الدين بعدًا إيديولوجيًّا للصراعات الجيوسياسيّة
04-04-2016

 

لا يقتصر دورُ الدين على البعد الروحانيّ في حياة المرء، بل يتعدّاه ليشكّل أحدَ المكوّنات الرئيسة لهويّة الفرد والمجتمع. كما أنّه أدّى دورًا رئيسًا في صياغة منظومة القيم السياسيّة للدول، حتّى قبل ظهور الأديان السماويّة، إذ شكّل أحدَ أوجه التعبير عن التوجّهات والولاءات السياسيّة.

حتّى أواخرِ القرن الرابع، كان الدينُ الرسميُّ للدولة الرومانيّة هو تأليهَ الإمبراطور. وكان عدمُ عبادة الإمبراطور جريمةً يُعاقَب عليها بالموت، لأنّ ذلك اعتُبر عداءً للدولة، وخروجًا على الانتظام العامّ. وفي القرن الرابع، حين لم يعد الجيشُ الرومانيّ والبيروقراطيّةُ الرومانيّة قادريْن على لمّ شمل الدولة والمجتمع الرومانييْن، تمّ تبنّي المسيحيّة إطارًا إيديولوجيًّا جامعًا للدولة.

بعد ظهور الإسلام في القرن السابع الميلاديّ، شكّل الدينُ عاملًا من عوامل التعبير عن الولاء السياسيّ. ولم يكن عقابُ "المرتدّ" عن الإسلام ناتجًا من التمرّد على الإرادة الإلهيّة فحسب، بل لاعتباره خروجًا على الدولة والانتظام العامّ كذلك. ولذلك فإنّ التعبير عن السخط على الحكم القائم تجسّد باعتماد مجموعةٍ ما لمذهبٍ مغايرٍ للمذهب الرسميّ للدولة، وهو ما يفسِّر انتشارَ الفِرقِ الإسلاميّة على مختلف مشاربها بدءًا من القرن الأوّل الهجريّ.

 

الدين بعدًا من أبعاد السياسة في العلاقات الدوليّة

شكّل الدينُ بعدًا من أبعاد السياسة في العلاقات الدوليّة منذ فجر التاريخ. وخلال القرنين الخامس والسادس الميلادييْن تحديدًا شكّل أحدَ أوجه الصراع على الجزيرة العربيّة وبلاد الشام والعراق: بين دولة فارس الساسانيّة من جهة، والإمبراطوريّة الرومانيّة البيزنطيّة من جهةٍ أخرى. ففي حين شجّع الإمبراطورُ البيزنطيّ جوستينيان على انتشار المسيحيّة في جزيرة العرب، أعلن الفرسُ حمايتَهم لليهود؛ وما اعتناقُ ملوك حِميَر لليهوديّة آنذاك إلّا تعبيرٌ عن تحالفهم السياسيّ مع الدولة الساسانيّة في مواجهة الحبشة وبيزنطة المسيحيّتين.

بعد ظهور الإسلام في القرن السابع، اتّخذ البعدُ الدينيّ للصراع في منطقة الشرق الأدنى مكانةً خاصّةً، ولا سيّما بعد القرن العاشر الميلاديّ، وتحديدًا في بلاد الشام، التي شكّلتْ محورَ صراع بين مصر من جهة، وبلادِ ما بين النهرين بامتدادٍ صوب فارس من جهةٍ أخرى. وكان الأناضول يدخل بين الفينة والأخرى إلى الساحة محاولًا بسطَ نفوذه، خصوصًا على شمال بلاد الشام. كما اتّخذ الصراعُ بين بيزنطة والدولة الفاطميّة والعراق البويهيّ بعدًا دينيًّا: فكان الشيعة الإسماعيليون يُعتبرون موالين لمصر، فيما كان الشيعةُ الإثناعشريّون موالين للعراق البويهيّ، والمسيحيّون الأُرثوذوكس موالين لبيزنطة.(1)

