السلاح في فكر غسّان كنفاني (ملفّ)
09-07-2016

 

ملاحظة أولى: يصعب أن تَكتب نصًّا يحيط بكافّة جوانب غسّان كنفاني، وما تركه لنا من إرث ثقافيّ غزير قبل أن يُستشهد وهو في السادسة والثلاثين. وعليه، فإنّ هذه المقالة تنحصر في رؤيته إلى دور الوعي والسلاح، وفعّاليةِ كلٍّ منهما وتأثيرِه في الآخر.

ملاحظة ثانية: يرفض كنفاني الغيابَ الأبديَّ في شعاب النسيان لأنّ الواقع الفلسطينيّ لا يزال يصرخ بضرورة استعادة المشروع الثوريّ الذي أراده. فهذا الكاتب السياسيّ المثقف الذي استُشهد قبل 44 سنةً ما يزال يَطرح علينا الأسئلة الحارقة التي لم نعثرْ على جوابٍ لها بعدُ، ولم تجد حاملَها السياسيَّ الاجتماعيَّ بعدُ؛ وعلى رأس هذه الأسئلة: دورُ السلاح والعنفِ الثوريّ. وعليه، فإنّ كنفاني ما يزال يُشكّل، بمعنًى ما، بوصلةً سياسيّةً تشير إلى الأساس الجوهريّ في مقولة "حقّ الشعوب في مقاومة الاستعمار،"وما زالت أعمالُه قاعدةً فكريّةً وسياسيّةً متقدّمةً ترابط حتى الآن في موقعها النضاليّ والفكريّ.

ملاحظة ثالثة: الفكرة/ القضيّة التي استُشهد كنفاني من أجلها لم تنتصرْ بعدُ. ولذلك فإنّ مقولاتِه وأفكارَه وأسئلتَه الكثيرة ستظلّ تَدقّ جدرانَ الذاكرة و"الخزّان." ولأنّ هذه المقولات والأفكار والأسئلة طُرحتْ من قلب الوجع المتمادي حتى اليوم، فإنّها ستظلّ طازجةً وطريّةً وراهنةً كأنّه كتبها أمس. أكثر من ذلك: إنّ ما ما حذّرنا منه غسّان قد وقع فعلًا أمام ناظريْنا، مذ كَتب عن معضلات المقاومة الفلسطينيّة ودورِ الأحزاب والقيادة والمثقفين ـــ وكلّها أمورٌ لا نزال نعانيها، وربّما بحدّةٍ أشدّ.

***

"إنّ كلّ قيمة كلماتي كانت في أنّها تعويضٌ صفيقٌ وتافهٌ لغياب السلاح."(1)

لماذا كتب غسّان كنفاني العبارةَ أعلاه؟

ولماذا كتَب عباراتٍ مُشابهة، مثل: "خُلقتْ أكتافُ الرجال لحمل البنادق، فإمّا عظماءُ فوق الأرض، أو عظامٌ في جوفها"؟

وكيف خاض معركةً فكرّيةً ضروسًا دفاعًا عن العمليّات الفدائيّة خارج الوطن المحتل، ودفاعًا عن وجود السلاح في قبضة اللاجئين؟

ولماذا حرص دائمًا على إبراز صورة الفدائيّ المُقاتل حتى في مُلصقاته الفنيّة ورُسومه، وعلى تظهير "الرموز" التي تحرِّض على العنف الثوريّ وعلى ما أسماه "الحرب الشعبيّة المسلّحة الطويلة الأمد"؟

إنّ العودة إلى مقالات غسان السياسيّة، وبخاصّةٍ مع انطلاق العمل الفدائيّ، ستُبرز أمامنا عناوينَ مثل: "وحدة الكفاح المسلّح،" و"وحدة البنادق في مواجهة العدوّ،" و"وراء العدوّ في كلّ مكان." وسوف نجد أنّ أغلفة مجلة الهدف، التي أسّسها كنفاني في بيروت، تحتلّها صورُ الفدائيين، وصورُ معسكرات الأشبال والزهرات، وأخبارُ العمليّات الفدائيّة ــــ من قطاع غزّة، مُرورًا بالجنوب اللبنانيّ، وصولًا إلى أثينا وبروكسل.

لقد كان كنفاني المُنظِّرَ الأوّلَ للعنف الثوريّ الفلسطينيّ في مواجهة الإمبرياليّة والصهيونيّة. وإنّ التصاق هذا الكاتب الشهيد بالعمل الفدائيّ لم يكن ارتباطًا تنظيميًّا، ولم يكن بدافع "التشبيح" أو بداعي "الثأر،" وإنّما كان ارتباطًا وثيقًا بفكره السياسيّ، وبقناعاته، وبالنهج الذي دافع عن تماسكه المنطقيّ والأخلاقيّ حتى لحظة استشهاده. بل كان هذا الارتباطُ العمليُّ الوثيقُ هو أحدَ أهمّ أسبابِ اغتياله.

