العرب والقراءة: نقدُ الاستشراق العربيّ
15-10-2016

 

 

بمناسبة مرور عام على إصدار مجلّة الآداب في نسختها الإلكترونيّة، ربّما كان مناسبًا نقاشُ موضوع القراءة في العالم العربيّ، لكونها مشروعَ الآداب ومغامرتَها. وإذا كانت الروحُ النقديّةُ مهمّةً في نقاش الأمور كلّها، فإنّها ضروريّة في نقاش هذا الموضوع المشوِّق بشكل خاصّ؛ ذلك لأنّ أغلب التصوّرات حوله تسمح لنا بقياس عمق جذور "الاستشراق العربيّ" في فهم المجتمعات العربيّة عامّةً ــــ ونُخَبِها بشكل خاصّ ــــ لأنفسها وللمجتمعات الأخرى.

 

عبادة الدراسات

"يقرأ العربيُّ 6 دقائق سنويًّا."
خرافةُ الستّ دقائق، كما تسمّيها الصحفيّةُ الأميركيّة ليا كالدويل، هي في رأينا واحدةٌ من أشنع الخرافات حول العرب. وقد تتبّعَتْ كالدويل أصلَها في تحقيقٍ صحفيّ فريد.(١) ما يهمّنا تناولُه أمران: كيف استحالت هذه الخرافة مسلَّمةً في حقولٍ "علميّة"؛ وصعوبة دراسة موضوع القراءة في العالم العربيّ.
ترِدُ هذه الإحصائيّة في التقرير السنويّ الثالث الذي تُصدره مؤسّسةُ الفكر العربيّ. وعلى الرغم من المستوى الجدّيّ عمومًا لتقارير المؤسّسة، فإنّها لم تتعاملْ بنقديّةٍ واضحةٍ مع هذه الإحصائيّة بالتحديد، واكتفى التقرير  بالقول إنّ "البعض يشير إلى دراسة..." من دون الإحالة على هذه الدراسة.(٢)
بعد عامين، تكرّرتْ هذه الإشارة في التقرير السنويّ الخامس،(٣) ولكنْ مع اعتراضٍ لم يطاول الرقمَ، بل المقارنةَ بالمجتمعات الأوروبيّة، وأُحيل الاقتباسُ والرقمُ على التقرير الثالث. وهكذا تمّ اختراعُ "تراكمٍ بحثيّ" لشيءٍ لا وجودَ له!
أغلبُ المهتمّين بهذا الموضوع يعلمون مدى انتشار هذه الدراسة/ الشبح في وسائل الإعلام العربيّة والأجنبيّة. ولكنّ اللافت هو انتشارُها بين بعض رؤساء دُور النشر العرب!(٤) وإذا كانت هناك دراسةٌ احتوت هذه الإحصائّية فعلًا، فهل يمكن إلّا أن تكون قاصرةً بحكم سعة الموضوع وتشعّبه؟
بفعل انتشار فكرة الاختصاص، واستفحالِ النزعة الإمبريقيّة في فروع العلوم الطبيعيّة والاجتماعيّة، وتطوّر المؤسّسات الأكاديميّة والبحثيّة، نشأ سلوكٌ عقليّ يمكن أن نسمّيه "عبادة الدراسات." ومن تمظهرات هذا السلوك اعتبارُ وجود الدراسة ــــ في حدّ ذاته ــــ شرطًا كافيًا لتقبّل نتائجها، من دون فحص بنية الدراسة ذاتِها وكيفيّةِ إنجازها. وهذه الممارسة أحدُ تمظهرات النزعة "العلمويّة" التي تحوِّل العلومَ من تراكمِ جهدٍ إنسانيّ إلى دينٍ مغلق، وتُستخدم أحيانًا كدين مضادّ. وبسبب هذا الفهم العلمويّ، لا يتمّ الاهتمامُ بشروط أساسيّة في الدراسات الميدانيّة والمسوحات: مثل حجم العيّنات، ونوعِها، وبيئاتِها، وطريقة جمع البيانات، وطريقةِ صوغ الأسئلة والاستبيانات.