في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، بات الاستقطاب الدينيّ قائمًا بين مذهبين من مذاهب أهل السنّة: الشافعيّة والحنفيّة. فلقد دار الصراع، على الشرق الأدنى آنذاك، بين مصر المملوكيّة، وفارس المغوليّة المتحالفة مع المغول في الصين. وكانت الألخانة المغوليّة، بالتحالف مع مملكة أرمينيا الصغرى، تحاول الوصولَ إلى شرق المتوسّط في شمال بلاد الشام، فتحاول مصرُ المملوكيّة منعَها. ولأنّ مصر كانت تُعلي من شأن المذهب الشافعيّ، فيما كانت إيران على المذهب الحنفيّ، فلقد بات التنافسُ بيّنًا بين هذين المذهبين. في المقابل كان السنّة المالكيّون على خصومةٍ مع أتباع المذهب الحنبليّ، ما يفسّر كلامَ ابن بطوطة عن ابن تيميّة، حين وصل إلى دمشق والتقاه، متّهمًا ايّاه بالجنون.

 

الدين والشرق الأدنى في العصر الحديث

شهدتْ بدايةُ القرنُ السادس عشر انتزاعَ البرتغاليّين الهيمنةَ على طرق التجارة من التجّار العرب، فتراجع النفوذُ المصريّ المملوكيّ بسبب فقدان مصر مصدرًا اقتصاديًّا أساسيًّا. في المقابل، صعد نجمُ العثمانيين في البلقان والأناضول. في ظلّ تلك الأوضاع قام الصفويون التركمان باحتلال تبريز لتكون منطلقًا لهم للسيطرة على إيران، وأرادوا تحويلَ إيران إلى المذهب الشيعيّ الإثني عشريّ بغية إعطائها هويّةً متمايزة عن العثمانيين الحنفيين وعن مصر الشافعيّة. وحين حاولوا إقناع علماء العراق والبحرين بالتعاون معهم، رفض هؤلاء بناءً على تعاليم المذهب الجعفريّ التي تَعتبر أنّ أيّ خلافة لا يمكن أن يقيمَها إلّا الإمام المهديّ، صاحبُ الزمان. وحدهم علماءُ جبل عامل ارتضوا التعاونَ مع الصفويين، وكان لهم الدورُ الأبرزُ في تحويل إيران إلى المذهب الجعفريّ الإثني عشريّ.

 

الدين والصراع الجيوسياسيّ في العصر الحديث

بالانتقال إلى زمننا الراهن، فإنّنا نسمع كثيرًا عن صراع سنّيّ ـــ شيعيّ في الشرق الأوسط. أوّلُ مَن تحدّث عن "هلال شيعيّ" كان الملك عبد الله الأردنيّ، وهو لم يخترع هذا التعبير بل "سمعه" من دوائر أميركيّة، ولغرضٍ سياسيّ. لذلك، ولتبيان أساس الصراع القائم في المنطقة، علينا العودةُ إلى جوهر الصراع الجيوسياسيّ هناك، وهو ناتجٌ من عمليّة تحوّلٍ في النظام الدوليّ: من نظامٍ أحاديِّ القطب، إلى نظامٍ متعدّدِ الأقطاب.

منذ التسعينيّات وَعَت الولاياتُ المتّحدة أنّ هيمنتها على مقدّرات العالم بعد انهيار الاتّحاد السوفياتيّ آيلةٌ إلى التراجع، نتيجةً لصعود قوًى منافسةٍ لها، هي: الصين وروسيا والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل، وأوروبا الغربيّة نفسُها. وقد بذلتْ جهدها حتّى تتمكّن من إبقاء هذه الأخيرة تحت هيمنتها كي تكون جسرَ عبورٍ لها إلى البرّ الأوراسيّ، علمًا أنّ الاستراتيجيّة الأميركيّة تقوم على منع اتّحاد أوراسيا تحت هيمنة قوّةٍ واحدة أو ائتلاف قوًى واحد. وقد شكّل صعودُ الصين، وتحالفُها مع روسيا ووسط آسيا، خطرًا على التوجّهات الجيوسياسيّة الأميركيّة. وعزّز هذا التوجّهَ التقاربُ بين إيران من جهة، وروسيا والصين من جهةٍ أخرى.

