الغيوم لا ترحل بإرادة الرياح
21-12-2016

 

 

البارحة، احتفل عبد الفتّاح بعيد ميلاده للمرّة الخامسة عشرة على التوالي، في المكان ذاته، والعتمة ذاتها. لم يضئ الشموعَ الكثيرة، بل اكتفى ببضع شموع صُنّعتْ محليًّا من القطن والأعواد، وببضع قطراتٍ من الزيت. احترقت الشموعُ فوق طبقٍ صغيرٍ من البرغل، مثلما احترقتْ سنينُ عمره في هذه العتمة التي صارت كلَّ عالمه: عند بابها يبدأ، وعند نافذتها العلويّة الضيّقة ينتهي. لم يحضر مدعوّون كُثر؛ فقط ثلاثة أشخاص، هم الآن نزلاءُ غرفته، وكانت قد جمعتْهم ــــ ذاتَ يوم ــــ الأفكارُ ذاتُها.

اليوم، صار عمرُ عبد الفتّاح خمسةً وأربعين عامًا. هذا إذا أضفنا الخمسة عشر عامًا التي اكتملت اليوم. ولكنّه يُصرّ على أنّ عمره ثلاثون عامًا فقط، وهو العمر الذي دخل فيه تلك العتمةَ للمرّة الأولى؛ كفاتورة مفتوحة ثمنًا لأفكارٍ، يعتبرُها نبيلة، بينما يُصرُّ آخرون على أنّها مُخرِّبة. ولأنّ الطرفين كليهما أصرّا على موقفهما، فقد بقي عبد الفتّاح هنا في العتمة والجدران والهواء خمسة عشر عامًا.

انتظر ضيوفُ حفلة عيد الميلاد ــــ وهم يتكرّرون كلَّ عام ــــ أعوادَ الثقاب التي انطفأتْ كلُّها، إلّا واحدًا بقي يصارع عتمة الغرفة حتّى جرّتْه عنوةً إليها. وهكذا تقلَّص الضوءُ الخافت حتّى اتّحد العتمة.

تأمَّل الجميع الصراع غير المتكافئ بين ظلام الغرفة المزمن والضوءِ الطارئ الأعزل. وتساءل عبد الفتّاح: "كم بقي لروحي حتّى يبتلعها ظلامُ هذه الغرفة؟"

بعد انتهاء الحرب بين العتمة والشمعة بانتصار العتمة، لم تتبقَّ أيُّ فسحة مُضاءة ليتلمّس المدعوّون من خلالها طريقَهم نحو المُحتَفى به للتهنئة أو المواساة.

لم يتبادلْ رفاقُ الأمس ــــ نزلاءُ اليوم ــــ أيَّ تعابير. وانسحب كلٌّ صوب سريره: فرشة ضيّقة، تعلوها بطانيّاتٌ قاتمةُ اللون، كأنّها صُمّمَتْ خصّيصًا لتبتلع الضوءَ، الشحيحَ أصلًا، المتسرّبَ من شقوق الباب.

تمدّد عبد الفتّاح في سريره وسط العتمة، وخلد لنفسه: اليوم صارت النتيجة ثلاثين مقابل خمسة عشر. هذه هي النتيجة غير النهائيّة لصراعه مع العتمة، عتمته هو: ثلاثون عامًا في الضوء، ونصفُهم في العتمة. واطمئنّ إلى أنّ النتيجة مازالت في صالحه حتّى اليوم.

قطع سلسلةَ أفكاره وقعُ أقدام في الممرّ الطويل الذي يفضي إلى هذه العتمة. يبدو أنّها خطواتُ الضابط المناوب. تساءل عبد الفتّاح: "أجاء ليتفقّدنا، أم ليتفقّدَ دقّةَ العتمة وشمولَها المكانَ؟"

تلاشت الخطوات. وعاد الصمتُ والعتمةُ وحيدين مع عبد الفتاح.

مع اكتظاظ الضوء في الخارج، كان عبد الفتّاح قد أنهى زيارته إلى منزله، وشاهد زوجتَه وابنتَه ذاتَ الخمسة عشر خريفًا. ضمّها بحنان غامر، واندهش لرؤيتها مثلما غادرها أوّل مرّة: رضيعةً بثياب زهريّة اشتراها بنفسه، وكانت تلك أوّل مرّة يشتري لها فيها، وآخرها منذ خمسة عشر عامًا!

عندما أكمل الصباحُ انتشاره على الأسطح، وفي شوارع السجن الخلفيّة، وفي مراحيض البناء العلويّة، كانت العتمة في الداخل قد سجّلتْ للتوّ الهدف الذهبيّ في قلب عبد الفتّاح.

استيقظ رفاقُ الأمس/ نزلاءُ اليوم. شاهدوا عبد الفتّاح وهو ما يزال مغمضًا عينيْه. وقربَه، تمدّد وجهُ زوجته، وشموعٌ كثيرة محترقة. من بين شفتيه سقطتْ ضحكاتٌ طفوليّةٌ عذبة. أمّا وجهه، فقد اصطبغ باللون الزهريّ.

اللاذقيّة          

يوسف سامي مصري

كاتب ومترجم من سوريا. حائز إجازة في اللغة الانكليزيّة وآدابها. له موادّ مترجمة ومقالات في طريق اليسار الماركسي التي يصدرها "تجمّع اليسار الماركسي" في سوريا (تيم).