من خلال هذه الشروط بإمكاننا فحصُ سؤالنا السابق عن مدى قصور أيّة دراسةٍ تتناول القراءةَ في العالم العربيّ. وهناك عقبات أساسيّة أمام دراسة هذا الموضوع بالتحديد:

أ ــــ ينبغي ألّا تعتمد الدراساتُ العلميّة الخاصّة بالقراءة على المقابلات الشخصيّة فقط، بل على بيانات المكتبات ودُور النشر كذلك. وهذا يَستلزم وجودَ شبكةٍ رقميّةٍ تربط بين هذه الأخيرة، أو يستلزم على الأقلّ قاعدةَ بياناتٍ رقميّة يمكن الوصولُ إليها، بالإضافة إلى بيانات الشراء الخاصّة بالقرّاء.(٥) هذا الشرط لا وجود له في العالم العربيّ:(٦) فبعضُ المكتبات العربيّة لا يَستخدم التقانةَ الرقميّة؛ كما أنّ بعضَ الدُّور العربيّة لا تُصدر بياناتٍ بمبيعاتها.

ب ــــ لقبول تعميماتٍ أيّ دراسة في هذا الموضوع، لا بدّ من أن تَمسح عيّناتٍ كبيرةً، وأن تمتدّ في أكثر من بلد عربيّ. في ما اطّلعنا عليه فقد وقعنا على دراستين يتيمتين: الأولى قامت بها مؤسّسةُ الفكر العربيّ.(٧) وبرغم أنّ حجم العيّنة مقبول نسبيًّا (1500 شخص)، فإنّ المسح الميدانيّ انحصر في تونس ومصر، وفي روّاد معرضَي الكتاب فيهما. أمّا الثانية، فقامت بها منظّمةٌ في بلغاريا، وكانت بعنوان "ماذا يقرأ العرب؟"،(٨) وهي أهمُّ من الدراسة الأولى بمراحل لأنّ عيّنتها كانت تسعةَ آلاف شخص من تسعة بلدانٍ عربيّة (ألف شخص في كلّ بلد). ومع ذلك، تبقى في حدود الـ"جيّد" بحكم القصور السابق في بيانات النشر.

ونشير هنا أيضًا إلى أنّ دراسة ألمانيّة حول القراءة في ألمانيالأ مَسحتْ عيّنةً من عشرة آلاف شخص، بالإضافة إلى بيانات الشراء الخاصّة بثمانية آلاف مشترك، وذلك في بلدٍ صغيرِ المساحة مقارنةً بالعالم العربيّ، ووزنُه السكّانيّ يقارب ربعَ الوزن السكّانيّ العربيّ.(٩)

ج ــــ قنوات القراءة في العالم العربيّ تشكّل، بدورها، عقبةً كأداءَ أمام أيّ دراسةٍ لهذه الظاهرة. فقد تسبّبتْ سياساتُ اللبرلة في الدول العربيّة في تكديح المجتمع وسحق الفقراء والطبقة الوسطى، ما يعني أنّ القراءة ــــ عبر القناة التقليديّة، وهي الذهاب إلى مكتبة لشراء كتاب جديد ــــ أمرٌ لا يَقْدر عليه كثيرون. بالإضافة إلى أنّ هذه السياسات أضرّت بقيم تحصيل المعارف ذاتِها، بسبب ترتيب الأولويّات الذي فرضه التدهورُ الاقتصاديّ واختلالُ المؤسّسات القانونيّة في المجتمع.
من هنا باتت القراءةُ العربيّة تمرّ عبر قناتين رئيستيْن: شراء الكتب المستعملة أوّلًا، واستخدام الكتب الإلكترونيّة المجّانيّة ثانيًا.(١٠) وكما الحال في الإشكال الأوّل، فلا قواعدَ بياناتٍ لمكتبات الكتب المستعملة، ولا وجودَ لاتّحاداتٍ تضمّ باعتَها غالبًا. أمّا مواقعُ تنزيل الكتب المجانيّة فتتكاثر باستمرار، بحيث يصعب حصرُها؛ وأغلبُها لا يعرض بياناتٍ كليّةً عن عدد التنزيلات.(١١)

هذه العقبات الثلاث تجعل ظاهرة القراءة العربيّة ظاهرةً زئبقيّة، لا تستطيع الأدواتُ الأكاديميّة والبحثيّة أن تَقبض عليها بإحكامٍ لدراستها.