هذا الأمر دفع بالولايات المتّحدة إلى السعي إلى محاصرة روسيا والصين في شرق آسيا، ومنعهما من الخروج بحُرّيّة إلى طرق الملاحة البحريّة في المحيط الهادئ، عبر تشكيل طوقٍ من الجزر التي تسيطر عليها الولاياتُ المتّحدة، وهي اليابان وكوريا الجنوبيّة وتايوان والفليبين وأندونيسيا وماليزيا، وعبر خلق أزماتٍ في تايلند وميانمار بين المسلمين والبوذيين. أمّا في منطقة البلطيق وشرق أوروبا فقد وسّعت الولاياتُ المتّحدة من عضويّة الناتو بغية منع روسيا من الوصول إلى شرق أوروبا ووسطِها وبحرِ البلطيق، ومن الخروج منه نحو الأطلسي. أمّا في منطقة البحر الأسود، ففجّرتْ أزمةَ أوكرانيا، ودفعتْ ببلغاريا ورومانيا إلى معاداة روسيا.

 

حقيقة "العثمانيّة الجديدة" و"الإسلام المعتدل"

في منطقتنا، كانت إيران تحقّق اختراقاتٍ في الجبهة التي أنشأتْها واشنطن لمنع أوراسيا الصاعدة من الوصول إلى شرق المتوسّط. ولقد أطلّت إيرانُ وروسيا، عبر تحالفهما مع سورية، على شرق المتوسّط، وبات ميناءُ طرطوس آخرَ مرفأٍ على المياه الدافئة بالنسبة إلى روسيا. وعبر التحالف مع حزب الله، باتت إيران تطلّ على الخاصرة الرخوة للأمن القوميّ الإسرائيليّ. كما أنّها، عبر تحالفها مع "حماس" و"الجهاد الإسلاميّ" في غزّة، باتت تدقّ إسفينًا بين "إسرائيل" ومصر. وعبر التحالف مع "أنصار الله" في اليمن، باتت تطلّ على باب المندب.

ولأنّ نظامَ مبارك والسعوديّة لم يتمكّنا من احتواء ما اعتبره الأميركيون تمدّدًا إيرانيًّا، فلقد كان لزامًا على واشنطن أن تُسقط اعتمادَها على "دول الاعتدال العربيّ،" وأن تستبدلها بإدخال تركيا إلى المنطقة تحت مسمّى "العثمانيّة الجديدة." ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ صاحب فكرة "العثمانيّة الجديدة" هو المؤرّخ الأميركيّ الشهير بيرنارد لويس، وهي تهدف إلى تسليم السلطة إلى "إسلام سنّيّ معتدل" لمواجهة "إسلام شيعيّ متطرّف" واحتوائه؛ أما في بعدها الجيوسياسيّ فتهدف إلى إقامة تحالفٍ بين ثلاث عواصم: أنقرة والرياض والقاهرة.

 

الخلاصة

إنّ الصراعات الدينيّة التي يتمّ الحديثُ عنها حاليًّا ما هي إلّا غطاءٌ لصراعاتٍ جيوسياسيّة، تتحوّل لتصبح جيواقتصاديّة وجيوإثنيّة وجيوقوميّة وجيودينيّة أيضًا. ولذلك فإنّ أفضلَ سبيلٍ لمعالجة الاستقطاب الدينيّ هي في فهم طبيعة الصراع الجيوسياسيّ القائم في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط. هكذا يصبح الحوارُ بين الأديان حوارًا فكريًّا حقيقيًّا، لا غارقًا في الأهواء السياسيّة الآنيّة.

بيروت

(1) هكذا يمكننا أن نفهم أبيات المعرّي الشهيرة، حين وصف الفتنة في اللاذقيّة قائلًا: "في اللاذقيّةِ فتنةٌ ما بين أحمد والمسيحْ/ هذا بناقوسٍ يدقُّ وذا بمئذنةٍ يصيحْ/ كلٌّ يعظِّم دينَه يا ليتَ شِعري ما الصحيحْ؟"

 

جمال واكيم

أستاذ التاريخ والعلاقات الدوليّة في الجامعة اللبنانيّة. من كتبه: صراع القوى الكبرى على سوريا، السياسة الخارجيّة التركيّة، سوريا ومفاوضات السلام في الشرق الأوسط.