التنافس بين القاهرة وأنقرة على النفوذ في شرق المتوسط
15-10-2015

نهار الخميس الواقع فيه 6 أغسطس 2015، افتتح الرئيسُ المصريّ عبد الفتاح السيسي قناةَ السويس الجديدة، معلنًا عن أمله في أن تساعد هذه القناة في تدعيم الاقتصاد المصريّ. وقد شبّه الإعلامُ المصري خطوةَ السيسي بتأميم الرئيس المصريّ الراحل جمال عبد الناصر لقناة السويس في العام 1956.

 والحقّ أنّ لهذا التشبيه دلالاتٍ عميقة. فإذا كان تأميمُ العام 1956 قد حوّل مصر إلى قوة إقليميّة عظمى في الشرق الأوسط حتى سبعينيّات القرن الماضي، فهذا يحملنا على الاستنتاج أنّ للقيادة الحاليّة نيّةَ تفعيل الدور المصريّ الرياديّ في المنطقة، ولاسيّما بعد تآكل النفوذ المصريّ في العقود الأربعة الماضية، وخصوصًا في العام 2012 مع وصول الإسلاميّ محمد مرسي إلى سدّة الرئاسة في مصر، وعزمِه على إدخال مصر في دائرة النفوذ التركيّ تحت ما تمْكن تسميتُه "العثمانية الجديدة."

وإذا كانت سياسةُ مرسي قد أعادت إلى ذاكرة بعض المصريين العصورَ العثمانيّة المظلمة، فإنّ إعلان السيسي يعكس وعيًا بعنصر مهمّ من عناصر الأمن القومي: السيطرة على خطّ التجارة بين شرق المتوسط والمحيط الهنديّ عبر البحر الأحمر. فمنذ فجر التاريخ، عزّز ازدهارُ هذا الخط دورَ مصر الإقليميّ، وبقيت الحال كذلك حتى بداية القرن السادس عشر، حين نجح البرتغاليون في تحويل طرق التجارة في المحيط الهنديّ من البحر الأحمر والجزيرة العربية باتجاه رأس الرجاء الصالح. وهذا ما دفع بدور مصر إلى التراجع، قبل سقوطها تحت الاحتلال العثمانيّ في العام 1517.

الحكم العثمانيّ

لثلاثة قرون متتالية وقعتْ مصرُ تحت الحكم العثمانيّ. ويعزو معظمُ المؤرّخين إلى نابوليون بونابارت إخراجَ مصر من عزلتها، لكنّ واقع الأمر هو أنّ هذه العزلة كُسرتْ قبل ذلك التاريخ بأربعة قرون، وذلك حين قام حاكمُ مصر، علي بيك الكبير، بالاتصال بالروس الذين كانوا قد انتصروا على العثمانيين في حرب القرم (1768-1774)، فكسروا الهيمنة العثمانيّة عليه، وضمّوا  شبهَ جزيرة القرم.

مع نهاية القرن الثامن عشر أصبح ضعفُ الدولة العثمانيّة جليًّا. وهذا ما شجّع نابوليون على احتلال مصر، تمهيدًا لحملة يصل بها إلى الهند لكسر الهيمنة البريطانية عليها. لكنّ طموحه توقّف على اعتاب مدينة عكا، التي فشل في السيطرة عليها. وقد تلت ذلك حملةٌ عثمانيّةٌ لإعادة مصر إلى أحضان الباب العالي، وكان محمد علي باشا (الألبانيّ) أحدَ قادة هذه الحملة، فصارع حتى العام 1811 من أجل التخلص من المماليك، واستطاع أن يتفرّد بحكم مصر ويبدأ بتحديثها وفقًا للنموذج الفرنسيّ.

في العام 1829 استقلّت اليونان عن الدولة العثمانيّة، وهو ما اعتُبر مؤشّرًا إضافيًّا على أنّ الدولة العليّة لم تعد مهيمنةً على شرق المتوسط، ومنح مصرَ الفرصةَ لكي تتفلّت من الهيمنة العثمانيّة. فقامت قوات محمد علي باشا بالسيطرة على بلاد الشام وبرّ الأناضول. لكنْ في العام 1840 تدخّلت القوى العظمى بقيادة بريطانيا، فأجبرتْ محمّد علي على التخلّي عن المكتسبات التي حققها في بلاد الشام، وعلى أن يحصر حكمه في مصر.

كان فشل تجربة محمّد علي ناجمًا عن اصطدام مشروعه بالقوة الأوروبيّة الصاعدة الحريصة على موقع مصر من أجل مواصلاتها البحريّة. وكانت سيطرة بريطانيا على مصر في العام 1882 هي اللحظة التي أطلقتْ فيها بريطانيا مشروعَ هيمنتها الإمبراطورية التي دامت سبعة عقود متتالية.

  مصر عبد الناصر

بقيتْ مصر تحت الهيمنة البريطانيّة حتى العام 1952. لكنّ بوادر الضعف البريطانيّ تجلّت خلال الحرب العالميّة الثانية حين فشلتْ في وقف تمدّد نفوذ ألمانيا النازيّة، فاضطرّت إلى الاستعانة بالولايات المتحدة والاتحاد السوفياتيّ. وبعد الحرب لم تتمكّن بريطانيا من مساعدة حليفتها اليونان في وجه الثورة التي قادها الشيوعيون، فطلبت التدخلَ الأميركيّ، فبان عجزُها عن إبقاء هيمنتها على شرق المتوسط.