موضوع القراءة في الاستشراق العربيّ 

يلفت النظرَ في موضوع الأفكار الشائعة عن القراءة أمران: الأوّل انتشارُها عربيًّا؛ والثاني أنّ أوّل محاولة صحفيّة جدّيّة لمساءلة تلك الأفكار أتت من صحفيّةٍ غير عربيّة على ما يبدو. والأمران مرتبطان؛ ذلك أنّ تلك الأفكار الشائعة استحالت مسلَّمةً، حتى عجز وعيُ الصحافة العربيّة(١٢) عن تخيّل مساءلتها!
يعتبر إدوارد سعيد الاستشراقَ فهمًا للذات، لا تمثيلًا للآخر فقط. وبإمكاننا التوسّعُ في هذا الطرح للقول إنّ الاستشراق عمليّة تاريخيّة ذاتُ اتّجاهين لأنّها تنعكس على "الآخر،" فتصبح وسيلةً لفهم "المستشرَق" لذاته، ولتصويره للآخر عبر "الاستغراب،" ولكنْ هذه المرّة من خلال استبطان الانحيازات البنيويّة الأصليّة للاستشراق نفسه ــــ وهذا هو "الاستشراقُ العربيّ."(١٣)
يتجلّى تجذّرُ "الاستشراق العربيّ" لدى النخب العربيّة في كثير من النقاشات، مثل نقاش السؤال الاستشراقيّ الصياغة "هل نستحقّ الديمقراطيّة؟،" وفي تصوّراتِنا عن "الغربيّ،" وكذلك ــــ وهذا ما يهمّنا هنا ــــ في فهمنا لموضوع القراءة عند"نا" وعند"هم."
التصوّرات الشائعة عن القراءة، عربيًّا، لها جذران أساسيّان:
1) نظريّ عامّ؛ وهو "جوهرةُ" العربيّ والآخر عبر عزل كثيرٍ من مفردات الفضاء العامّ عن سياقها التاريخيّ والاقتصاديّ، فتَنتجُ مجموعاتٌ كاملةٌ من التصوّرات والمواقف: فيصبح انتشارُ القراءة، مثلًا، مسألةً ترتكز على تفسيراتٍ جوهرانيّة، مثل "الفضول المعرفيّ" و"الأخلاق التنويريّة،" ولا علاقة لها بانحيازاتِ الدولة وأزمةِ التحديث وطبيعة حركة رأس المال في المجتمع.
الدور الوظيفي لهذه التصوّرات الجوهرانيّة البسيطة حيويّ للنخبة العربيّة. فهي، بعد ذلك، تدخل في تفسيرٍ شاملٍ للوضع الحرج الذي يعيشه العربُ حضاريًّا، بحيث تنشأ سلسلةٌ من الاستنتاجات لا علاقة لها بالواقع. خذ السلسلة الآتية مثلًا: "العرب لا يتّصفون بالفضول المعرفيّ، ولهذا فهم لا يقرأون، ولذلك فإنّ الوعي الجمعيّ متدهور واختزاليّ، والجهلَ صفتُه الرئيسة!" وبهذا، تستطيع بعضُ النخبة العربيّة التحدّثَ عن "قابليّة" المجتمعات العربيّة ــــ بسبب جهلها ــــ للاستبداد والشعوذة والتطرّف الدينيّ.
الدور الحيويّ لهذه النزعة "السكوليستيكيّة،"(١٤) ذاتِ البنية الاستشراقيّة، هو حمايةُ النُّخَب من تحمّل مسؤوليّاتها التاريخيّة عمّا وصلنا إليه في العالم العربيّ، وتبريرُ عجزِها عن التحرّك في الواقع السياسيّ. فالمسألة، حين تُطرح هكذا، من دون أيّ سياق تاريخيّ، تتناول صفاتٍ في المجتمع نفسِه. وبالتالي فإنّ نتيجة كلّ حركة فيه هو ضياعٌ للجهد.

