العمليّة رقم 21
20-05-2017

 

 

"اسمعي... اسمعي..." قلتُ لها بين أنفاسٍ متقطّعة وأنا أكتم ضحكتي، "أوّل شِي، نبعث راما ورهام لجنب مكتبة عادل، ماشي؟"

هزّت برأسها، وأخذتْ نفسًا طويلًا. أعادت ترتيبَ القوس على شعرها. انتظرتُها حتّى انتهت، وأكملتُ: "رشا ومريم ستقفان عند البيت المهجور، وأنا وأنت نعمل جولات بالحارة، وثراء تقف عند السوبرماركت. أوكي؟"

أعادت العنصر 6 ترتيبَ القوس على شعرها للمرّة الخامسة حتّى اقتنعتْ أخيرًا أنّه ثابت. وقفنا، أنا وهي، في أعلى أطولِ النزلات في الحارة، وأكثرها انحدارًا. وتبادلنا نظراتٍ تؤكّد الاستعدادَ والوفاء. ثمّ ركض كلٌّ منّا في اتّجاه: أنا نزلت في منحدر الزفت، وهي ركضتْ يسارًا نحو النزلة الثانية.

لن يفلت منّا البربورُ البصباص.

***

"لازم أرجع للبيت،" تمتمتْ حنان (العنصر 5) بخجل، وهي ممتعضة. تكاد عيناها لا تنظران إليّ حتّى تنشغلا بشيءٍ آخر.

فنجرتُ عينيَّ. "بحياة الله؟ هلق بعدنا باديين."

"بعرف والله. بس أمّي بتقبرني إذا تأخّرت."

"خلص ماشي،" خرخرتُ منزعجةً. ولكنّني أمتعضُ بسرعة وأستسلم متأخّرة: "بس بكرة عطلة... ما فيها منطق ترجعي بكّير لهالدرجة!"

حنان نفسها تعرف أنْ لا منطق خلف بارانويا الأهل المعقّدين، ولكنّها أضعفُ من أن تجادِل. والحقيقة أنْ لا أحد منّا يحبّ الجدالَ مع أمّها، خصوصًا عندما تحلّفنا بشواربنا ـــ نحن بنات الاثنتي عشرة سنة ـــ كي نقرّ بحقيقةِ حصول مغامرة آخرَ الأسبوع.

شاهدتُها تبتعد. ورابطتُ مكانها عند السوبرماركت، أنعى الانسحابَ المبكّرَ لأوّل عنصر من الفريق.

***

"تمّ تحديدُ الهدف، حوِّلْ..."

سمعتُ النداء. قفزتُ لأعبرَ الشارع من عمود الكهرباء، الوحيد في الزاوية، إلى البيت المهجور.

لكزَتِ العنصرُ 2 الهواءَ بذقنها، تدلُّني على مكان وقوف البربور البصباص، مرتكيًا مع صديقه على السور القصير، بجانب دكّان الأزرعي، يدخّنان؛ وهو غيرُ مدركٍ الخطرَ الذي يحوطه.

كمشناه وهو لا يدري.

"نجم، يعني ليش أنا ورشا عند البيت المهجور؟"

هكذا اشتكت العنصر7، ملقيةً نظرةً سريعةً ومرتابةً على المكعّب الإسمنتيّ الخالي خلفنا: بيت الجنّ والحرامية، وهو ليس إلّا سورًا قصير، يفصلنا عنه بعضُ العشب.

"بلا جبن!" نهرتُها، "ما فيه شِي يخوّف."

لم تقتنع:

"إذا مش خايفة وقّفي أنتِ هون!"

حنقتُ. ولكن، كنتُ أدرك أهمّيّة تجنّب البلبلات في الصفّ الواحد، وأردتُ الإبقاء على الفريق متماسِكًا. قلت:

ـــ ماشي يا مريم يا خوّيفة. روحِي وقّفي عند السوبرماركت، وأنا ورشا منضلّ هون.

بإيماءات مقتضبة، أعدنا التموضع.

