الجثث تحت الأسرَّة
31-07-2016

هو وهي كان لهما اسمان، لكنّهما سقطا منهما سهوًا أو إهمالًا، أو لأنّهما يبسا كأوراق الجوز، وتهاويا إلى التراب.

تجلس "هي" برفقته في الكافيتريا.

كان "هو" من أفضلِ الذين التقتْهم في هذه المدينة. ودائمًا ما تنظر نحو عينيه المشرقتين، فتبتسم باحثةً بدهشةٍ عن سرّ الطمأنينة التي تحيطها كلّما التقتْه. لم تشعر أنّه يطلبها إلى الفراش كما فعل كلُّ الرجال الذين التقتهم، منذ أن هربتْ من الحرب التي أكلتْ ملامحَ مدينتها وناسها وأشجارها، وما زالت تتحسّس في سقف حلقها ذلك الطعمَ الغريبَ الباردَ لذرّات الغبار الإسمنتيّ بعد سقوط البراميل والقذائف على البناء الذي كانت تسكنه مع والديها وإخوتها. كلُّ ما تتذكّره هو خروجُها من بين الأنقاض، دَهِشةً لهذا الغبار الذي التصق بجلدها وشرايينها وحلقها. ظلّت تركض مع مَن ركض من الأهالي، ثمّ غابت عن الوعي، لتستيقظ في ملجأ معتم وغريب. كانت تقرأ الوجوهَ حولها برعب، أحداقُهم ثابتة وتلمع في الظلام كقطعٍ مهشّمةٍ من زجاجٍ لمّاع .

بعد أيّام، بدأتْ تخرج من دهشة الجنون التي تلبّستها منذ إحضارها إلى الملجأ. وستدرك على مهلٍ، وهي تهجّ مع الأهالي نحو مدينةٍ أكثر أمنًا، أنّ ما حدث أكبرُ من أن يتحمّله عقلُها. والحقيقة الوحيدة التي تعيشها الآن هي شعورُها بأنّها رخيصة، وبأنّ كلَّ شيءٍ غالٍ إلّا روحها. ولو تستطيع لبادلَتْها بنومٍ آمنٍ لليلةٍ واحدة!

"هي" الآن تعيش في غرفةٍ تابعةٍ للديْر الصغير الذي بناه رجالُ قدامى، ما زال بعضُ أحفادهم يديرونه بإيمانٍ شرقيّ قاسٍ. وتتدبّر أمرَ معيشتها ممّا يقدّمه رجالُ الصليب والهلال الأحمرَيْن، وبعضُ المثقّفين الذين يُبدون تعاطفًا هشًّا مع ضحايا هذه الحرب وتلمع عيونُهم بشبقٍ دبقٍ يلتصق بكلماتهم، فتهرب إلى سريرها وحيدةً، وتهوي في ظلمة ذاكرتها القريبة، حيث الجثثُ والجنون.

كان "هو" الوحيد الذي يساعدها على كسر الخوف في أعماقها؛ ذلك الخوف الذي يشبهُ فجوةً مظلمةً وسحيقةً كانت تشعرُ أنّها ستنزلق إليها كلَّ لحظة. إنّه يقاربها عمرًا، ويعمل في فرن المدينة ليلًا. يقول لها إنّه لا يستطيع العيشَ من دون أن يضحك، لأنّ كلّ ما عرفه، منذ كان طفلًا، أنّ البشر يجهدون كالمجانين كي يكافحوا رغبتهم في الضحك!

"كل شيء مضحكٌ حقًّا. كيف تفّسرين هذا الجنون سوى بالضحك؟"

ترنُّ كلماتُه في روحها، فتشعرُ أنّها تقف برفقته على أرضٍ صلبةٍ بعيدة عن الفجوات المظلمة.

قال لها إنّه سيغادرُ لخمسِ دقائق كي يشتري تبغًا.

ضحكت وقالت ممازحةً: "أخشى ألّا تعود..."

ضحك وقال: "السبب؟"

تلك اللحظة، سمعتْ كلمةً مقعّرةً ترنّ في صدرها، لكنَّها لم تقُلها له: الحرب!

ابتسمتْ وقالت:

ــــ في الحقيقة، لا أقوى على دفع الفاتورة في هذا المكان الراقي!

نهض ضاحكًا. ثمّ غادر وهو يقول: "دقائق... الدكّان على الرصيف المقابل. لن أتأخّر."

ما إنْ داس على الرصيف حتّى صدمتهُ سيّارةٌ مبرقعةٌ يقودها جنديّ مخمور. طوّحتِ السيّارةُ بجسده ليسقطَ في شرفة الطابق الثاني.

كانت الشرفة لامرأةٍ تعيش وحدها في شقّةٍ وسطَ السوق. كان الشارع قليلَ الإضاءة، فلم ينتبه أحدٌ من المارّة لهذا. أمّا هي، فوقعتْ بعد الدقيقة السادسة فريسةً للخوف. وبعد الساعة الأولى، اعترفتْ لصاحب المحلّ السمين بأنّها لا تملك ثمنَ المشروب، وأنّ زميلها الجبان هرب وتركها وحيدةً.

كانت تتحدّث كفزّاعة مقتولة الملامح. وخلال دقائق ستبيع جسدَها للسمين مقابلَ ثمن المشروب والقليل من الأوراق النقديّة. لم تعد تهتمّ سوى بطرد ذاك الخوف.

أمّا "هو،" فقد كان هديّةً من السماء لتلك المرأة الوحيدة في الشقّة، فاحتفظتْ به تحت سريرها جثّةً مبتسمة. وسيكون طوال الليالي القادمة أنيسَها في العالم.

المرأة الوحيدة، صاحبة الشرفة، هي زوجة الرجل السمين صاحبِ المحلّ الراقي. رائحةٌ واحدةٌ سيعتادها الرجلُ البدين، كما كلُّ رجال هذه المدينة الصامتة في ضجيج الحرب التي تدور حولها. وسيتذكّر كلُّ الرجال هنا، بعد كلّ زفيرٍ جديدٍ على صدرِ خائفةٍ جديدة، أنّ تلك الرائحة ستنبعثُ مجدّدًا: رائحةُ الجثث تحت الأسرّة.

دمشق

موفّق مسعود

قاصّ ومسرحي وسيناريست سوريّ، ولد سنة 1967.

من أعماله المنشورة: الغريق السومري (مجموعة قصصيّة 2002)، غوايات البهاء وكأس سقراط الأخيرة (مسرحيّتان 2008)، الرجل الدائريّ (مسرحيّة 2008)، وله العديد من الإسهامات المسرحيّة تأليفًا وإخراجًا.