الحرب الأهلية اللبنانيّة (1975 - 1990): اقتراحٌ لمقاربة جديدة* (ملفّ)
13-04-2016

 

ترجمة: سماح إدريس

في 13/4/1975 نصبتْ مجموعةٌ من حزب الكتائب اليمينيّ اللبنانيّ كمينًا لباصٍ يحمل مواطنين فلسطينيين في أحد شوارع عين الرمّانة الضيّقة، فاندلعتْ حربٌ أهليّةٌ في لبنان بين أحزابٍ ذاتِ غالبيّة مسيحيّة، وأحزابٍ يساريّةٍ منضويةٍ تحت راية "الحركة الوطنيّة اللبنانيّة." استمرّت تلك الحرب خمس عشرة سنة، وكانت من أطول حروب القرن العشرين، وشاركتْ فيها إلى جانب الأفرقاء المحلّيّين أطرافٌ دوليّة وعربيّة (سوريا، إسرائيل، الولايات المتحدة، الاتحاد السوفياتيّ سابقًا، إيران،...)، الأمر الذي برّر لكثيرٍ من السياسيين والباحثين اللبنانيين الزعمَ أنّ تلك الحرب كانت "حربَ الآخرين على أرض لبنان."

 

لبنان والثقافة المشرذمة

في لبنان تيّارٌ سائدٌ اعتبر الحربَ المذكورةَ حربًا طائفيةً؛ فالطوائف والمذاهب، بحسب هذا التيّار، جزءٌ من ثقافة "المشرق" الذي لجأتْ إليه بعضُ الأقليّات (كالدروز والموارنة)(1) هربًا من الدولة الإسلاميّة ـــ أكانت أمويّة أمْ عبّاسيّة أم أيّوبيّة أمْ عثمانيّة... وهكذا كانت الطائفيّة، بحسب سمير خلف، "جزءًا من مشاعر المواطنين اللبنانيين البدائيّة والضيّقة (primordial and parochial)  في منطقة لبنان الجغرافيّة،"(2) لكون "البلد مشكّلًا من عدة مناطق معزولة [بعضها عن بعض]." وفي السياق نفسه يقول كمال الصليبي إنّ البنية الاجتماعيّة هنا "تكوّنتْ من طوائف (communities) صغيرة متمركزة على القرى، وكلٌّ منها يمتلك معاييرَه وتقاليدَه الخاصّةَ به، ويعلي من شأن النسب والروابط العائليّة والأواصر الطائفيّة."(3) ويقول جورج قرم إنّ "التنوّع" في لبنان يتمثّل في أنّ "كلّ عائلة وعشيرة وطائفة تمتلك ميثولوجيّتَها الخاصّةَ بها،"(4) وإنّ القرى تتمركز "حول الكنيسة أو الجوامع، وكانت مشغولة بصراعاتها،"(5) الأمرُ الذي منع "انبثاقَ تاريخ موحّدٍ للبنان، وروّج لانبثاق ثقافاتِ طوائفَ منفصلة."(6) وهذا بدوره "جعل لبنان،" بحسب تشارلز وينسلو، "بلدًا معرّضًا للنزاع [الدائم]،" وتلك حالةٌ "نموذجيّةٌ للشرق الأوسط عامة."(7)ويذهب ايتامار رابينوفيتش إلى أنّ الجمهوريّة اللبنانيّة كانت "مصطنعة،" وكان محتومًا أن تدمّرها الضغوطُ المحلّيّةُ والخارجيّة.(8)

 

المسلمون العرب مسؤولون عن شقاء لبنان

ولكنْ، إذا كان النظام هو، فعلًا، أفضلَ ما يمكن بلوغُه في أيّ دولةٍ في الشرق الأوسط، المحكومِ بتخلّفه وطوائفه وثقافته البالية، فلماذا انهار، على ما يُظهر ذلك بأبرز صوره اندلاعُ الحرب الأهليّة اللبنانيّة في العام 1975؟! هنا أيضًا سوف يقع لومٌ كثيرٌ من الباحثين على الثقافة العربيّة، أو الشرقيّة، أو الإسلاميّة، أو عليها جميعًا في الآن ذاته، سواءٌ تجسّدتْ في جمال عبد الناصر، أو منظّمة التحرير الفلسطينيّة (م.ت.ف)، أو إيران، أو أيّ بلد عربيّ أو إسلاميّ آخر.(9)

في هذا الصدد يَعتبر فؤاد عجمي أنّ العرب يعانون عيوبًا متأصّلةً في نظام قيمهم ذاتها. وهو يرى أنّ الإيثوس [الشخصيّة] العربيّة شديدةُ التأثّر بالأساطير والخرافات التي لا تنسجم مع ما يسمّيه النظام العالميّ الحديث لكونها رجعيّةً وعصيّةً على التعبير وغير علميّة. وما القوميّة العربيّة بهذا المعنى، في حسبانه، إلا "الرغبة في بناء دولة موحّدة كبيرة لن تؤدّي إلّا إلى خلق قيصرٍ جديد، يستمدّ سلطتَه من الله ونبيّه."(10) وهذا هو ما يفسّر، في زعم فريد الخازن، لماذا برزتْ، في حقبةٍ ما بعد الاستقلال في الشرق الأوسط، أنظمةٌ سلطويّة "قوميّة عربيّة،" في معظمها، يقودها حزبٌ واحدٌ، ويدعمها الجيش: فهذه الأنظمة استندت في واقع الأمر إلى روابط العشيرة، وجاءت على حساب الحريّة والتعدّديّة السياسيّة؛ أيْ بما يخالف واقعَ الأمور في لبنان.(11)

 

