الحلم وكافكا في الغرفة
09-10-2017

 

أقرأُ اسمَه على الكتب. صفٌّ طويلٌ من الروايات والمجموعات القصصيّة والشعريّة تستريح على الرفوف منذ سنوات، في انتظار قراءتها.

سكونٌ مريحٌ يخيِّم على الغرفة، وقلمُ الحبر يسلك طريقَه بصعوبةٍ على الورق الأبيض المرعب.

بعضُ العناوين تتجمّع، مكوِّنةً حلفًا من الأوراق الصفراء المتراكمة: المسْخ، المحاكمة، فنّان الجوع، أمريكا، القصر، وبعض الرسائل من ميلينا جيسينسكا. مسكينةٌ هذه المترجمة الشابّة التي وهبتْ نفسَها ذلك المجنونَ. إنّي لأراه غارقًا في سواده وسواد الصورة في رأسه المسطّح وعينيه الغائرتين. إلى جانبها صورةٌ أخرى له واقفًا في ساحة فسيحة، مرسلًا إليّ بسمةً صفراويّة.

النوم يداعب جفنيّ. أصابعي ترتخي.

خنفساء تخرج من بين الكتب، تدبّ مسرعةً. حتّى إذا بلغت السقفَ، انتصبتْ "أنتاناتُها" وقد أزعجها ضوءُ المصباح. تتحرّك الآن فوق أوراق الجداريّة. لا أخاف؛ هذا جريجوار يكتشف المكان. هذا الحيوان مقزِّز كصانعه. كلّما نظرتُ إليه أحسستُ بخللٍ في نظام القوى العقليّة. هاهو جريجوار يختفي تحت الفراش. لا يقلقني ذلك، ولكنّه لايشعرني بالراحة أيضًا.

قفلُ الباب يدور. باب الغرفة يُفتح. أزيزٌ مضنٍ يخدش طبلةَ أذني. أرى يدًا تمتدّ. هيئةٌ متوسّطةٌ تظهر. الآن صرت أشعر بالرّعب. يُطلّ بوجهه العبوس. يدخل الغرفةَ في هدوء. "قرأتَ كيف دخلوا عليّ؟ بلا استئذانٍ ولا إنذارٍ ويتّهمونني وأبقى في صراخٍ موقّت،" قالها وقد علت محيّاه بسمةٌ متواضعة. أرفع سبّابةً مرتعشة نحوه، وأتلفّظ بهذه الكلمات: "أنت جوزيف ك.؟" يجيب محافظًا على هدوئه: "أنا هو جوزيف التيس. وهل ترى في ملامحي شخصًا آخر؟" ويضيف: "لا أدري لماذا يرسلونني إلى ذلك الرسّام البائس.هل يروْن أنّ حلّ مشكلتي بين يديه؟ وما دخلي في حكاية الباب الذي كاد القصّ يفجّر بها رأسي؟ ثمّ ما ذلك الحلم الذي جعلني أحلمه؟ ألم يجد مكانًا غير المقبرة تحت قرع الطّبول؟ ما أفشل كافكا وأحمقه!"

أبقى مبهمًا أمام هذا الضائع في ملكوت روايته. ينظر إليّ بتركيز كبير، منتظرًا إجاباتٍ على مَسائل لا أستطيع حلّها أنا نفسي. يجبرني على الكلام باتّساع حدقتيه: "آآآه.. وما دخلي أنا في مآسيك، أنا مجرّ.." يحتدّ صوتُه قليلًا: "كيف لا دخل لك؟ ألا تعلم أنّني أعيش الأحداثَ نفسَها كلّما أعدتَ قراءة الرّواية ــــ وقد قرأتُها أربع مرّات؟ أنا لا أدري ما السحريّ في حكايتي الرتيبة كي تعجبك إلى هذا الحدّ وتبقيني على قيد الحياة!"

يحملق جوزيف ك. فيّ مليًّا. يجول ببصره متقزّزًا من ملجإي المبعثر الأثاث كالعادة. يستريح على الأريكة، محافظًا على برودته القاتلة. يخرج جريجوار من تحت الفراش بهيئته الإنسانيّة. يبدو التشوّه في عموده الفقريّ بسبب التفّاحة التي قسعته. يزحف نحو كتاب المسخ مشيرًا إليه. أعطيه إيّاه. يقلّب صفحاتِه. يقطع بعضَها. يضعها في فمه ويلوكها، ثمّ يبتلعها، ويختفي مجدّدًا تحت الفراش، تاركًا الكتابَ على الأرض. ينظر إليه ك. ساخرًا: "أنا لا أستطيع أن ألوكَ كلّ الكتاب. لقد فعل جريجوار ذلك ليتخلّص من الألم في جسمه الخنفسائيّ. ناولْني المحاكمة!"

أعطيه إيّاه. ينظر إلى صورة الغلاف مشمئزًّا؛ لعلّ ذلك الرسّام البائس تيتوريلّي هو مَن رسمها. ينظر إلى الغلاف الخلفيّ. تقع عيناه على كلماتٍ صادمة. تتّسع حدقتاه. قشعريرةٌ تسري في أوصاله. يقرأ بصوتٍ واضح: "وجوزيف لم يكن مذنبًا إلاّ بوجوده." ينظر إليّ متفاجئًا من غبائه! كيف لم يدرك هو نفسُه ذلك؟ كيف لم يعلمْ منذ بداية تكوّنه أنّ المشكل يكمن في وجوده؟
تمتلئ عيناه دموعًا. لأوّل مرّة يشعر بإنسانيّته. لأوّل مرّة يُسعفه الإحساس. غدا نادمًا على كلّ هذه العقود التي ضيّعها، ناقمًا على صانعه، وصرتُ أخاف من أفعاله. أشعلُ سيجارةً وأناوله إيّاها. أشعل أخرى لنفسي. يسحب منها أنفاسًا طويلةً بشراهة، ثمّ يطفئها بين صفحات الكتاب. يشعر بألمٍ ما يجتاح بدنَه. يتأكّد مجدّدًا من شدّة حمقه منذ البداية. يلتقط القدّاحة من على المكتب. تتشبّث النارُ بالأوراق. يشعر باللّهب يلتهم قدميه. يبتسم رغم الألم، ويتحوّل شيئًا فشيئًا إلى رماد.

فجأةً يظهر كافكا من ورائي مربّتًا على كتفي. أفتح عينيّ بصعوبة. أجد أبي محاولًا إيقاظي وقد لاحظ كمًّا من الأوراق المكتوبة. قال وهو يساعدني على النهوض: "أهذه هي العلوم التي تراجعها كلّ ليلة؟!"

لم أجب؛ فقد وصلتُ إلى درجةٍ متقدّمةٍ من الوعي لا أجيب فيها غيرَ نفسي.

تونس

اسامة جلالي

طالب في الثانويّة العامّة في تونس، من مواليد 1999.