الفيدراليّة المعلنة في الشمال السوريّ (ملفّ)
29-05-2016

 

لاقت خطوةُ إعلان الفيدراليّة من قِبل حزب الاتّحاد الديمقراطيّ PYD (الوجه السوريّ لحزب العمّال الكردستانيّ) رفضًا واسعًا في سورية، على مستوى الناس والنظام والمعارضة معًا. وإذا كانت الفيدراليّة نظامَ حكمٍ متّبعًا في كثير من دول العالم، فإنّ ما أُعلن في الشمال السوريّ بدا خطوةً متعجّلةً افتقرتْ إلى جميع الشروط القانونيّة والسياسيّة والاجتماعيّة.

يبلغ عددُ أعضاء الأمم المتّحدة 193 دولة، منها 28 دولة فيدراليّة، يسكنها 40% من مجموع سكّان العالم. والفيدراليّة شكلٌ من أشكال الحكم، يتمّ عبره تقاسمُ السلطة بين الحكومة المركزيّة وبين وحداتٍ إداريّةٍ أصغر (ولايات، أقاليم) نتيجةً ــــ في العادة ــــ لرغبة هذه الولايات أو الأقاليم في الاتّحاد في دولةٍ واحدة، مع رغبة كلٍّ منها في المحافظة على استقلالها عبر بعض القوانين والسياسات المحليّة.

هذا الاتحاد لا يمكن تحقيقُه في الدولة المركزيّة البسيطة (كسورية مثلًا) من دون توفّر شروط وعوامل، أهمّها:

1) أن تكون هذه الدولة مؤلّفةً من عدّة أقاليم، يقطن في كلٍّ منها شعبٌ متجانسٌ يختلف عن شعوب الأقاليم الأخرى أو سكّانِ المركز، اجتماعيًّا واقتصاديًّا، مع وجود اختلاف أيضًا في الهويّة والعادات والتقاليد واللغة والثقافةِ والدين، بحيث يستحيل عيشُ هذه الشعوب في دولة مركزيّة وتحت قانون ودستور مشتركيْن لا يراعيان هذه الفروق الشاسعة.

2) أن يرغب سكّانُ تلك الأقاليم، الذين تتوفّر فيهم شروطُ التمايز عن الآخرين، في الانفصال وفقًا لتوفّر شروط العامل الأوّل أعلاه.

وعلى أيّة حال،لا توجد نسخة من الفيدراليّة يمكن اتّخاذُها حالةً نموذجيّةً يمكن القياسُ عليها؛ فكلّ دولةٍ لها ظروفُها التي تحتّم عليها شكلًا محدّدًا من الفيدراليّة والقوانين والأنظمة. وتمْكننا ملاحظةُ الاختلاف في بعض القوانين بين ولايةٍ وأخرى، ولو اشتركتا في نظام دولة فيدراليّة.

 

الفيدراليّة كما يطرحها الأكرادُ في سورية

لا توجد صيغة محدّدة ومطالب واضحة المعالم ومتّفق عليها في خطاب الأكراد في سورية، الصادر عن عددٍ من الأحزاب الكرديّة فاق الستّين بسبب كثرة الانشقاقات منذ سنة 1957.

فسقفُ المطالب الكرديّة كان ينحصر، منذ بداية تأسيس الحركة الكرديّة، في حقّ المواطنة للجميع، ومنحِ الجنسيّة السوريّة للأجانب، وحقوقٍ ثقافيّةٍ أخرى كحقّ تعلّم اللغة الكرديّة في مناطق الكثافة الكرديّة مثلًا. لكنّ سقف هذه المطالب ارتفع بعد احتلال العراق سنة 2003 نحو المطالبة بحقوقٍ قوميّة ــــ وهذا مصطلحٌ مطّاطٌ لم يتّضح المقصودُ منه. ثمّ ارتفعتْ بعضُ الأصوات مع انطلاق الحَراك السوريّ سنة 2011، لتتحدّث عن حكمٍ ذاتيّ وإدارةٍ ذاتيّة وكونفيدراليّة. وفي سنة 2012 رفعت الأحزابُ الكرديّة المؤسِّسة لـ"المجلس الوطنيّ الكرديّ" شعار "الفيدراليّة مطلبُنا." ورغم أنّ عدم تبنّي حزب الاتّحاد الديمقراطيّ لمطلب الفيدراليّة كان أحد أهمّ الأسباب في فشل توحّده مع باقي الأحزاب الكرديّة الأخرى في الاتّفاقيات التي رعاها مسعود البرزاني منذ سنة 2013، فإنّ الاتّحاد الديمقراطيّ فاجأ الجميعَ بإعلانه الأحاديّ عن الفيدراليّة في ثلاث مناطق، هي محافظات الحسكة وعفرين وعين العرب، علمًا أنّ الحسكة تخضع لسيطرة مشتركة مع النظام. وبطبيعة الحال، رفضت الأحزابُ الكرديّة هذا الإعلان، بالرغم من أنّ مشروع الفيدراليّة من أولويّاتها لأنّه لا يضمن مشاركتَها في هذا المشروع.