لوم عبد الناصر، م.ت.ف.، سوريا

يقول ماريوس ديب إنّ "ديموقراطيّة لبنان الفتيّة تشكّل تهديدًا للأنظمة العربيّة."(12) ويزعم وينسلو، بالمثل، أنّ صعود عبد الناصر ورغبتَه في السلطة شكّلا تهديدًا للبنان.(13) ويجزم الخازن أنّ الديموقراطيّة في لبنان تشكّل خطرًا على نظام الدول العربيّة،(14) وإنْ كان التفكّكُ الاجتماعيُّ فيه سمةً نموذجيّةً لمعظم العالم الثالث.(15) وأمّا رابينوفيتش فيعتقد أنّ الخصومة بين عبد الناصر والحكم الهاشميّ في العراق، منذ العام 1958، مهّدتْ سبيلَ الانفجار، وأنّ الناصريّة قدّمتْ للمسلمين اللبنانيين ولاءً خارجيًّا يضعونه نصب أعينهم على حساب ولائهم للبنان.(16)

بعد موت عبد الناصر، وقع لومُ بعض الباحثين على الفلسطينيين. فبحسب وينسلو أدّت نكسةُ العرب عام 67 إلى تقوية الشعور الوطنيّ لدى الفلسطينيين، ودفعَهم طموحُهم إلى الاستقلال السياسيّ إلى محاولة تحويل لبنان إلى قاعدةٍ سياسيّةٍ وعسكريّةٍ لهم.(17) فخشي المسيحيون اللبنانيون، بحسب كمال الصليبي، من تعاطف المسلمين اللبنانيين مع الفلسطينيين سعيًا إلى تقوية "نفوذهم [المسلمين] في لبنان." وإذ "شلّ" المسلمون الدولةَ، فقد "قبل حزبُ الكتائب التحدّي وحاول أن يحمي سيادةَ لبنان." وهذا ـــ إلى جانب عوامل إقليميّة ودوليّة أخرى ـــ أدّى بحسب الصليبي إلى الحرب الأهليّة اللبنانيّة عام 1975.(18)

على أنّ سوريا، في كتابات بعض الباحثين، ستتحمّل قسطَها هي الأخرى من الاتهامات بسبب مسؤوليّتها عن انعدام الاستقرار في لبنان. فقد اعتبرتْ نعومي واينبرغر مثلًا أن ترسّخ السلطة في سوريا تحت حكم حافظ الأسد في أوائل السبعينيّات كان مقيَّضًا له أن "يعتبر لبنانَ محطةً مركزيّةً في مجال نفوذه."(19) وترافق ذلك مع تبعات النزاع العربيّ ـــ الإسرائيليّ وهزيمة العرب في حرب 1967، لتُلقي هذه بظلّها الثقيل على الاستقرار في لبنان، كما يقول ديليب هيرو. وفي هذا الصدد يرى ماريوس ديب أنّ النظام في سوريا "لم تكن له قطّ نيّةُ السلام مع إسرائيل لأنّ إدامة النزاع باسم القوميّة العربيّة تكسبه الشرعيّةَ وتبقيه في الحكم،" وأنه لمّا كانت سوريا عاجزةً عن شنّ حرب ضخمة على إسرائيل فقد كان عليها أن تقود صراعًا خافتًا ضدّها عبر وكلائها في لبنان.(20)

 

إنكارُ أيّ دورٍ للعوامل الاقتصاديّة ـــ الاجتماعيّة

تطلّب تجنّبُ المنطق السائد للتحدّيات تهميشَ أحد العوامل الداخليّة اللبنانيّة المحليّة، أو جعله تابعًا للعامل الخارجيّ. وفي سبيل ذلك اعتبر المنطقُ السائدُ الأحزابَ اليساريّةَ في لبنان محضَ أداةٍ لدى القوى الخارجيّة، أو مجرّدَ لاعبٍ ثانويّ. ففي رأي فؤاد عجمي مثلًا أنّ "التقاليد" أهمّ من العوامل الاجتماعيّة: ومن هنا شغفُه بالإمام موسى الصدر، الذي اعتبره برهانًا على "فشل الإصلاحيين العرب في نيل دعم سكان جنوب لبنان." فالقوميّة العربيّة، "بوصفها إيديولوجيا أهل المدن السنّة والمسيحيين، فشلتْ في مخاطبة أهل لبنان من الشيعة القرويين،" فاضطُرّ الشيعة إلى التعبير عن أنفسهم بشكل مستقلّ. ولقد كشف نجاحُ موسى الصدر، في رأي عجمي، عن عجز اليسار اللبنانيّ عن تعبئة الشيعة، وتوجّب إصلاح النظام اللبنانيّ على أساس شراكة شيعيّة ـــ مارونيّة، لولا العامل الفلسطينيّ الذي حال دون ذلك.(21)

ولم يجد فريد الخازن، هو أيضًا، أيَّ أثر للعوامل الاجتماعيّة ـــ الاقتصاديّة في اندلاع النزاع الأهليّ اللبنانيّ، ولا سيّما أنّ "الاقتصاد اللبنانيّ آنذاك كان في حالة جيدة."(22)

 

