الثائر الذي لم يفقد ظلّه (ملفّ)
26-01-2017

 

 

بعضُ الشخصيّات يكون لها من التميّز ما يؤهّلها لأن ترسم انطباعًا في الذهن من لقاء اللحظة الأولى، ثم لا تغيب بعد ذلك مهما تأخّر اللقاء التالي. جورج حبش، "حكيمُ" الثورة الفلسطينيّة، والعربيّة أساسًا، من أبرز هذه الشخصيّات المؤثّرة التي تبقى في الذاكرة، كما دخلتْ فيها، قولًا وسلوكًا، واجتذابًا للقلب والفكر معًا، وبالقوّة نفسها، وبشكل يندر الاختلافُ عليه، حتى إنْ وُجد خلافٌ على ما أسّسه من فكر، وما قاد إليه بعد ذلك من ممارسةٍ ثوريّة.

عرفتُ جورج حبش مبكّرًا، شابًّا تخرّجَ طبيبًا من الجامعة الأمريكيّة في بيروت. وكنّا نسعى، كباحثين عن المعرفة والفكر والسياسة والحلم، إلى مقاومة استعمارٍ من نوعٍ جديد؛ استعمارٍ عبّر عن نفسه بأحلافٍ تمنحه مزيدًا من السيطرة على مقدّرات الأجزاء، التي سبق أن قسّم الوطنَ العربيَّ الواحدَ إليها، وخَلق بينها صراعًا حتى لا توحّد قواها وإمكانيّاتِها في مواجهته. وكانت الصهيونية، في تلك الفترة، قد حقّقت الجزءَ الأوّلَ من حلمها في فلسطين، وأخذتْ تخطّط لما هو قادم، فصارت المجازرُ تتوالى، وردودُ الناس لا تجد لها متنفَّسًا إلّا الغضب.

كان صوت جورج حبش، وهو يحاضر في نادٍ قوميّ قديم، يمنح الشبابَ المتطلّعَ إلى غدٍ أفضل، كثيرًا من القوّة والتفاؤل. لم يكن صوتًا خطابيًّا يصرخ، كما عهِد الشبابُ من الواعدين كذبًا، بل كان صوتًا عميقًا وهادئًا وواثقًا، ينبع من القلب، فيُنبت في القلوب حالةً مختلفةً، ربّما كانت الشتلاتِ الأولى التي تحوّلتْ إلى أشجار عملاقة، لا تسمح لليأس بأن يجد له موقعًا، مهما قست الظروف.

كان جورج حبش، في ذلك الزمن من أواسط خمسينيّات القرن الماضي، يبشّر برابطة قوميّة، غير جديدة بالكامل على الفكر العربيّ المعاصر، ولكنها تحمل صفتين أساسيّتين لا يكون تأثيرُهما عابرًا: صفةَ القائد الذي يضحّي بكلّ شيء من أجل وطنه، رغم فرصته في أن يعيش حياةً خاصّةً يمكن أن يُحْسدَ عليها؛ وصفةَ "الرفيق" الذي يسعى إلى إعداده كي لا يكون ثائرًا فحسب، وإنّما أيضًا صورةً من ذلك الثائر الذي تميّزه الأخلاقُ خلال سلوكه الثوريّ.

خلال سنوات، كان جورج حبش، ومَن معه، قد أكّدوا وجودًا فاعلًا لـ"حركة القوميين العرب،" جزءًا أساسيًّا من الحركة القوميّة (مع وجود تجارب أسبق). واصطدمتْ هذه الحركة، طبعًا، بالأنظمة التي تحكم على الناس بالصمت. كما اصطدمتْ بكثير من التوجّهات المنافسة، أو المعادية، خصوصًا أنّها نشأتْ علمانيّةً وتدعو إلى الوحدة والتحرّر والثأر ممّن انتهكوا سيادةَ الأمة. لكنّ مَداخلها إلى المنافَسة، كما تعيها ذاكرتي، ظلّت محتفظةً بما رسمه مؤسِّسُها من أخلاق. وإذا كانت هناك أحزاب تحرّكتْ ضدّ منافسيها إلى درجة العداء، وربّما التعاون مع السلطات العربيّة في بعض الأحيان، فإنّ قيادة جورج حبش، بكلّ ثقلها، كانت بعيدةً عن التنافس غير الشريف، ولا سيّما عندما يتعلّق الأمرُ بجهاتٍ تشترك وإيّاها في كثير من الأهداف التي تخصّ الوطن.