"لَك نسيت!" نطَّت المهمةُ المنزليّةُ إلى رأسي؛ "ذكّرني البربور. لازم أجيب دخّان لأمّي!" همستُ للعنصر 2: ـــ اسمعي. أروح عالدكّان. أجيب دخّان، وأنقل معلومات كمان. ماشي؟

ـــ لا أجّلِيها، من شان الله. أنا ما بَقَف لحالي عند البيت المهجور.

 هفهفْتُ في وجهها: "بحياة أمّك؟"

ـــ إِي، خَلَص ارجعي اشتري دخّان بس نخلّص.

هناك مشكلةٌ عندما يكون جنودُكَ جبناء.

***

تفقّدتُ العناصر واحدةً واحدةً.

العنصر 7، عند السوبرماركت، تأكل بسكوتة التويست المفضّلة لديها. لا بأس في أن يتغذّى الجنود ــــ ذكّرتُ نفسي. المهمّ أن يقوموا بعملهم.

العنصر 2 وأنا عند البيت المهجور.

العنصران 3 و5 عند مكتبة عادل.

العنصر 6 مرابطة تحت شجرة الكرز الكبيرة، في أحد مداخل الحارة المظلمة، أمام منزل البربور البصباص، أو ما اعتقدنا أنّه منزله. فمعلوماتنا كانت متضاربةً وغير مؤكّدة، والحارة مليئة بعملاء البربور غير الموثوق بهم. ولذلك لم نستطع الاعتمادَ إلّا على أنفسنا.

أوقفتني العنصر 6 قبل أن أذهب لأتفقّد الباقين مرّةً أخرى، وسألتني: "مضبوط قوسي؟"

***

راما ورهام ـــ العنصران 5 و3 على التوالي ـــ متموقعتان أمام مكتبة عادل، على بعد قَطْعة شارع من البيت المهجور.

المكتبة، والدكّان، والبيت المهجور، شكّلتْ مثلّثًا مفركشَ الأضلاع. وعند رأس هذا المثلّث، تمركزنا أنا والعنصر 2.

الهدف أمامنا مباشرةً. والعنصران 3 و5 كانتا خطّ الدفاع الأوّل في حال حصول اشتباكٍ مع العدو.

ولكنْ هذه لم تكن الحال عندما وصلتُ إلى المكتبة، إذ فقّعتْ رهام العلكة في فمها وقالت: "راحت راما!"

ـــ كيف يعني؟

ـــ يعني فلّت!

ردَّت، وقدّمتْ لي علكة: "إجا أخوها أخذها. قال ما عاد بكّير، وأبوها سأل عنها."

علكتُ بهدوء. وتأمّلتُ في حالنا: واحدةٌ من أقوى العناصر تمّ استلابُها، وهي في قلب العمليّة، وإعادتُها قسرًا إلى بيتها.

يحتاج فريقُنا إلى عمليّة تحريرٍ شاملة.

***

عدتُ أخيرًا إلى العنصر 2، وقد ظلَّت طوال الوقت واقفةً، ترفض الجلوسَ على الرصيف ببنطلونها الجديد. لكنْ قبل أن أصيح فيها، تحرّك البربور. ومن دون أيّ سوابق كلاميّة التفتتْ رؤوسُ ثلاث بنات، في اللحظة ذاتها، وحدّقتْ في البربور. كان يسير متهاديًا باتّجاه المنحدر الزفتيّ الصغير، نازلًا إلى موقع العنصر 6.

البربور يفوقنا حجمًا، وأحدُ مصادرنا أكّدَ أنّه ينحدر من سلالة العمالقة. لكنّ ذلك لم يردعْنا. صحيح أنّ كل واحدة منّا يجب أن ترجع إلى البيت قبل غروب الشمس، ولكنّنا جماعةٌ من الشجعان؛ فلا البربور، ولا كرشه، ولا سيجارته تخيفنا... أو هكذا كنتُ أحاول إقناعهنّ.