الاستشراق في منطق التيّار السائد

عكس تصوّرُ "المشرق" بوصفه كياناتٍ مجزّأةً على أساسٍ دينيّ، وبوصفه "عصيًّا على التحديث،" وجهةَ نظر المستشرقين الذين رأوا الحضارةَ الإسلاميّة ـــ بقرآنها وقمعِها للنساء وتعدّدِ إثنيّاتها ـــ غيرَ قابلةٍ للتغيير والتطور. هؤلاء المستشرقون اعتبروا أنّ المشكلة هي في الإسلام ذاته، وأنّ الحلّ هو في المسيحيّة الأوروبيّة، هكذا، وبطريقةٍ صمّاءَ واحديّة، على ما كتب أسامة المقدسي.(23) وكان إدوارد سعيد قد عبّر عن التفكير الاستشراقيّ بالقول الآتي: "لكي تحيا أوروبا كان عليها أن تخلق أوروبا مضادّةً (Anti-Europe)."(24) ولهذا اعتبر مستشرقٌ كبرنارد لويس أنّ العالم الإسلاميّ يعاني انعدامًا في التحديث؛ وهذا التحديث يتمثّل، في رأيه، في انعدام "حريّة العقل من الضوابط والتلقين، وخلوّ الاقتصاد من الفساد وسوءِ الإدارة، و[تحرّر] النساء من الاضطهاد الذكوري، وحريّة المواطنين من الطغيان." ولقد اعتبر لويس أنّ التاريخ "نزاع بين الحضارة الإسلاميّة أو الشرقيّة [من جهة]، والحضارة المسيحيّة أو الغربيّة [من جهة ثانية]،" وأنّ كفّة الميزان تميل إلى الحضارة الغربيّة. ولا يعود ذلك في حسبانه إلى التخلّف العربيّ بقدر ما يعود إلى "القفزة الغربيّة" (Western upsurge) في مجال التحديث. ولقد استطاعت حضاراتٌ أخرى كاليابان وكوريا أن تبلغ مرحلةَ التحديث لتبنّيها الثقافةَ الغربيّة، في حين بقي العالمُ الإسلاميُّ متخلّفًا لأنّه لم يفعل ذلك في زعم لويس. وهكذا، لم يكن للاستعمار دورٌ في مشاكل العرب والمسلمين، وليس بالإمكان لومُ الإمبرياليّة الأميركيّة لأنّ هذه ـــ في اعتقاده ـــ "نتيجة، لا سبب، للضعف الداخليّ في دول الشرق الأوسط ومجتمعاته." وليس ممكنًا في اعتقاده أيضًا لومُ إسرائيل على مظالمها؛ فهذا لومٌ يسعى إلى إلصاق تخلّف العالم الإسلاميّ بـ"مؤامرة يهوديّة" لا غير.(25)

والحقّ أنّ منطق لويس قد تردّدتْ أصداؤه في كتابات باحثين عرضنا أفكارَهم أعلاه، ومعظمُهم من اللبنانيين. ولقد عبّر بيتر غران عن هذا "التصادي" حين قال إنّ الباحثين غير الأوروبيين يشاركون في النسق الفكريّ المهيمِن حين انحرفوا من الوضعيّة إلى الرومنطيقيّة بعد أن حرمهم الباحثون الأوروبيون جنّةَ التحديث: "إنّ الباحثين غيرَ الأوروبيين، بدعمهم النسقَ [الفكريَّ] المهيمن، ينصّبون أنفسَهم وسيطًا بين الحضارة السائدة والحضارات غير الأوروبيّة، فيقبلون تهميشَ هذه الحضارات."(26) ومن هنا يقع اللومُ في مأساة لبنان، حسب النمط السائد، على العرب والمسلمين لا على غيرهم.

 

أطروحةٌ مضادّةٌ: مهدي عامل

قلّة قليلة حاولتْ تحدّي التيّار السائد من الأبحاث المتخصّصة بالحرب الأهليّة اللبنانيّة، لتشدّدَ على دور الطبقات الاجتماعيّة في تحديد طبيعة السياسات في هذا البلد. من هذه القلّة مهدي عامل، عالِمُ الاجتماع، والقياديُّ الراحلُ في الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ، الذي تصدّى للفكرة القائلة بأنّ الطوائف تشكيلاتٌ اجتماعيّةٌ ثابتةٌ راكدة، وذلك حين جزم أنّها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت غيرَ ما هي عليه في القرن العشرين لأنّ الدولة العثمانيّة لم تكن طائفيّة بل دينيّة. وقد رأى مهدي عامل أنّ الطائفة تبعيّة سياسيّة تربط الطبقاتِ الدنيا بالطبقات العليا، واعتبر النظامَ الطائفيّ نظامًا سياسيًّا يستند إلى الطوائف بوصفها مؤسّسات سياسيّة. وهو يرى أنّ النظام الطائفي، الذي أنشئ أثناء الانتداب، لم يتعزّز إلّا بعد الاستقلال، ومن ثم تمأسس واندمج بجهاز الدولة. لم تكن الطوائف بقادرة على الحياة من دون هذه الدولة، والمأزقُ الفعليّ ـــ في رأيه ـــ هو أنّ هذه الطوائف عوّقتْ تطوّر لبنان إلى دولة عصريّة مركزيّة.(27)

ولكنْ لماذا نشبت الحربُ في لبنان؟ يرى مهدي عامل أنّ ظروف تكوّن الرأسماليّة في لبنان في القرنين التاسع عشر والعشرين هي الظروف نفسها التي شهدتْ بداياتِ الأزمة التي واجهت الرأسماليّة العالميّة. ولهذا لم يمحُ تطوّر الرأسماليّة في المجتمعات "الشرقيّة،" كلبنان، مجموعةً واسعةً من العلاقات التي سبق أن سادت في نمط الإنتاج ما قبل الرأسماليّة. وبكلامٍ آخر، فقد ربط نمطَ الإنتاج الكولونياليّ للبورجوازية اللبنانيّة بالبورجوازيّة العالميّة، وهذا ما جعل لبنان يعيش أزمة دائمة في رأي مهدي عامل.

لقد أُعطي لبنان، بحسب مهدي عامل، دورَ الوسيط الماليّ بين القوى الاستعماريّة ومنطقة الشرق الأوسط، فأدّى ذلك إلى تطوّر قطاع الخدمات وانهيار القطاعات المنتِجة. ولقد استند النظامُ الطائفيّ إلى بقاء علاقات الإنتاج ما قبل الرأسماليّة على قيد الحياة، وهو ما يفسّر تصدّي أفراد كثيرين ينتمون إلى الطبقات الوسطى والدنيا في أحزاب اليمين اللبنانيّ لمقارعة أحزاب اليسار. ومن جهةٍ ثانية، فقد تصرّف الإقطاعيون وكأنّهم بورجوازيةٌ عليا، الأمر الذي حرف الصراعَ من طبيعته الطبقيّة ليغدو صراعًا طائفيًّا.(28)

 