2) أما الجذر الثاني فاستشراقيُّ الشكل والمضمون. كلُّ مهتمّ بدراسة موضوع القراءة عربيًّا طالعَه، ولو مرّةً واحدة، وجهُ وزير الدفاع الإسرائيليّ السابق، موشيه دايان، الذي تُنسب إليه مقولة: "العرب لا يقرأون."(١٥) وتتكرّر الإحالة على هذه الجملة عند نقاش موضوع القراءة في كتابات الصحفيين والخطباء العرب. وبصرف النظر عن نسبتها إلى دايان، فإنّ لشيوع الاستشهاد بها، واستبطانِها، ثمّ تحويلِها إطارًا يَفهم العربُ من خلالها ذاتَهم، دلالاتٍ مهولةً. فهنا تحديدًا، يمكن لمسُ الانسحاق الذاتيّ الذي يستبطنه الاستشراقُ العربيّ. المثقّف العربيّ يفهم علاقةَ مجتمعه بالقراءة والمعرفة من خلال تصريحٍ تهكّميّ ــــ لا هو بالدراسة ولا بالبحث! ــــ منسوبٍ إلى مجرمِ حربٍ، قاد ضدّ ذلك المجتمع إبادةً جماعيّةً.

 

مستوى القراءة في وصفه إشكالًا عموميًّا

لتجاوز الطرح الاستشراقيّ لمشكلة القراءة عربيًّا، علينا فهمُها في سياقٍ مركّب، يمكن تلخيصُه في جملةٍ من الاختلالات:

أ ــــ خلل سياساتيّ ــــ اقتصاديّ. القراءة ليست مبادرةً ذاتيّةً محضة يُنجزها المجتمع، وترسيخُها كعادة اجتماعيّة مسألةٌ سياسيّةٌ في جوهرها. القراءة عمليّةٌ تشجِّعها وتقودُها الدولة ذاتُ السياسات التنمويّة، عبر خطوات واضحة:
ــــ بناء المكتبات العامّة ورصد موازنات لها كي تُحدِّث محتوياتِها باستمرار.
ــــ تطوير المؤسّسات الأكاديميّة العامّة، ودعم مراكز الأبحاث والدراسات، خصوصًا في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة.
ــــ تطوير البنى التحتيّة، وبالذات قطاع الطاقة والكهرباء.
ــــ الانحياز إلى المجتمع، وتضييق التفاوت الطبقيّ عبر إقرار سياسات الضمان الاجتماعيّ والحدّ الأدنى للأجور، وكبح تغوّل رأس المال على المجتمع، واستكمال مشروع محو الأمّيّة.

بعض الحكومات تذهب أبعدَ من هذه الخطوات لتشجيع القراءة. منها مثلًا الحكومة الإيطاليّة التي أقرّت الشهرَ الماضي صرفَ منحةٍ ماليّةٍ لكلّ مواطن إيطاليّ في عيد ميلاده الثامن عشر، تُنفق حصرًا على شراء الكتب وغير ذلك من النشاطات الثقافيّة.(١٦) الحكومات لا تنطلق في سلوكها هذا من منطلقٍ قيميّ، بل نفعيّ؛ ذلك لأنّ اقتصادَ المعرفة الرأسماليّ يحتاج إلى عقول وإنتاج ثقافيّ وبحثيّ حتّى يستمرّ. وعليه، فإنّ الدولة العربيّة تحتاج إلى الاتّجاه نحو هذه السياسات كي تتحوّل إلى اقتصاد المعرفة، وتحافظ على بنيانها. ومن الأفضل أن ينْظر المسيّسون والكتّاب العرب إلى موضوع التحصيل المعرفيّ من هذا المنظور، لا الاكتفاء بالخطب الوعظيّة حول "جماليّات المعرفة،" و"العلم لأجل العلم،" وغيرها من الأفكار الجميلة ولكنْ غير العمليّة.
وبالعودة إلى موضوعنا، علينا ألّا نستهين بالوضع الماديّ للمواطن العربيّ في تحديد ظواهر القراءة. فعلى مستوى الإقبال العامّ على شراء الكتب، تُثبت بعضُ التجارب الدورَ الحاسم للعامل المادّيّ في توجّه المواطن العربيّ نحو شراء الكتب الورقيّة. ففي مهرجان "القراءة للجميع" الذي أقيم في الأردن، عام 2007، ووَفّر الكتبَ بأسعارٍ زهيدة، بيعتْ عشراتُ آلاف الكتب خلال أربعة أيّام فقط.(١٧)
وعلى مستوى اتّجاهات القراءة، بالإمكان ملاحظةُ الإقبال على الكتب الدينيّة الحديثة والتراثيّة. وهذا الإقبال يُفسَّر بعدّة أسباب سياسيّة/ اجتماعيّة، منها: الحربُ الباردة، وترسيخُ الأنظمة للنزعة المحافظة في المجتمع ولا سيّما مع غزو الاتّحاد السوفياتيّ لأفغانستان. ولكنْ يبقى هناك سببٌ سياسيّ ــــ اقتصاديّ مهمّ وحاسم، وهو  أنّ المملكة العربيّة السعوديّة دَعمتْ عبر مؤسّساتها،(١٨) أو عبر الإسناد الماليّ، طباعةَ كثيرٍ من الكتب الدينية ذاتِ النزوع الراديكالي وكتبِ أعلام الإسلام السياسيّ،(١٩) ووفّرتْ لها الظروفَ المثاليّة لكي تنتشر: من أسعارٍ زهيدة، وترويجٍ دائمٍ من قِبل جمعيّات وأئمّة مساجد في كلّ مكان!