هذا السلوك، الذي يَعتبر الثورةَ أخلاقًا، جعل من رفاق جورج حبش ملتصقين حول أفكارهم، حتى وهي تتميّز بالمرونة، وتتغيّر كمحصّلةٍ للنقد الذاتيّ والتحوّلاتِ المحيطة، وتأثّرًا، وتأثيرًا أيضًا، بما استجدّ من أحداثٍ، دفعتْ جزءًا من "حركة القوميين العرب" إلى تجديدٍ جذريّ في نوعيّة الكفاح، وإلى تغيير في المسمّى أيضا، ليصبح "الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين." وهذه الجبهة ساهمتْ بقسط كبير في الكفاح المسلح، بل في تعزيز الفكر العربي المعاصر أيضًا، تماشيًا مع الأفكار الحداثيّة التي كانت تتوالد بحريّة شاملة في عالم ما بعد الحربين.

جورج حبش، خلال هذه المسيرة التي استمرّت عقودًا، أصبح شخصيّة وطنيّة قوميّة مرموقة، ويحظى باحترامٍ كبير من قادة حركات التحرّر في العالم، وباعتراف غير محدود من العالم كلّه. ولم يكن هذا الاحترام قاصرًا على مَن يحبونه، وإنّما شمل كذلك مَن ينافسونه، بل من يعادونه أيضًا، وذلك لسبب بسيط: هو أنّه حافظ على مبادئ الخطّ الذي انتهجه؛ الخطِّ الذي يَعتبر الخلُق جزءًا من السلوك الثوريّ، ويؤمن بالتضحية الذاتيّة لصالح القضيّة العامّة، ويَحسب خطواته قبل أن يضع قدميه. ولذلك استحقّ، بكل جدارة وعفويّة، لقب "حكيم الثورة" الذي توافق عليه الجميع.

ربما بسبب ظروف عملي، التي لم تتح لي أن أكون حيث كانت القياداتُ الفلسطينيّة، لا أستطيع أن أزعم أنني كنت قريبًا من جورج حبش، ولو بالقدر الذي كنت قريبا فيه من قيادات أخرى، قد لا ألتقي معها ــ في الموقف ــ بقدر ما ألتقي مع الحكيم. لكنّ محصّلة ما يمكن أن أشير إليه من دون تردّد هي: بعد سنوات طويلة من استماعي الأول إلى جورج حبش الشابّ، وهو يحاضر ويؤسِّس، عدتُ وتعرّفتُ إليه كهلًا، وصاحبَ تجربة ثريّة، وقيادة لا نزاع حولها، وحكمة لا تخفى، فوجدتُ أنّه لم يفقد شيئًا من ظلّه، وأنّ صورة الانطباع الأول، التي ظلت حيّةً في الذاكرة، لم تتغير؛ فقد بقي محافظًا ــ في القلب وفي الفكر ــ على ذلك الشاب: كان يفيض ثقةً وتفاؤلًا، وإيمانًا بالمستقبل، ولم يتسلّل اليأسُ إلى قلبه تجاه الحقّ الذي رآه وسعى إلى الوصول إليه، ولم يسلّم زمامَ أموره قطّ لمن كان همه أن يواجههم، كما فعل آخرون. 

فلسطين

وليد أبو بكر

روائيّ وناقد ومترجم يعيش في رام الله. عمل أكثر من نصف قرن في الصحافة الثقافيّة العربيّة، من محرّر ثقافيّ حتّى رئيس تحرير. عضو الأمانة العامّة للاتّحاد العام للأدباء والكتّاب الفلسطينيين. أصدر حتّى الآن 20 كتابًا بين الرواية والمسرح والنقد، و 22 كتابًا مترجمًا في مختلف ألوان المعرفة.