بزوغ الطائفيّة في لبنان

كان أسامة المقدسي هو أبرز مَن تحدى فكرة أنّ الطائفية جزءٌ لا يتجزّأ من "الثقافة الشرقيّة" منذ ألف عام. فقد رأى أنّ الطائفيّة حصيلةٌ للتحديث في القرن التاسع عشر، وذلك حين أُخضع المجتمعُ اللبنانيُّ لمحاولات الإصلاح الأوروبيّة والعثمانيّة. واعتبر المقدسي أنّ تشكيل الطوائف كمؤسّسات سياسيّة في لبنان الحديث إنّما هو نتيجةٌ للتفاعل بين القوى الاستعماريّة والطوائفِ المحلّيّة من أجل "إنتاج مخيّلةٍ تاريخيّةٍ جديدة." ذلك أنّ الاحتلال المصريّ بين عامي 1829 و1840، فضلًا عن سقوط الشهابيين، وبدء الإصلاحات العثمانيّة، أدّت إلى خلق بيئة ملائمة لبناء نظام سياسيّ على أسس دينيّة. ولقد تمّ ذلك في وقتٍ كانت فيه الإمبراطوريّةُ العثمانيّة تبتعد عن نظام الملل باتجاه نظام قائم على المواطنيّة، يمنح المواطنين المساواةَ بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينيّة. في تلك الفترة تدخّلت القوى الأوروبيّة نيابةً عن المسيحيين من أجل أن تضمن لهم مكانةً مميّزةً على حساب نظرائهم المسلمين. حدث ذلك في لبنان، الذي كان يضمّ عددًا كبيرًا من المسيحيين، وفي سياق تكوين الأوروبيين لـ"قبائل" لبنانيّة على أساس أساطير مستقاةٍ من الكتاب المقدّس. ولقد أدرك زعماءُ الدروز والموارنة، الذين سعوْا إلى استرجاع امتيازاتهم المفقودة في ظلّ حكم بشير الثاني، أنّ الإمبراطوريّة العثمانيّة فقدتْ قوّتها وهيبتها، ولذا حاولوا كسبَ ولاء القوى الأوروبيّة المختلفة، التي كانت ـــ بدورها ـــ تسعى إلى نيل تعاون الزعماء اللبنانيين لكي يكونوا وسطاءَ مع الطوائف المحلّيّة من أجل تبرير التدخّل الأوروبيّ في سياسات الإمبراطوريّة العثمانيّة. هكذا سعت فرنسا إلى كسب ولاء الموارنة، تاركةً للبريطانيين خيارَ ادّعاء حماية الدروز. ومن هنا بزغت الطائفيّة بديلًا من النظام القديم المبني في جبل لبنان على أساس العلاقات الإقطاعيّة ـــ الفلاحيّة. إذًا، كانت الطائفيّة، بحسب المقدسي، هي بؤرة التعبير عن التحديث في لبنان العثمانيّ في القرن التاسع عشر.(29)

 

تكوينُ لبنان

اتصل تكوينُ لبنان ككيان سياسيّ (بتعبير مهدي عامل) اتصالًا عميقًا باختراق الرأسماليّة العالميّة لمنطقتنا. فلقد أُدمج لبنانُ في السوق العالميّة منذ بدايات القرن التاسع عشر من خلال التبادل التجاريّ، وذلك حين بدأ تصديرَ شرانق الحرير، وزيتِ الزيتون، وغيرِ ذلك من المنتوجات الزراعيّة، وبدأ استيرادَ السلع المصنّعة. هكذا، أدمج الاقتصاد السياسيّ المشرقي، بشكل غير متكافئ، في الحلبة السياسيّة ـــ الإستراتيجيّة لأوروبا، بضغطٍ من التوسّع الأوروبيّ، وبصعودٍ مواكبٍ من طرف البورجوازيّة اللبنانيّة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمصالح الأوروبيّة. وقد تشكل الاقتصادُ المحلّيّ، بحسب كارولين غايتس، على الأسس الآتية: أعيد توجيهُ الزراعة من الإنتاج المحلّيّ إلى الإنتاج بهدف التصدير إلى السوق العالميّة، ودُمّرت الصناعةُ المحلية، ونشأتْ بنيةٌ تحتيّة تجاريّة ـــ ماليّة، واتصاليّة ـــ نقليّة، بفضل الرأسمال الأوروبيّ ـــ اللبنانيّ، لخدمة الاقتصادات الأوروبيّة.(30) وأدّى ذلك، بحسب فيرو، إلى تحسين أوضاع الموارنة والمسيحيين عامّةً على الصعد الاجتماعيّة ـــ الاقتصاديّة والسياسيّة، وإلى صعود عائلات اغتنت حديثًا شرقيّ مدن الساحل (صيدا وبيروت وطرابلس) وشكّلت تحديًا للمقاطعجيين الدروز. وقد وافقت السلطاتُ الفرنسيّة على فكرة "لبنان الكبير" بسبب ضغط مجموعات المصالح الفرنسيّة التي كانت تعمل على حثّ الحكومة الفرنسيّة على إنشاء سوريا فرنسيّة.(31) فلقد احتاج الفرنسيون إلى مرفأ خاص بهم؛ ولما كان مرفأا صيدا وطرابلس تحت سيطرة البورجوازيّة السنّيّة المرتبطة ارتباطًا عميقًا بالنخبة العثمانيّة، فقد حوّل الفرنسيون أنظارهم شطر بيروت.(32) وهذا ما يفسّر انخفاض أهمية مدينتيْ طرابلس وصيدا بعد نشوء دولة لبنان الكبير؛ كما يفسّر سبب تشجيع الفرنسيين لنشوء نخبة تجاريّة جديدة تضمّ (أساسًا) تجّارًا جددًا قادرين على أن يكونوا وكلاء محليين للشركات الأوروبيّة. ونتيجةً لذلك أفلس كلُّ التجّار الآخرين،(33) كما تمّ تهميشُ العمّال الزراعيين وصغار الملّاكين القرويين والحرفيين والعمّال الصناعيين وصغار الصناعيين في لبنان الجديد.(34)

 