نحن، نبيلاتِ الحارة الصغيرات، المحارباتِ العنيدات، وحدنا نعرف الخطرَ الحقيقيّ! صحيح أنّ ما يُتناقل عن كون البربور"مرتّبًا وابن ناسٍ" لا يمكن نفيُه، إلّا أنّ عيونَنا كانت أمضى من الأقاويل. فهو البصباص الذي "يتطلّع على أطياز بنات الناس"؛ ونحن، الفريقَ الواحد والعشرين في مهمّتنا الإحدى والعشرين، حين تأكّدنا أنّ أهل الحارة لا يخجلون على بناتهم وأطيازهنّ، وجدنا أنفسَنا ملقَياتٍ في خضمّ مهمّةٍ شديدةِ السموّ لإيقاف هذا المخلوق.

***

انطلقتُ كالسهم نحو العنصر 6، سالكةً نزلةً فرعيّةً معاكسةً للجهة التي سار فيها البربور. كان سِباقًا مع الزمن: إمّا أنا، وإمّا البربور. وتوجّب عليّ إرسالُ التحذير للعنصر الأكثر ذكاءً وحنكةً في الفريق:

ـــ غنوة... البربور!

التفتتْ إليّ، وبلعتْ ريقَها.

ـــ شفتُه.

حدّقنا بعضنا ببعض. بياضُ عينيها يلمع في ظلمة الدَّخلَة.

ـــ سألحقُه.

ـــ ها؟!

أكّدتْ لي عزيمتَها بهزّةٍ قويّةٍ من رأسها، فسقط قوسُ البلاستيك عن شعرها. أعادته إلى مكانه بحركةٍ حازمة.

"ديري بالك على حالك، وإيّاكِ يشوفك،" همستُ لها في العتمة.

نظرنا ــــ أنا وهي ــــ بقلبين صاخبين إلى البربور وهو يسير نحونا ببطء. ضوءُ الشارع العامّ خلفه لم يجعل منه أكثرَ من ظلِّ عملاق: لا ملامح، لا صوت، لا شيء غير ظلّ. وكانت هذه أكثرَ مرّة رأيناه فيها على حقيقته.

أخفَت العنصر 6 نفسَها في الظلام. وأنا ركضتُ كالممسوسة إلى بيتي، من دون عِلم الفريق، وكرعتُ كمّيّةً من الماء تسقي كتيبةً كاملة، وعُدتُ.

على القائد أن يحافظ على قوّته. هكذا قلت لنفسي.

***

لم تكن مريم في موقعها عند السوبرماركت. عدتُ إلى البيت واتّصلتُ بها. ردّت أمُّها: "مريم تتعشّى."

أيّ واحد يتعشّى الساعة سبعة؟! الجنودُ تنقصهم القدرةُ على الاحتمال. ولا ضيْر في الاعتراف بنقص عتادنا من الناحية الغذائيّة.

هكذا فكّرتُ وأنا آكل لقمةَ اللبن، قبل أن أعاود الخروج.

***

كان عددُنا يتناقص، والوضعُ يتفاقم. غنوة اختفت في مهمّتها، وهي معرفة مقرّ سكن البربور. أمّا أنا والعنصران 2 و3، فكنّا نتمشّى الواحدة حول الأخرى، نتسكسك في موقعنا المفتوح عند البيت المهجور؛ بالُنا مشغول على العنصر 6 في مهمّتها الجاسوسيّة.

"اقعدي يا رشا،" ناديتُ على أطولنا. كانت تتمشّى وحدها، وسمّاعاتُ جهازها الـ MP3 الزهريّ في أذنيْها. لم تسمعْني. لم تصغِ إلى الأمر الموجَّه إليها. مشيتُ نحوها وصادرتُ الجهازَ منها، ووضعتُه في جيبي.

عناصرُ الفريق ينقصهم الانضباطُ، والطاعةُ، والحسُّ بالتراتبيّة.

***

ـــ كم الساعة؟

نظرتْ رهام إلى ساعتها بتململٍ: "ثمانية إلّا ربعًا."

غرغرتُ بغضب: "أكلْنا خرا!"

"بنت إِنتِ وهيِّ...!" صاح صوتٌ فينا.

إحدى الجارات وقفتْ على شبّاك شقّتها، وهزّت برأسها عندما نظرنا إليها.