أمّا على مستوى وسائط القراءة، فلا يمكن فهمُ العلاقة بين ظاهرتَي اندثار الأسواق التاريخيّة للكتب المستعملة، وانتشارِ مواقع تنزيل الكتب المجّانيّة على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ، إلّا عبر استحضار هذا العامل المادّيّ أيضًا. انتشار هذه المواقع لا يعطينا أرقامًا واضحةً عن مستوى القراءة في العالم العربيّ، ولكنّ تكاثرَها المذهل يدفعنا إلى ملاحظتين: الأولى، أنّ هذا المستوى أقوى بكثير من الخرافات الاستشراقيّة التي تُروَّج حوله. والثانية، أنّ أيّ دراسة جدّيّة لهذه الظاهرة، في مجتمعاتٍ يطحنها الفقرُ والفسادُ وتردّي الخدمات، يجب أن تعتمد على قنوات القراءة الأقلّ تكلفةً، لا على القناة التقليديّة المتمثّلة في شراء الكتاب الورقيّ الجديد.

ب ــــ خلل مؤسّساتي: هناك خلل آخر ينخر علاقةَ المواطن العربيّ بالقراءة، وهو مستوى المؤسّسات العربيّة الخاصّة والعامّة. على سبيل المثال، يلحظ المتابعُ فرقًا شاسعًا بين الدراسات والخدمات والأرقام التي يقدّمها اتّحادُ تجارة الكتب الألمانيّة، وتلك التي يقدّمها اتّحادُ الناشرين العرب؛ فباستثناء المؤتمر الذي أقامه هذا الأخيرُ سنة 2009،(٢٠) لا يجد المرء ما يساعده على فهم ظواهر القراءة والنشر التي يقدّمها هذا الاتّحاد.

من جانب آخر، وعلى عكس التنميطات التي يقوم بها الإعلامُ العربيّ وبعضُ المثقفين العرب، فإنّ الشريحة الكبرى من القرّاء الألمان ليست أصحابَ "الفضول المعرفيّ،" بل "القرّاء المناسباتيّون."(٢١) والقسم الأكبر من هؤلاء هم التلاميذ والطلّاب الذين يتّجهون إلى القراءة لإنجاز أبحاثٍ مطلوبةٍ منهم.
يتمثّل الخللُ في السلك المدرسيّ العربيّ في عدم ترسيخه للقراءة والبحث، والاكتفاء بالطرق البالية في التعليم. ولهذا، فإنّ أيّ محاولة لتطوير استهلاك الكتب وقراءتها في العالم العربيّ لن تخطو خطواتٍ كبرى من دون إنجاز سياساتٍ ثوريّةٍ في المؤسّسات التعليميّة والأكاديميّة.

وعلى مستوى وسائل ترويج الكتب، نجد كذلك اختلالًا في بعض مؤسّسات نشر الكتب. كاتبُ هذه السطور، مثلًا، لم يجد يومًا لوحةً في واجهة المكتبات اليمنيّة تروِّج لكتابٍ معيّن، وقلّما وَجد عرضًا أو دعايةً لكتاب حديث في صحيفة محلّيّة. أمّا مشروع كتاب في جريدة،(٢٢) غير التقليديّ، فهو إحدى أهمّ محطّات القراءة عربيًّا في العقود الثلاثة الأخيرة، لكنّ مشكلته، ومشكلة أيّة مشاريع مماثلة، أنّها لا تُدخل الكتابَ في دائرة السلع والبضاعة، فتبقى محكومةً بالتبرّعات والجهود التنويريّة وتوجّهات الداعمين.