الفرنسيون: رعاة النظام الطائفي

لا عجب، إذًا، انْ تمأسست الطائفيّة مع نشوء الجمهوريّة اللبنانيّة الجديدة عام 1920، وارتبط الفرنسيون ارتباطًا مباشرًا بسياسة تشجيع الطائفية منذ انتخابات العام 1922. فقد وزّعت السلطاتُ الفرنسيّة مقاعدَ البرلمان، المكوّنِ حديثًا آنذاك، توزيعًا طائفيًّا بحسب حجم كلّ طائفة. وبنى المرشحون تحالفاتٍ ما بين الطوائف، وكانت السلطات الفرنسية ضالعةً بشدّةٍ فيها: فقوّت النخب الموالية لها في البلدات والقرى، وأجهضتْ تشكيلَ لوائح انتخابيّة تستند إلى أحزاب سياسيّة أو مجموعات غير طائفيّة. وأدّى ذلك إلى نشوء نخبة جديدة ترتكز إلى التجّار المدينين المسيحيين وإلى النخب العشائريّة في البلدات والقرى. وأصبحت الطائفيّة أساسَ النظام السياسيّ مع الدستور الجديد عام 1926، وهو دستور فُرض على خلفيّة تصدّعات اجتماعيّة ـــ اقتصاديّة وسياسيّة عميقة تحوّلتْ إلى هوّات طائفيّة. وقد منعت السلطاتُ الفرنسيّةُ والنخبُ اللبنانيّةُ الجديدة الأحزابَ السياسيّةَ المرتكزة إلى قواعد غير طائفيّة، مثل الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ وحزب الاستقلال الجمهوريّ وعصبة العمل القوميّ، التي حاولتْ تحدّي هيمنة الإقطاعيين التقليديين. وفي العام 1936 عُقدتْ معاهدةٌ بين الرئيس اللبنانيّ إميل ادّه والسلطات الفرنسيّة، فمأسست المعادلةَ الطائفيّة على أساس 6 و6 مكرر (ستة مسيحيين و6 مسلمين). وبحلول ذلك الوقت كان التجّار السنّة قد بدأوا بتنظيم أنفسهم، ولأول مرة في حياتهم، كطائفةٍ أو مذهب. وفي الأثناء نصّ مرسوم 60/1 لعام 1926 لأول مرة على تعيين مفتٍ لبنانيّ لتنظيم السنّة على أسس طائفيّة، وتبع ذلك تأسيسَ المجلس القوميّ الإسلاميّ في ذلك العام.(35) وسيكون الشيعة بعد الاستقلال آخرَ مَن ينظِّمون أنفسَهم طائفيًّا، وذلك عبر تأسيس المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى عام 1969.

 

لبنان بعد الاستقلال

بعد الاستقلال تعزّزتْ بنيةُ رأسماليّةِ الأطراف. فقد قوي دورُ بيروت، مثلًا، كمركز تجاريّ إقليميّ، بفضل سياسة الانتداب التي قضت بـ"حجز" السوق السوريّة للتجّار البيروتيين لقاءَ تعرفاتٍ أعلى لحماية الزراعة والصناعة اللتين كانتا أشدَّ أهميةً للاقتصاد السوريّ. ولقد جاء تكريسُ لبنان كجمهوريّة تجاريّة، بتعبير كارولين غايتس، أثناء حكم الرئيس كميل شمعون، الذي سعى إلى إضعاف قبضة ملّاك الأراضي الإقطاعيين وإلى تقوية اقتصاد الخدمات العالميّة. وفي هذه الفترة صدر قانونُ السرّيّة المصرفيّة عام 1956، وألغيتْ قوانينُ الإيجار لتشجيع قطاع البناء. كما تدفّق مالُ النفط إلى لبنان، وشجّع قطاع الخدمات والمصارف والسياحة، فارتفعتْ حصّتُه من 62% عام 1950 إلى 70% عام 1970. والأمر عينه ينطبق على الاستثمارات القادمة من البلدان الغربيّة. وفي المقابل، كانت الزراعة تعاني الأمرّيْن، ولم تستطع أن تلبّي حاجات السكّان اللبنانيين، مع أنّ ثلثيهم يعتاش منها كليًّا أو جزئيًّا!(36)

كان حرب العام 1958 حصيلةً لعوامل إقليميّة، ولكنها كانت حصيلةً لعوامل محليّة أيضًا. فشمعون لم يكتفِ بالاصطفاف إلى جانب الغرب، بل سعى أيضًا إلى إبراز الطبقة المركنتيليّة على حساب الإقطاع، فاستاء هؤلاء، فما كان من شمعون إلّا أن حرف الصراعَ باتجاهٍ طائفيّ. وكان مجيء فؤاد شهاب إلى السلطة نتيجةً لتفاهمٍ مشتركٍ بين الولايات المتحدة وعبد الناصر، ولكنّه كان نتيجةً أيضًا لتفاهمٍ جديدٍ بين الطبقة الماركنتيليّة والملّاكِ الإقطاعيين في مسعًى لأخذ مصالح سكّان الريف في الاعتبار. بيْد أنّ خططه لدمج المناطق الفقيرة في اقتصاد البلاد عوّقها الإقطاعُ في الشمال والبقاع والجنوب. وفي تلك الفترة ارتفعت الرأسمالاتُ المتدفّقةُ على لبنان من 15 مليون ليرة لبنانيّة عام 1951 إلى 370 مليونًا عام 1966، كما ارتفعتْ حوالاتُ المغتربين من 58.5 مليونًا سنة 1951 إلى 112 مليونًا عام 1966. وأدّى ذلك إلى نموّ النظام الماليّ والمصرفيّ اللبنانيّ، وارتفع عدد المصارف من سبعة عام 1945 إلى 93 عام 1964. لكنّ ذلك لم يأتِ بالفائدة على البلاد ككلّ، لأنّ بيروت لم تصبح مركزًا ماليًّا حقيقيًّا يوظَّف فيه الرأسمالُ القصيرُ الأجل في قطاعاتٍ أخرى لكي يتحوّل إلى رأسمال طويل الأجل؛ بل استُخدم الرأسمال المتدفق لتمويل عمليّات تجاريّة، أو أعيدَ توزيعُه على المصانع الأوروبيّة والمراكز الماليّة الأميركيّة. وبهذا المعنى حُرمت الزراعةُ والصناعةُ اللبنانيتان أيّة مكاسب. ولكنْ حصلتْ بعضُ الاستثمارات الجزئيّة في قطاع البناء، الأمر الذي أدّى إلى فورة في هذا القطاع الأخير، فارتفعت الإيجاراتُ وأسعارُ الأراضي، وتضخّمت الأسعار، وكانت الحصيلة النهائية زيادة الاحتكارات. وترى تابيثا بتران أنّ المحاولات المتواضعة لدمج الطبقات الدنيا والوسطى والمناطق الفقيرة في الاقتصاد اللبنانيّ أيّام الرئيس شهاب قد انقلبتْ إلى ضدّها أثناء حكم الرئيس شارل حلو. وبسبب تدهور القطاع الزراعيّ انتقل 18% من أهالي الجنوب في الستينيّات إلى ضواحي بيروت، حيث عاشوا في أحياء بائسة. ولما لم تولِ النخبُ القطاعَ الصناعيَّ اهتمامًا كبيرًا هو الآخر، فقد تدهور بحيث لم يستطع استيعابَ القوة العاملة. وبسبب التضخّم في أواخر الستينيّات انخفض معدلُ النموّ في الناتج الوطنيّ المحليّ إلى 2.5 بين سنتيْ 1965 و1970، وإلى صفر% عام 1974. وبحلول العام 1975 كان 40% من سكّان القرى قد أُجبروا على الانتقال إلى المدن، حيث لم يستطيعوا تدبّر عمل لهم إلا بشقّ النفس بسبب أعدادهم الضخمة.(37)