ـــ إِي، إي إنتِ وهيِّ. مالْكُم أهل يسألوا عليكن؟ يالله كلّ وحدة على بيتها!

"نجم، جَد خلص،" تمتمتْ رهام. وجهُها أحمرُ من الخجل، وعيناها ملؤهما الاعتذارُ الكذّاب.

زمجرتُ فيها: "إي تِصطِفلي. أصلًا أنا ورشا حنبقى هون، صح؟"

والتفتُّ إلى العنصر 2، وكرهتُ أن أستجدي في ظلّ التخلّي والتخاذل المتعمَّديْن.

هزَّت رشا كتفيها: "عزمِتْني أمّها لرهام لَرُوح أتعشّى عندهم."

الكلبات! خيانة مزدوجة في الصفّ الواحد. هكذا، عنصران مرّةً واحدةً، وكأنّنا لسنا في مهمّة؛ أو كأنّ أحدَ أهمِّ عناصرنا ليس غائبًا في أخطر مهمّةٍ إلى الآن.

كتمتُ حنقي. وقبضتُ على الـ MP3 في جيبي، لأُفهِم صاحبتَه أنّها لن تأخذه، لا اليوم ولا غدًا.

تبادلنا الزوراتِ الحانقة. وفي النهاية فزتُ، فرحلت البنتان.

لا فائدة من محاولة استمالةِ مَن عشّشَتْ فيه بذرةُ الخيانة والفساد.

***

كلَّ لحظة أدخل على أبي نبيل، صاحبِ السوبرماركت، لأسأله عن الوقت.

إنّها الثامنة والنصف، وحتّى الآن لا أثر للعنصر 6، أو للبربور. ضميري لم يسمح لي بالعودة إلى البيت وهناك رفيقٌ في خطر، ضحيّة لمصيرٍ غير معلوم.

جلستُ على حافّة بيت مُدرِّسة الرياضيّات، على رأس الدرج المفضي إلى قلب الحارة. كيسُ البسكوت والشيبس والكولا في حضني، وسمّاعاتُ الـMP3  في أذني، أطبِّلُ على السور برجلي، وأحشو فمي بكلّ الفردوسيّات السكّريّة والمالحة التي اشتريتُها.

من بعيد، رأيتُها. رأيتُها رؤيةً قلبيّةً، حتّى قبل أن أميّزَ الملامح.

العنصر 6 تمشي مهزومةً بين والديها. عندما رأَتني، طأطأتْ برأسها. وعندما وصلوا إلى الدرج، اقتربتْ منّي. نزعت السمّاعة وهمست اعتذارًا سريعًا في أذني: "رايحين لدار جدّي."

ـــ والبربور؟

ـــ بقلِّك بعد بكرا، بالمدرسة.

لم يتبقَّ إلّا أنا، العنصر 1، العقلُ المدبِّر، القائد، وحيدةً ومتروكةً من رفاقي.

ـــ نجم؟

ـــ ماما!

نظرتُ إليها وهي تقف بجانب السور، وتنظر إليّ من أعلى. عبسة ممشوحة بمرحٍ تعلو وجهَها: "أكيد ما جبتِ دخّان."

هفّت يدي إلى فمي: "لا نسيت! أنا آسفة."

"شكلِك لوحدك،" علَّقتْ، ملقيةً نظراتٍ سريعةً حول المكان. "كلّه رجع عالبيت إلّا أنتِ؟ آه يا فلتانة!" وضحكتْ. "قومي. تعالي لنشتري أغراض."

قفزتُ عن السور. ومشيت بجانبها. "تركوني،" قلتُ لها ورأسي في الأرض.

ـــ بسيطة. بكرا بتشوفيهن.

لم أُجب، وأدرت ظهري للحارة. ولكنّ رأسي التفتَ، فرأيتُ خيال البربور البصباص يتهادى في عتمة الحيّ، وحيدًا.

 

دمشق

نور شرف

مترجمة تعمل بين اللغتين الإنكليزيّة والعربيّة. تدرس الأدبَ الفارسيّ في جامعة دمشق.