الظلّ
13-11-2016

 

 

أضاء نورُ الشمعة كاملَ الحائط الذي يتصدّر الغرفة. اعترض ضوء الشمعة في جلوسه للعشاء، فبدأ عرضٌ مسرحيّ، في غفلةٍ منه، على الحائط: يمدّ الظلُّ يده نحو الطعام على الطاولة، ثمّ يعيدها نحو فمه. يكرّر هذه الحركةَ حتّى يشبع. يقف الظلُّ. يحمل صحنَ الطعام بيد، والشمعةَ بالأخرى، ويتّجه إلى المطبخ. تخفت الإضاءةُ قليلًا، ثمّ تنطفئ.

تعود الإضاءةُ تدريجيًّا. الظلّ جالسٌ على الأريكة. يظلّ جامدًا لبرهة، قبل أن يقع تطوّرٌ مفاجئ في العرض: صوتٌ ملأ الغرفة! إنّه صوتُ الظلّ يفتتح الفصلَ الثاني من العرض المسرحيّ، الذي ألّفته الوحدةُ وأخرجه الليلُ. يتحرّك الظلُّ على منصّة العرض، وتنبعث في يديه وقدميه حيويّةٌ كبيرةٌ جعلتْ حضورَه يطغى على النور. علا صوتُه وهو يسرد قصصًا عن شجاعته وقوته، وكيف تغلّب ببديهته الحاضرة على صاحب المتجر، وأفحمه بالكلام، وكيف أُعجبتْ به الفتاةُ الجميلة، وزرع على خدودها ورودَ الخجل. تنطفئ الشمعة معلنةً انتهاءَ العرض، وهو في قمّةِ انفعاله.

كلَّ مساء، يبدأ العرض. قصصٌ جديدة كلّ يوم. أحداثٌ مشوِّقة، بطلُها الظلُّ الذي تحسّن أداؤه وتنوّعتْ أدوارُه. اليوم، مثلًا، يؤدّي دورَ شابٍّ قويّ يصرع رجلًا شرّيرًا، وقد شاركه في العرض ظلُّ الأريكة، فأدّى دورَ التابوت الذي دُفن فيه الشابُّ المهزوم، الذي مثّله ظلُّ الكرسيّ.

كان لهذه العروض أثرٌ إيجابيّ كبير في حياة الشابّ، الذي وجد في ظلّه خيرَ رفيقٍ يؤْنسه في وحدته ويسامرُه في سهراته. العرض اليوم يحكي قصّةَ حبٍّ حزينة. على الحائط ــــ المنصّة ظلُّ فتاةٍ طويلة، ذاتِ جسدٍ جميلٍ يعانق ظلَّه. استمتع بالعرض حتّى النهاية، ثمّ أنهاه بالخروج من الغرفة آخذًا النورَ معه.

وقف الشابّ في ظلمة المطبخ. لعن الشمعةَ التي وقعتْ من يده وانطفأ نورُها. خرج يتلمّس جدرانَ المنزل ببطء عائدًا إلى غرفته. حين بلغ بابَها سمع صوتًا خافتًا. بدا وكأنّه حوارٌ بين شخصين يتحدّثان عنه، ويلومانه لأنّه لا يقدّر عروضَهما التي تسلّيه وتبقي للياليه معنًى. صرخ بصوتٍ عالٍ مرتجف: "من هناك؟" لم يجبْه أحد. عاد من حيث أتى، وجثا على ركبتيْه. بحث عن الشمعة وهو يرتجف خوفًا. أشعلها وعاد إلى الغرفة، فلم يجد أحدًا.

***

ــــ ماذا بك؟ ألم تنم البارحة؟

ــــ أريد أن أستشيركَ في أمر.

 ــــ تبدو قلقًا. ما الأمر؟

قصّ على صاحب المتجر ما جرى في الليلة السابقة. نقل إليه معظمَ الحوار الذي دار في الغرفة، وأخبره أنّه لم يغادر المنزلَ لأنّه خاف أن يعلما أنّه فضح أمرَهما فيقتلاه، وأنّه أبقى الشمعة مضاءةً وظلّ طوال الليل صاحيًا وإنْ كانت عيناه مغلقتين حتّى لا يشكّا في أمره، وأنّه خرج من المنزل عند طلوع الفجر، وهو الآن لا يدري ماذا يفعل.