ضمن هذا السياق الاجتماعيّ بدأتْ جماعاتٌ جديدةٌ بالتحرك، مطالبةً بحصّتها من ثروة البلاد التي احتكرتها قلّة قليلة. هكذا نشأتْ أحزابٌ سياسيّة، أهمُّها تلك التي تجمّعتْ تحت راية "الحركة الوطنيّة اللبنانيّة" بزعامة كمال جنبلاط. والحقّ أنّ شخصيّة هذا الأخير كانت إشكاليّة جدًّا: فهو زعيم للطائفة الدرزيّة في لبنان، لكنّه تبنّى شعاراتٍ يساريّة، كما أنّه أسّس الحزبَ التقدّميّ الاشتراكيّ عام 1949. وفي حين يزعم أنصارُه أنه تجاوز زعامتَه التقليديّة الدرزيّة ليتبوّأ دورًا وطنيًّا يتجاوز حدودَ طائفته الصغيرة، فإنّ خصومه يتهمونه بأنه اعتنق مبادئ اشتراكيّة من أجل توسيع قاعدته ولكسب تعاطف عبد الناصر والاتحاد السوفياتيّ سعيًا وراء تحسين موقعه إزاء الزعماء التقليديين اللبنانيين الآخرين.(38)

 

الدول القبليّة الإثنيّة وحالة لبنان

يحاجج بيتر غران بأنّ هناك أنماطًا عديدةً من الهيمنة السياسيّة في العالم، وبأنّ أكثرها شيوعًا في دول العالم الثالث هو ما يسمّيه النمطَ القبليّ ـــ الإثنيّ، حيث تفاعلت العواملُ المحليّةُ مع الرأسماليّة العالميّة أثناء القرن التاسع عشر لتنتج نظامًا من الهيمنة السياسيّة قائمًا على تراتبيّة القبائل أو الطوائف حفاظًا على مصالح النخبة المسيطرة ولتعويق الصراع الطبقيّ. ويشير غران إلى لبنان بوصفه أحدَ البلدان التي تنسجم مع النمط الذي تحدّث عنه. وبهذا المعنى فإنّ غران ينسجم مع مهدي عامل في مقاربته للأزمة اللبنانيّة.

إنّني أتّفق مع غران في أنّ أفضل ما يفسّر الحربَ الأهليّة اللبنانيّة هو أنّ لبنان إحدى الدول القبليّة ـــ الإثنيّة التي أنشأت النخبُ فيها ـــ بالتواطؤ مع القوى الغربيّة ـــ هيمنةً سياسيّةً مبنيّةً على النزاعات القبليّة الإثنيّة من أجل تعويق الصراع الطبقيّ، الذي يعوّق ـــ بدوره ـــ الصراعَ الأساسَ المستندَ إلى التناقض الجندريّ. فالحال أنّ الطائفيّة تنشئ روابطَ بين أعضاء الطبقات العليا والدنيا، فتهمّش الاختلالاتِ الاجتماعيّة كما يقول غران. ففي هذه المجتمعات يسلّط زعيمٌ وعشيرتُه وأنصارُه هيمنتَهم على المجتمع. أما الطبقات الدنيا فتنتمي إلى قبائل أو إثنيّات أو طوائف أخرى، فتعطى أدوارًا وفقًا لهرميّة قبليّة أو طائفيّة أو عشائريّة. ونتيجةً لذلك تُستخدم الإيديولوجياتُ القبليّة لتغييب الصراع الطبقيّ. ولكي تستطيع الدولة أن تحيا وسط الهيمنة الإثنيّة ـــ القبليّة فإنّها تسعى إلى إدراج نخب كلّ الإثنيّات أو الطوائف في مجموعةٍ عليا، وإلى أن تربطهم بالنخبة الحاكمة أو الحزب الحاكم. هذا، وتحاول نخبُ هذه الدول أن تستدرجَ حماية قوة عالميّة عظمى؛ لكنّ الانفتاح على أكثر من قوة عظمى أو إقليميّة يحوّل البلاد إلى حلبة للنزاع الدوليّ أو الإقليميّ.(39)

 