هذا العجز البريطانيّ أتاح لمصر فرصة محاولة الانطلاق بمشروعها الإقليميّ المستقلّ، هذه المرة بقيادة جمال عبد الناصر. وقد كان تأميمُ قناة السويس في العام 1956، وصمودُ مصر أمام العدوان الثلاثيّ (الفرنسيّ ـ البريطانيّ ـ الإسرائيليّ) الذي أعقبه، هما اللذان أطلقا هذا المشروع الذي صمد رغم التحدّيات نحو عقدين تاليين ــ  أيْ إلى أن قام خليفة عبد الناصر، أنور السادات، بقبول الهيمنة الأميركيّة خصوصًا بعد العام 1974. مرةً أخرى اصطدم المشروعُ المصريّ المستقلّ بصعود قوة عالميّة أخرى، هذه المرة الولايات المتحدة.

 ربيع مصر

مع حلول الألفيّة الجديدة، وضع الأميركيون خطّةً لمنع أوراسيا (المكوّنة من الصين وروسيا وإيران) من الوصول إلى طرق المواصلات البحريّة، وخصوصًا شرق البحر المتوسّط. وكان هذا من الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى اجتياح افغانستان والعراق من أجل تأمين هيمنتها على الشرق الأوسط ـــ عقدةِ المواصلات العالميّة منذ فجر التاريخ.

وصل المشروعُ الأميركيّ في المنطقة إلى الذروة في العام 2006 مع العدوان الإسرائيليّ على لبنان بهدف القضاء على المقاومة الإسلاميّة. لكنّ العدوان فشل، ولم تنجح السعودية ومصر في منع ما يعتبره الأميركيون تمدّدَ النفوذ الإيرانيّ في المنطقة. لذلك سعت واشنطن إلى إعطاء تركيا دورًا في المنطقة، ودعمتْ وصولَ الإخوان المسلمين إلى السلطة بهدف إقامة مثلّث من ثلاث عواصم سنّيّة، هي أنقرة والرياض والقاهرة، لمنع ايران من الوصول الى شرق المتوسط. لكن بقيت مشكلة سوريا، التي رفضتْ قطع علاقاتها مع ايران ومع الروس.

يُرجَّح أن تكون اليدُ الطولى في منطقة شرق المتوسّط، وتحديدًا في بلاد الشام... لمصر لا لتركيا.

شكّل "الربيعُ العربيّ" الذي اندلع في مصر وتونس وغيرها من البلدان العربيّة فرصة للإخوان المسلمين كي يصلوا إلى السلطة في مصر بعد انتخاب مرسي رئيسًا في العام 2012. غير أنّ حكم الإخوان لم يدم أكثر من عام نتيجةً لاصطدامهم بقطاعات واسعة من المجتمع المصريّ. لكنْ كان من أخطر العوامل التي أدّت إلى رفض هذه القطاعات لحكمهم هو قبولهم بأن يدخلوا في كنف تركيا التي يحْكمها حزبُ العدالة والتنمية الإسلاميّ منذ العام 2002؛ فلم يكن المصريون الذين ناضلوا طويلًا لينالوا استقلالهم مستعدّين لأن يضحّوا بهذا الاستقلال من أجل إقامة أمّة الخلافة. وقد أدى هذا إلى وصول وزير الدفاع عبد الفّتاح السيسي إلى سدّة الرئاسة، فاتحًا عهدًا جديدًا في السياسة المصرية.

لمن الغلبة؟

كان صعودُ نجم السيسي إلى سدّة الرئاسة، في جزء منه، ردًّا على التحدّيات التي واجهها الأمنُ القوميُّ المصريّ، أكان ذلك في السودان أو ليبيا أو اليمن أو بلاد الشام. ويبدو أنّ مصر ستستفيد من التحوّلات الدوليّة، ومن صعود أوراسيا وكسرِها للهيمنة الأميركيّة على شرق المتوسط، ما يتيح لمصر مجالًا أكبر للتفلّت من الهيمنة الأميركية التي فُرضتْ عليها بعد السادات ومرسي. كذلك فإنّ مصر ستستفيد من انتقال مركز الثقل في الاقتصاد العالميّ من المحيط الأطلسيّ إلى المحيط الهنديّ. هذا ما يفسّر سعيَ السيسي إلى افتتاح قناة سويس جديدة. وفي المقابل تواجه تركيا صعوباتٍ في الوصول بحريّةٍ إلى منطقة وسطِ آسيا، نتيجةً لعرقلة روسيا وايران؛ علمًا أنّ ازدهار منطقة الأناضول يَعتمد منذ القدم على هذه العلاقة بوسط آسيا. لذلك يُرجَّح أن تكون اليدُ الطولى في منطقة شرق المتوسّط، وتحديدًا في بلاد الشام، بما فيها فلسطين ولبنان وسوريا وحتى الأردن، لمصر لا لتركيا.

ففي فلسطين تدعم تركيا حركةَ حماس في غزّة، في حين ترتبط السلطةُ الفلسطينيّةُ بعلاقات قويّة بكلّ من مصر والسعوديّة. وفي لبنان نرى أنّ الجمهور الأكبر من الطائفة السنّيّة يميل إلى السعودية ومصر، لا إلى تركيا. وأما في سوريا فنجد تركيا تدعم جماعاتٍ مسلّحةً ضدّ النظام السوريّ، في حين أنّ وسائل الإعلام نَقلتْ أكثر من مرة خبرَ إرسال السيسي موفدين إلى الرئيس الأسد تعبيرًا عن دعمه له ضد تلك الجماعات.

بيروت

جمال واكيم

أستاذ التاريخ والعلاقات الدوليّة في الجامعة اللبنانيّة. من كتبه: صراع القوى الكبرى على سوريا، السياسة الخارجيّة التركيّة، سوريا ومفاوضات السلام في الشرق الأوسط.