا تحرِّم الزواج، مع حقّ المرأة في خلع حجابها أمام مَن أرضعته وتوثيق هذا الإرضاع رسميًّا. ومن الفتاوى المثيرة إباحةُ الشيخ مرجان الجوهري تدميرَ الأهرامات والمعابد الأثريّة لأنّها أصنامٌ وتماثيلُ من زمن الجاهليّة، مضيفًا خلال لقاء له على إحدى الفضائيّات المصريّة أنّه هو الذي حطّم تمثالَ بوذا في أفغانستان خلال وجوده مع أعضاء تنظيم القاعدة هناك. 

يزن زريق

كاتب سياسيّ سوريّ.