وإذا كان الشهيد وديع حدّاد هو المهندسَ الثوريّ الأوّلَ للعمليّات الفدائيّة الخاصّة خارج فلسطين، فإنّ الشهيد غسّان كنفاني كان المثقفَ الثوريَّ الأولَ الذي فسّر للعالم معنى العمل الفدائيّ الفلسطينيّ وأهدافَه، في وضوحٍ شديدٍ لا يقبل التأويلَ أو المراوغة. وهنا انحاز كنفاني إلى الكفاح المسلّح نهجًا إستراتيجيًّا وأسلوبًا نضاليًّا وحيدًا لاستنزاف العدوّ الصهيونيّ، وصولًا إلى التحرير والانتصار.(2) يقول عن عمليّات الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين في الخارج :

"إنّ ضربات الجبهة الشعبيّة هي الإعلامُ الثوريُّ الذي نجح في نزع الشمع عن الآذان الغربيّة التي لم تَسْمع في الماضي، ومَسحَ القذى عن العيون الأوروبيّة التي لم تستطعْ أن ترى الحقيقةَ في السابق. وهذا هو بالذات التفسيرُ الوحيدُ الكامنُ وراء ظهور مقالاتٍ مثل مقالات أرنولد تويْنبي، المؤرِّخِ البريطانيِّ العالميّ، أو [لظهور] لجانٍ عفويّةٍ شُكّلتْ طوعًا لدعم الجبهة الشعبيّة وقضيّةِ العرب في فلسطين، كما حصل في إيطاليا وسويسرا والسويد وباكستان، أو برقيات ورسائل التأييد التي تصلنا من أمريكا الشماليّة وأمريكا اللاتينيّة وغيرهما."(3)

من الاقتباس السابق يتّضح أنّ كنفاني أدرك مُبكّرًا أنّ العمليّات العسكرية هي، في حدّ ذاتها، الإعلامُ الثوريُّ الذي أراده، وأنّها ستعود بفائدةٍ سياسيّةٍ كبيرةٍ على قضيّة الثورة. ومعها أدرك أيضًا أنّ الكلمات والبيانات، مهما كانت قوتُها وقدرتُها على صياغة الموقف النظريّ، تظلّ ناقصةً وهشّةً إذا لم يَسْندْها فدائيٌّ يقظٌ وسلاحٌ حقيقيٌّ وقرارٌ سياسيٌّ واضحٌ. فالموقف السياسيّ يجب أن يُترجَمَ واقعًا على الأرض، بالعنف والقوّة، وأنْ لا يبقى مُجرّدَ حبرٍ على ورق. وفي هذا الصدد أيضًا كتب مُعلّقًا على عمليّة مطار اللدّ الشهيرة(4):

"كلُّ الّذي فعله فدائيّو اللدّ هو أنَّ كلّ واحدٍ منهم ‘قوّص’ مئةَ طلقة، ورمى قنبلةً يدويّةً واحدةً أو اثنتين، لمدّة دقيقتين، وذلك في قلب أرضٍ محتلَّة، وعلى موقعٍ استراتيجيّ، ضدّ عدوٍّ ما زال يذيقُنا الموتَ كلّ ثانية. وهذا اسمُه عنفٌ وهمجيّةٌ وبربريّةٌ وقتلٌ وفتكٌ ولاإنسانيّةٌ ووحشيَّة! أمَّا ذلكُما الطُنّان الألفان – أيْ مليونا كيلو من الموت – في أقلّ من خمس ساعات، فوق عددٍ لا يُحصى من القرى الفيتناميّة؛ [وأمّا] القنابلُ ذاتُ الشّظايا البلاستكيَّة التي لا تَقْبل بأن تقتلَ إلّا بعد أن تعذِّبَ الجريحَ شهرين أو ثلاثة شهور؛ أمَا هذه الجريمة الجماعيّة، التي هدفُها الاحتلالُ وليس التحرير، فاسمُها في قاموس الصحف والإذاعات: غارة إستراتيجيّة!"

وفي مواجهة عدوّ صهيونيّ قويّ، مرتبطٍ عضويًّا بمصالح الإمبرياليّة والرجعيّة، رأى غسّان أنّ الشعب الفلسطينيّ لا يمكن أن يحرّر نفسَه إلّا بامتلاك عناصر القوة، وعلى رأسها: السلاح. وقد رأى أنّ غياب السلاح، وضعفَ الإعداد والتدريب، كانا سببيْن رئيسيْن لضياع الوطن، وأنّ أحد أسباب هزيمة الثورة الكبرى في فلسطين (1936 ـــ 1939) تمثّل في قلّة السلاح والعجز عن توظيفه في المعركة كما يجب.