مقاربة بديلة

بعد أن استعرضنا بعض ما كتبه باحثون لبنانيون وغربيون عن الحرب الأهليّة والتدخّل السوريّ في لبنان، أودّ أن أقترح مقاربة جديدة لفهم هذه الأحداث. أولًا، وبحسب النموذج الذي قدّمه بيتر غران، نشأ لبنان في منتصف القرن التاسع عشر وبُني على أساس نموذج قبَليّ من الهيمنة السياسيّة، لعب الموارنةُ الدورَ المهيمنَ فيه، وتبعتهم الطوائفُ الأخرى. وقد مرّ النظامُ السياسيّ في لبنان بمراحل نموّ عديدة، بعد توسّع جبل لبنان ليضمّ جبل عامل والبقاع وصيدا وعكّار وطرابلس. فلمّا كان معظمُ سكّان هذه المناطق من غير الموارنة، فقد كان من الضروريّ دمجُهم في النظام السياسيّ على أساس من نمط الهيمنة القبليّ ـــ الإثنيّ، وذلك على شكل طوائف ومذاهب. وهكذا شهدت الثلاثينيّاتُ والأربعينيّاتُ دمجَ السنّة، في حين شهدت الستينيّاتُ دمجَ الشيعة في المؤسّسة السياسيّة اللبنانيّة من خلال تأسيس المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى. وقدّم الفلسطينيون، والسوريون إلى حدّ أقل، طبقة منبوذة (undercast) للنظام اللبنانيّ، في حين عزّز التمييزُ ضدّهم تضامنَ المواطنين اللبنانيين فيما بينهم. لاحقًا، ستقوي الاستقطاباتُ داخل النظام السياسيّ، مترافقةً مع التنافر بين القوى الإقليميّة (عربيّةً أو غير عربيّة)، من حدّة الأزمة بين مختلف الأحزاب اللبنانيّة المتحالفة مع تلك القوى. وهذه الاستقطابات الحادّة توازت مع أزمة اقتصاديّة عميقة تُرجمتْ هجرةً ضخمةً من المناطق الريفيّة إلى المدن، في حين عجزت بنيةُ الاقتصاد اللبنانيّ ـــ المتمركز حول قطاع الخدمات ـــ عن دمج المهاجرين الكثر في هذا الاقتصاد. ومن جديدٍ قدّم التمييزُ ضدّ الفلسطينيين والسوريين أداةً توفِّر للرأسماليين يدًا عاملةً رخيصة؛ كما ساهمتْ في ابتزاز العمّال اللبنانيين في حال مطالبتهم بحقوق أوسع، إذ تمّ تهديدُهم بالاستعاضة عنهم بعمّال فلسطينيين وسوريين.

لقد نشبت الحربُ الأهليّة اللبنانيّة، في حقيقة الأمر، حين كان السخطُ الشعبيّ في ذروته. وكانت حادثةُ بوسطة عين الرمّانة تعبيرًا قويًّا عن الطبيعة الحقيقيّة للصراع. فالقوّات اليمينيّة (ومعظمُها من الموارنة المدرّبين سرًّا على يد المؤسّسة اللبنانيّة الحاكمة) قَتلتْ في ذلك اليوم عددًا من أفراد الطبقة المنبوذة (الفلسطينيّة) بنيّةٍ واضحةٍ ومباشرةٍ، هي بدءُ حربٍ أهليّة. ولقد كان ضحايا هذه الحرب أساسًا من الفقراء، أو ينتمون إلى الطبقة الوسطى الدنيا أو الوسطى. هنا يغدو ادموند بورك الثالث ذا صلةٍ وثيقةٍ بموضوعنا، وذلك حين يقول إنّ "المافيا، تاريخيًّا، كانت الدواءَ الصقليويّ العمليّ لقمع ريف متفجّر" ـــ وكانت "المافيا" هي مجموعة المستأجرين وحرّاس الحقول الذين كانوا يضبطون الأملاكَ الريفيّةَ نيابةً عن ملّاكها الغائبين.

إذًا، في لبنان وصقلية معًا، كان الدواء من أجل التخلّص من عصيان الفقراء هو العنف السياسيّ من طرف مديري الأملاك ووكلائهم والطبقة الحاكمة بوجه عامّ.(40) وكان العنف بهذا المعنى موجَّهًا ضدّ الفقراء لإخضاعهم.

كما أنّ هذا العنف هدف إلى إعادة رسم حدود الطوائف في مراحل الحرب المختلفة، بدءًا بالموارنة والمسيحيين عامّةً. فالحَراك الاجتماعيّ الناجم عن التطورات الاجتماعيّة ــــ الاقتصاديّة في الخمسينيّات والستينيّات جعل المسلمين والفلسطينيين قادرين على "انتهاك" حدود الموارنة ديموغرافيًّا بسبب توسّعهم إلى المناطق التي كانت تقليديًّا ذاتَ غالبيّة مسيحيّة. إضافةً إلى ذلك، فقد أدّت تلك العواملُ إلى صعود "نخبة مسيحيّة مارقة" لم تنصع لإرادة النخب الطائفيّة المارونيّة. وهذا ما يفسّر لماذا استهدفتْ أولُ موجة من العنف الكتائبيّ الفلسطينيين في جسر الباشا والضبيّة وتلّ الزعتر، والشيعة أيضًا في حارة الغورانة، ومن بعدهم الشيوعيين والقوميين المسيحيين. وهو يفسّر مصطلح "تنظيف المنطقة" الذي غالبًا ما استُخدم لتبرير ما فعله بشير الجميّل، قائدُ القوّات اللبنانيّة، بين عاميْ 1976 و1982 في المناطق ذات الغالبيّة المسيحية. وسرعان ما حذا الدروزُ حذوَ بشير بين عاميْ 1982 و1984، فأعادوا رسمَ حدود الطائفة الدرزيّة، مستهدفين مسيحيّي الشوف الذين ذُبحوا أو دُفعوا إلى الفرار من المناطق الخاضعة لوليد جنبلاط؛ كما تم إسكاتُ كلّ معارضي جنبلاط الدروز، وبذلك "نظّف" جنبلاط "منطقتَه" هو الآخر. ثم حلّ دورُ الشيعة في رسم حدودهم: فبين سنتيْ 1985 و1988 شنّت حركة أمل (التي أسّسها الإمام موسى الصدر وقادها ـــ بعد غيابه ـــ نبيه برّي) حربًا ضدّ الفلسطينيين الذين "انتهكوا" حدودَ الطائفة الشيعيّة جغرافيًّا واجتماعيًّا، فكانت "حربُ المخيّمات" وسيلةً لرسم الحدود بين الشيعة وغير الشيعة. وفي المقابل مورس العنفُ ضدّ الشيعة  "المارقين" أمثال مهدي عامل وحسين مروّة وغيرهما من "الشيعة" العَلمانيين. وبعد أن رسم الموارنةُ والدروزُ والشيعةُ حدودَ طوائفهم تباعًا، جاء رسمُ حدود الطائفة السنّيّة أوتوماتيكيًّا، وذلك بحلول أواخر الثمانينيّات. أما بالنسبة إلى السنّة المارقين الذين عبّرت عنهم طبقةٌ من المثقفين الذين كانوا أعلامًا في الأحزاب اليساريّة، فقد تمّ "شراؤهم" (مع آخرين من طوائفَ أُخرى) من قِبل رفيق الحريري عبر توظيفهم في مؤسّساته.