 في المساء مرّ على المتجر رجلٌ عجوز، وكان صاحبُ المتجر قد قصّ عليه حكايةَ الأجير، فذهب معه إلى منزله ليساعده في حلّ مشكلته.

ــــ أين الغرفة؟

سأل العجوز بصوت واثق، فأشار إليها بيدٍ ترتجف.

ــــ تمالكْ نفسك.

ــــ دعنا نغادر. لقد غيّرتُ رأيي. أفضّل العودة إلى المتجر.

ــــ وماذا لو تبعوك إلى المتجر؟ تعلّقُهم قد يكون بك، لا بالمنزل. دعني أقوم بعملي.

استخدم العجوزُ كلَّ خبرته: قرأ التعويذات؛ حرق غابةً من البخور؛ ولم يعثر في الغرفة على أحد؛ لم يسمع صوتًا غير صوته يقرأ التعويذات. وتشكّلتْ لديه قناعةٌ بأنّ هذا الأجير يهلوس، وأنّ الوحدة قد فعلتْ بعقله فعلَها. قبل أن يعود إلى بيته قال: "أنا متأكّد أنّ أحدًا غيرك لا يعيش في هذا المنزل. أنصحك بألّا تبقى وحيدًا. ابحثْ عن امرأة وتزوّجها. افعلْ ما تشاء. المهمّ ألّا تبقى وحيدًا، حتّى لا تفقد ما تبقّى لك من عقل."

برغم امتعاضه من كلام العجوز عن عقله، فإنّه أحسّ بشيء من الاطمئنان، وأنّه استعاد بيته الذي ظنّ أنّه لن يراه ثانية؛ ألم يطمئنْه العجوزُ إلى أنّه وحيد تمامًا هنا؟!

***

جلس يتناول عشاءه بسعادة كبيرة، تزيد عن فرحته أوّلَ مرّة دخل فيها هذا البيت. تراقص نورُ الشمعة، وبدأ العرض. الظلّ ينظر نحو ظلّ الكرسيّ. "أرجوك ساعدْني يا سيّدي، إنّ أمرًا جللًا قد أصابني، وأنا في أمسّ الحاجة إلى مساعدتك." وقبل أن يجيبَ ظلُّ الكرسيّ، ولشدّة انفعاله ومبالغته في أداء دور ظلّه، تسبّب بحركةٍ من يده في إطفاء نور الشمعة. توقّف العرضُ قسرًا إلى حين إصلاح العطل الفنّيّ بعود الكبريت الموجود في المطبخ.

انبعث صوتٌ من عتم الجدار:

ــــ يبدو العرضُ جيّدًا اليوم، أرجو ألّا يكون متّصلًا بعرض البارحة، فلم يتسنَّ لي حضوره.

"وأنا أيضًا،" أجاب صوت آخر.

لم يطل الحوار؛ فقد عاد الشاب بسرعة ليكمل عرضه من حيث توقّف. "سيدي ساعدني." ثمّ جلس على الكرسيّ، وقال مجيبًا: "ما المشكلة؟" مقلّدًا صوتَ صاحب المتجر. وقف الظلّ على قدميه، وقال مستخدمًا الصوتَ الذي افتتح به العرض: "المشكلة أنّني لست وحدي في المنزل." وبدأ الظلّ يتحرك بخفّة على منصّة العرض الحجريّة، ويقول بصوتٍ عالٍ: "لقد سمعتهم يتهامسون عندما عدت إلى الغرفة دون أن أشعل الشمعة، وأنا الآن خائف من العودة إلى البيت ثانية، فماذا أفعل؟"

ــــ اذهب إلى صديقي، وهو رجل عجوز حكيم. هو الذي سيخرجهم من منزلك.

وقف مجدّدًا ليتّخذ صورةَ الظلّ الآخر، قال:

ــــ لكنّني لا أريدهم أن يخرجوا من البيت. أريد أن أكون معهم ظلًّا على حائط، أشاركهم. لا أخاف ولا أجوع. أنام نهارًا وأفيق ليلًا. أبحث عن شرارة ضوءٍ صغيرة تكفيني. أتقبلونني معكم؟

في الصباح، انتظره صاحبُ العمل طويلًا، فلم يأتِ.

دمشق

حسام حميدو

كاتب من سوريا. عضو نقابة المحامين في سوريا، فرع دمشق .