***

لكنّ كنفاني ربط بين السلاح والإرادة. ولهذا فإنه لم يسْخرْ من "مرتينةٍ" قديمةٍ لصيد السناجب والأرانب، صارت في قبضة فلّاحٍ شابٍّ إداةً قتاليّةً فاعلةً في فكّ الحصار عن الرجال في قلعة جدّين بصفد؛ ذلك لأنّ خلف هذه المرتينة كانت تقبع إرادةٌ فولاذيةٌ في القتال والنصر.(5) وفي الوقت عينه سخر كنفاني من قيادةٍ فلسطينيّةٍ رسميّةٍ جاهلة، عديمةِ الكفاءة والضمير؛ وهاجم وعيًا ريفيًّا مزيّفًا، مثّله زعيمٌ ومختارٌ تقليديّ غارقٌ في الأوهام.(6) لقد نظر كنفاني إلى السلاح باعتباره كومةً من الحديد لا قيمة لها، ما لم يلازمْها الوعيُ والارادةُ والرؤيةُ وتحديدُ الهدف الصحيح.

لقد اختار غسّان كنفاني طريقًا مغايرًا لدور المثقف الفلسطينيّ التقليديّ الذي تخلّى عن الثورة الفلسطينيّة وأهدافها، فيما كان الفلّاحُ البسيطُ الفقير يحمل البندقيّة القديمة ويصعد إلى الجبال. أراد غسّان أن يستفيد من درس التاريخ هذا، وأن يكون المثقفَ النقيض، فاعتبر أنّ دوره السياسيّ يجب أن يكون في خدمة العمل الفدائيّ، الذي انخرط فيه من موقع الناقد والمشارك والحزبيّ والناطق الرسميّ باسم الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين.

لكنّ غسان لم يكتفِ بربط السلاح بالوعي والإرادة والموقفِ السياسيّ الواضح والجذريّ، بل أشار أيضًا الى جُملةٍ من المَظاهر البائسة التي كانت قد بدأتْ تتسلّل إلى ساحة الكفاح المسلّح. فهو كان يحصر دورَ السلاح في الأرض المحتلة، وميادينِ القتال، وعلى الحدود، وفي المطارات، وفي حماية الجماهير مِن تغوّل الأنظمة، لا في التشبيح على البؤساء وحراسةِ القيادات وعصاباتِ الزعرنة... وغيرِ ذلك من القاذورات والأوحال التي نراها اليوم مجتمعةً في سلطة أوسلو! وإذا كان غسّان قد انتقد في حينه ما كان يسمّى "محضَ مظاهر سلبيّة،" فإنّ هذه المظاهر باتت اليوم هي القاعدةَ والأساسَ في الواقع الرسميّ الفلسطينيّ. وبذلك، صار غسان راهنًا أكثر ممّا كان في حينه. وهذا بالضبط ما يفسّر لنا السؤالَ المُكرّر: "لماذا لم يختفِ غسان كنفاني؟" ذلك لأنّ الجواب سيكون سؤالًا معاكسًا: وهل اختفى "أبو الخيزران،" أو القيادةُ التقليديّةُ العاجزةُ البائسةُ الفاسدةُ، كي يختفي غسّان وأمثالُه؟(7)

***

إنّ قوى المقاومة الفلسطينيّة والعربيّة تحتاج اليوم إلى مراجعةٍ شاملةٍ تتضمّن قراءةً جديدةً لفكر غسّان كنفاني، وإلى تطوير مفاهيمها حول دور السلاح وماهيّته ووظيفته. والمطلوب من الكتّاب والمثقفين الثوريين، ومن الأحزاب التقدميّة العربيّة، استعادةٌ متجدّدةٌ لفكر غسّان السياسيّ باعتباره مشروعًا نقديًّا فاعلًا يسهم في فهمٍ أعمق للعلاقة بين الرؤية السياسيّة وبين أشكال الكفاح ـــ ومنها المقاومة المسلّحة.

بيروت

1- مقولة شهيرة كتبها في غزّة، موجودة في: رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمّان (بيروت: دار الطليعة، ط 1، 1992).

2- ملاحظة لا بدّ منها: لم تكن أساليبُ المقاطعة منتشرةً في الوعي الوطنيّ والعالميّ آنذاك كما هي اليوم، كي تكون رديفًا للكفاح المسلّح والشعبيّ.

3- كتاب الهدف 2، مناقشات حول العمليّات الخارجيّة، 1970، ص 4.

4- عمليّة قام بها مقاتلو الجبهة الشعبيّة والجيش الأحمر اليابانيّ في 31/5/1972 في مطار اللدّ داخل الكيان الصهيونيّ وأدّت إلى مقتل العشرات من الصهاينة واستشهاد أفراد المجموعة وأسْر أحدهم.

5- الإحالة هنا على رواية عن الرجال والبنادق لغسّان كنفاني.

6- الإحالة هنا على كثير من روايات غسان، وخصوصًا: رجال في الشمس، وما تبقّى لكم.

7- أبو الخيزران، كما لا يخفى، هو سائق شاحنةٍ يقود فلسطينيين إلى حتفهم في صهريج يعْبر إلى الكويت في رواية كنفاني، رجال في الشمس.

خالد بركات

كاتب عربيّ من فلسطين المحتلّة ويقيم في الخارج.