جرى ذلك كلُّه برعاية السوريين، الذين كانوا رعاةَ اتفاق الطائف، إلى جانب السعوديين والأميركان. وهذا الاتفاق أعاد تفعيلَ النظام السياسيّ اللبنانيّ مع تعديلات طفيفة على "الميثاق الوطنيّ" لعام 1943، وترك البلادَ على شفير الأزمات المتوالية!

بيروت

*ضمن الملفّ المخصص لاستعادة ذكرى الحرب الأهليّة اللبنانيّة في 13 نيسان 2016، تعيد الآداب الإلكترونيّة نشرَ هذا البحث المهمّ، الذي سبق أن نشرته في العدد 9 /10، 2009.

 


1-Dilip Hiro, Lebanon Fire and Embers: A. History of the Civil War (New York: St Martin Press, 1993), p. 1; Itamar Rabinovitch, The War For Lebanon, 1970- 1983 (London: Cornell University Press, 1984), p. 18; Marius Deeb, Syria’s Terrorist War on Lebanon and the Peace Process (New York: Palgrave McMillan, 2003), p1; J.Abraham, The Lebanon War (London: Praeger, 1996), p.xi; Farid El Khazen, The Breakdown of the State in Lebanon, 1967 – 1976 (Cambridge, Massachusetts: 2000), p.131.

2- Samir Khalaf, Lebanon’s Predicament (New York: Columbia University Press, 1987), p.115

Kamal Salibi, A House of Many Mansions: The History of Lebanon Reconsidered (London: I.B. Tauris & co ltd. 2nd ed, 1989), p.29 - 3

4 - Georges Corm, Geopolitique du Conflit Libanais (Paris: La decouverte, 1986), p.59, 29, 68

5- Ibid, p. 29.

6- Ibid, p. 68.

7- Charles Winslow, Lebanon, War and Politics in a Fragmanted Society (London: Routledge, 1996), p.3, 4. 6.

8- Rabinovitcht, p. 17.

9- Georges Corm,. p. 23.

10- Ajami, p. 3, 13, 19, 41, 45.

11- El Khazen, p. 102, 110.

12- Deep,. p2.

13- Winslow, p.108, 150.

14- El Khazen, p.93.

15- Ibid, p. 11.

16- Rabinovitch, p. 25.

17- Wislow, p. 177.

18- Kamal Salibi, Crossroads to Civil War, Lebanon 1958 – 1976, (Caravan Delmar: New York, 1976), p. 35, 45, 73.

19- Naomi Weinberger, Syrian Intervention in Lebanon: The 1975 – 1976 Civil War (New York: Oxford University Press, 1986), p.4.

20- Deeb, p. 2-3.

21- Fouad Ajami, The Vanished Imam, Musa Al Sadr and the Shia of Lebanon (Ithaca: Cornell University Press, 1986). P. 57, 63, 160.

22- El Khazen, p. 148, 250

23- Usama Makdissi, The Culture of Sectarianism: Community, History, and Violence in Nineteenth Century Ottoman Lebanon (Berkley, California: University of California Press, 2000), p.9.

24- Edward Said as quoted in Peter Gran, Beyond Eurocentrism, A New View of Modern World History (New York: Syracuse University Press, 1996), p. 5.

25- Bernard Lewis, What Went Wrong, Western Impact and Middle Eastern Response? (New York: Oxford University Press, 2002), p. 159, 152 – 155.

26- Peter Gran, p.6.

27- مهدي عامل، في الدولة الطائفيّة (بيروت: دار الفارابي، 1989)، ص 143، 209 ـ 210، 205، 19، 24.

28- مهدي عامل، النظريّة في الممارسة السياسيّة ـ بحث في أسباب الحرب الأهليّة في لبنان (بيروت: دار الفارابي، 1985)، ص 160 ـ 162.

29- Makdissi, pp. 2. 52, 11, 23, 60 -61, 67.

30- Carolyn Gates, The Historical Role of Political Economy in the Development of Modern Lebanon (Beirut: Center for Lebanese Studies, September, 1989), p. 6 -8.

31- Kais Firoo, Inventing Lebanon, Nationalism and the State Under the Mandate (London: I.B. Tauris. 2003), p. 16. 18.

32- Gates, p. 13.

33- Firoo, p. 81.

34- Gates, p. 5.

35- Firoo, pp. 77 – 79, 127, 151 – 154

36- Gates, p. 19 – 21.

37- Tabitha Petran, The Struggle Over Lebanon (New York: Monthly Review Press, 1987), pp. 16 -16, 56, 59 – 62, 126 – 128.

38- إيغور تيموفييف، كمال جنبلاط، الرجل والأسطورة، (بيروت: دار النهار للنشر، 2001)، ص 97.

39- Gran,pp. 11, 140, 194 – 196.

40- Firoo,p. 71.

جمال واكيم

أستاذ التاريخ والعلاقات الدوليّة في الجامعة اللبنانيّة. من كتبه: صراع القوى الكبرى على سوريا، السياسة الخارجيّة التركيّة، سوريا ومفاوضات السلام في الشرق الأوسط.