خاتمة: علاقة القراءة بالحيّز العامّ

يرى البعض أنّ المواطن في ظلّ نظام ديمقراطيّ يشعر بفاعليّة رأيه في المجال العامّ،(٢٣) فيندفع نحو القراءة بصورةٍ أكبر ممّن يعيش تحت نظامٍ قمعيّ مثل النظام العربيّ.  
في رأينا أنّ الأمر لا يرجع إلى الشعور بالفاعليّة، بل إلى أنّ الديمقراطيّة السياسيّة تسمح بتشكّل توازنات سياسيّة متجدّدة؛ كما أنّ الصحافة الاستقصائيّة في ظلّ هذه الديمقراطيّة قادرة على إثارة المشاكل الاجتماعيّة والسياسيّة بقدر كبير من الانطلاق، فتصبح كلُّ سياسات الدولة الداخليّة والخارجيّة محلَّ نقاش وساحةً للصراع السياسيّ والثقافيّ، ويتأمّن الـ"جديد" بشكلٍ دائم، ويُصدر الكتّابُ والصحفيّون حوله كتبًا (ليست دومًا رصينة)، وتتسابق دورُ النشر لطباعتها من أجل أغراضٍ ربحيّة. أما الديكتاتوريّات العربيّة فتسبّبتْ في ركود الحياة السياسيّة، وفي تكريسِ تراتبيّاتٍ اجتماعيّة؛ كما أنّها فرضت قيودًا صارمة على النقاشات في المجال العامّ. وهذا كلّه يعوِّق دخولَ الكتاب إلى عوالم الصناعة والسلع.
في مصر بعد ثورة يناير، على سبيل المثال، انفتح بابُ الحيّز العام على مصراعيْه، وتفجّرتْ تساؤلاتٌ سياسيّة وثقافيّة شتّى. وهذا المناخ الديمقراطيّ جعل كِتابًا مثل سرّ المعبد يَصْدر في ١١ طبعة، في نصف عام فقط،(٢٤) وذلك مع وجوده مجّانًا على شبكة الإنترنت! كما طُبع كتاب محمد حسنين هيكل، مبارك وزمانُه، أربعَ مرّات خلال عام واحد فقط.(٢٥) وفي اليمن، بعد ثورة فبراير، صدر كتابٌ عن السياسيّ الناصريّ المعروف عيسى محمد سيف(٢٦) ــــ الذي أُعدم في عهد علي عبد الله صالح ــــ وتلقّفه كثيرٌ من القرّاء باهتمام بالغ، وبخاصة أنّ الكتابة عن هؤلاء السياسيين كانت محظورةً ضمنيًّا.
وبغضّ النظر عن رأينا في مستوى هذه الكتب وغيرها من الإصدارات في فترة انفتاح المجال العامّ قليلًا بعد الثورات العربيّة، فإنّها تشير إلى العُرى الوثيقة بين ظواهر القراءة من جهة، وبنيةِ الحيّز العامّ العربيّ ومدى انفتاحه من جهةٍ أخرى. وهذا ينطبق على الكتب غير السياسيّة أيضًا؛ فالنزعة المحافظة للأنظمة العربيّة التي استفحلتْ منذ سبعينيّات القرن الماضي كانت تعرقل الكتابات الأدبيّةَ الإيروتيكيّة مزايدةً على الإسلاميين، وكسرًا لاحتكارهم في تمثيل القواعد الاجتماعيّة المحافظة.

في رأينا أنّ على كلّ باحث في ظاهرة القراءة في العالم العربيّ أن يتحلّى بالشجاعة والتواضع اللذين يمكّنانه من فهم نقديّ للواقع الاجتماعيّ، ومن مساءلة التنميطات الاستشراقيّة الراسخة في وعي النخب والإعلام. وربّما كان من المفارقات الغريبة أنّ حضورَ الوعي النقديّ عند دراسة ظاهرة القراءة في أوروبا الغربيّة سيمكّن الباحثَ العربيّ من هدم تلك التنميطات ذاتها، ومن وضع مشاكلنا في سياقٍ عقلانيّ ــــ تاريخيّ؛ ونضرب هنا مثالًا أخيرًا، وهو الإشارة إلى قوائم الكتب الأكثر مبيعًا.
صورة القارئ الأوروبيّ في الوعي الاستشراقيّ العربيّ، ذاك الذي يتمدّد على أريكته ليقرأ هيجل أو كلاسيكيّات أدب القرن التاسع عشر، لا وجود لها. ففي العام 2015، كان على رأس قائمة الكتب الأعلى مبيعًا في ألمانيا روايةٌ جنسيّة.(٢٧) بالإضافة إلى أنّ جزءًا كبيرًا من تلك القائمة لم يكن إلّا "رواياتِ الجيْب" الخفيفة. عربيًّا، ورغم عدم وجود بيانات كلّيّة وجامعة، فإنّ الاطّلاعَ على قائمة الكتب الأكثر مبيعًا لأحد المواقع العربيّة الشهيرة لبيع الكتب، سنة 2015 (٢٨) كذلك، ومقارنتَها بالقائمة الألمانيّة (مع التأكيد على عدم سلامة المقارنة من أغلب النواحي)، تبدّدان كثيرًا من التنميطات المسبّقة للمواطن العربيّ والأوروبيّ.

ألمانيا

١ ــــ Leah Caldwell ,The Arab Reader and the Myth of Six Minutes

http://english.al-akhbar.com/node/3168

وهذا التحقيق مترجم إلى العربيّة على الرابط:

https://fekerology.wordpress.com/2015/03/07/القارئ-العربي-وخرافة-الست-دقائق/

٢ ــــ مؤسّسة الفكر العربيّ، التقرير العربيّ الثالث للتنمية الثقافيّة، ط1 (بيروت: 2010)، ص310.

٣ ــــ مؤسّسة الفكر العربيّ، التقرير العربيّ الخامس للتنمية الثقافيّة، ط1 (بيروت: 2012)، ص 467.

٤ ــــhttp://www.arab-pa.org/Ar/event/EventDetails.aspx?RecId=143

٥ ــــ انظر زاوية الدراسات في موقع اتّحاد تجارة الكتاب الإلمانيّة:

http://www.boersenverein.de/de/portal/Buchkaeufer_und_Buchleser_Studie/1041178

٦ ــــ يشار إلى هذه المشكلة في: http://jraissati.com/2010/10/who-said-arabs-dont-read/

٧ ــــ التقرير الثالث، ص 308.

٨ ــــ http://www.npage.org/article63.html

٩ ــــ انظر إحدى دراسات اتّحاد تجارة الكتاب الألمانيّة:

http://www.boersenverein.de/de/portal/Buchkaeufer_und_Buchleser_Studie/1041178

١٠ ــــ تشهد أسواقُ الكتب المستعملة في عموم العالم العربيّ تدميرًا متواصلًا سيتسبّب باندثارها، منها مثلًا سوقُ "نهج الدبّاغين" في تونس. انظر:

http://raseef22.com/culture/2015/08/25/souk-dabbaghin-tunisias-old-book-market/

١١ ــــ بعض مواقع تنزيل الكتب المجّانيّة تعرض عدد تنزيلات كتابٍ محدّد، ولكنّها لا تعرض بياناتٍ مبوّبةً ومرتّبةً تمْكن الاستفادةُ منها في تكوين صورةٍ واضحةٍ عن مجمل تنزيلات الكتب واهتمامات القارئ العربيّ.

١٢ ــــ لا يغيّر من هذا ــــ بل ربّما يؤكّده ــــ أنّ التحقيق الاستقصائيّ نُشر في النسخة الإنجليزيّة من صحيفة عربيّة.

١٣ ــــ في الثامن من أكتوبر الجاري، نُشرتْ مقابلة مهمّة مع المفكّر الفلسطينيّ جوزيف مسعد في جريدة الاتّحاد، ونتّفق مع إشارته فيها إلى أنّ "الاستغراب" هو في الأساس امتدادٌ للاستشراق، لا نقيضٌ له. انظر:

http://www.alittihad.ae/mobile/details.php?id=47001&y=2016

١٤ ــــ يشرح برهان غليون مفهوم السكوليستيكيّة باعتباره انغلاقًا على عالم الأفكار مع انقطاع عن الواقع، و"البحث في عالم الأفكار عن صحّة الأفكار ذاتها." انظر: برهان غليون، اغتيال العقل: محنة الثقافة العربيّة بين السلفيّة والتبعيّة، ط 4 (الدار البيضاء: المركز الثقافيّ العربيّ 2006)، ص 51 ــــ 54.

١٥ ــــ يقال إنّ ديان قال هذه الجملة في مقابلة مع صحفيّ هنديّ قبل حرب 67 بسنوات. ولكنّنا لم نجد أيّ مرجع أكاديميّ، أو مقال رصين، يحيل على هذه المقابلة أو يستشهد بهذه الجملة ويحيل على مكان ورودها الأصليّ. كما لم نجد لها أثرًا في شبكة الانترنت عبر البحث في ثلاث لغات. كلُّ ما وجدناه استشهاداتٌ عربيّة ــــ في مقالات باللغتين العربيّة والإنجليزيّة ــــ متكرّرة بهذه الجملة "المفترضة" من دون إحالة!

١٦ ــــ  http://www.independent.co.uk/arts-entertainment/the-italian-government-is-giving-teens-500-on-their-18th-birthday-to-spend-on-books-a7205366.html

١٧ ــــ مؤسّسة الفكر العربيّ، التقرير العربيّ الأوّل للتنمية الثقافيّة، ط2 (بيروت: 2009)، ص 634. 

١٨ ــــ انظر لمحة سريعة عن المؤسّسات السعوديّة ونشرها بعضًا من كتب الأخوان المسلمين وتقريرها في المدارس: 

https://ar.qantara.de/content/حظر-أدبيات-الإخوان-المسلمين-في-مصر-والسعودية-كُتُب-الإخوان-المسلمينمُبجّلة-في-الماضي-ومحظورة

١٩ ــــ على سبيل المثال، نشرتْ وزارةُ المعارف السعوديّة أحدَ كتب سيّد قطب، ولكنْ عبر دار الشروق. انظر: سيّد قطب، معالم في الطريق، ط 6 (القاهرة: دار الشروق، 1979). 

٢٠ ــــ مؤتمر الناشرين العرب الأوّل، رابط سابق.

٢١- Buchkäufer und Leser

٢٢-  http://www.kitabfijarida.com/project.html

٢٣-  يشار إلى هذا الرأي في المقال على الرابط:

http://raseef22.com/culture/2015/04/23/reading-habits-in-the-arab-world/

٢٤-  http://elaph.com/Web/opinion/2013/4/808965.html

٢٥-  محمد حسنين هيكل، مبارك وزمانُه: من المنصّة إلى الميدان، ط 4 (القاهرة: دار الشروق، 2013)، وكانت الطبعة الأولى عام 2012.

٢٦- http://www.alwahdawi.net/mobile/news_details.php?sid=9987

ونودّ أن نشير هنا إلى أنّ الكتاب لم يكن في مجمله جيّدًا ولم يأتِ بجديد. ونرجّح أنّ تلهّفَ القرّاء كان بسبب الخطوة ذاتها، لا بسبب مضمون الكتاب.

٢٧- بلغ بمحرِّر المقال، في صحيفة دير شبيغل، أن قال ــــ مبالغًا كثيرًا في رأينا ــــ إنّ صورة المجتمع الألمانيّ الناتجة من قائمة الكتب الأعلى مبيعًا لعام 2015 عمومًا (وفيها أكثرُ من رواية جنسيّة) ليست أنّه شعبُ "أمّةٍ مهووسةٍ جنسيًّا،" بل إنّه "شعب من الانهزاميين." انظر:

http://m.spiegel.de/kultur/literatur/a-1030143.html
من الأفضل أن يَستحضر الكتّابُ العرب هذا الاهتمامَ بالكتابات الجنسيّة في مجتمعاتٍ تخفّفتْ نسبيًّا من أثقل أعباء المشكلة الجنسيّة حين يلومون الشبابَ العربيّ، الهالكَ تقريبًا تحت ضغط المسألة الجنسيّة، على إقباله على مطالعة الكتب الجنسيّة. الجدير ذكرُه أنّ تصوير المجتمع العربيّ "شبقًا" فكرةٌ أصيلةٌ في المدوَّنة التاريخيّة للاستشراق. ويواصل بعضُ المثقّفين العرب تكريسَ هذه التنميطات بتفانٍ وإخلاص حتّى في تناولهم لظاهرةٍ مثل القراءة!
٢٨- http://www.neelwafurat.com/yearlybestsellers.aspx?search=books

ايمن نبيل

كاتب من اليمن، مقيم في ألمانيا. مهتمّ بشؤون الثقافة والسياسة والاجتماع. نشر مقالات في العديد من الجرائد والمواقع.