 

عوائق الفيدراليّة في سورية

يتفرّد الأكراد اليوم في سورية بطرح موضوع الفيدراليّة، في تقليدٍ أعمى لتجربة أكراد العراق، مع الفرق الشاسع بين الحالتين شكلًا ومضمونًا.(1) وأهمّ العوائق أمام قيام تلك الفيدراليّة:

1 ـ أنّ الفيدراليّة عادةً تنشأ في الدول ذاتِ الطبيعة المركّبة، والمؤلّفةِ من عدّة أقاليم ذات تمايزاتٍ وفروقٍ تسمح لها بتشكيل إطارٍ مستقلٍّ ذاتيًّا إلى حدٍّ ما. وهذا لا ينطبق على سورية التي تُعتبر "دولةً بسيطة": فهي مؤلّفة من عدّة محافظات مندمجة، لا تفصلها أيّةُ موانع؛ كما لا تشكّل أيّةُ محافظة أو منطقة منها تمايزًا عرقيًّا أو دينيًّا أو لغويًّا؛ ولم يشكّل أيُّ جزءٍ منها إقليمًا مستقلًّا بذاته، باستثناء المحاولات الفاشلة التي بذلها الفرنسيّون لتقسيم سورية في نيسان سنة 1922 (دولة دمشق، دولة حلب، دولة العلويين...)، ثمّ المحاولة الفاشلة أيضًا لاستيعاب غضب الشعب السوريّ ورفضه لهذه التقسيمات عبر إعلان الاتّحاد الفيدراليّ (الاتّحاد السوري) في تموز 1922.

2 ـ الفيدراليّة تستوجب تقسيمَ سورية، ثمّ إعادة توحيد المقسّم كما فعل الفرنسيون. لكنّ الجديد هذه المرّة هو الإيحاء بوجود "مناطق كرديّة" في سورية عبر استخدام مصطلح "مناطق ذات أغلبيّة كرديّة،" أو مصطلحات ذات دلالات سياسيّة أعمق وأخطر مثل " كردستان سورية." والطرح الفيدراليّ هذا مختلف تمامًا عن "اللامركزيّة الإداريّة،" التي أقرّها أوّلُ دستور سوريّ سنة 1928، وطُبّق لأوّل مرّة في عهد الوحدة السوريّة ــــ المصريّة، ثمّ بات تحت اسم "الإدارة المحليّة" حبرًا على ورق.

3 ـ إنّ أيّ إعلان منفرد خارج إطار التوافق السوريّ سيكون مصيره الفشل الحتميّ. فإعلانٌ يمسّ بسيادة سورية ليس قانونيًّا ما لم يُطرحْ من خلال دستور البلاد، ويصادِق عليه ممثّلون منتخبون من الشعب السوريّ بعد استفتاء شعبيّ لجميع أبناء سورية. ولا يمكن أيّةَ أقليّةٍ أن تقرّر مصيرَ سورية ومستقبلَها بشكل منفصل عن إرادة أبنائها، أو عبر الاستقواء بالأجنبيّ.(2)

4 ـ الفيدراليّة، التي باتت مطلبًا للأحزاب الكرديّة في سورية منذ عام 2012، مطروحة لتشمل ثلاثَ مناطق منفصلة، هي الحسكة وعفرين وعين العرب. وهذا أحدُ أهمّ العوائق التي تواجه هذا الإعلان، ولا سيّما أنّ هذه المناطق ذاتُ مساحات جغرافيّة واسعة، وتفصلها أيضًا مساحاتٌ جغرافيّةٌ كبيرةٌ مأهولة بغير الأكراد.

5 ـ  لا يمكن تحقيقُ الفيدراليّة الكرديّة في سورية لانعدام التوزّع الديموغرافيّ القوميّ في أيٍّ من المناطق التي تريد الأحزابُ الكرديّة جعلها فيدراليّة. إذ لو استثنينا منطقة عفرين في ريف حلب ذات الأغلبيّة الكرديّة، والتي يبلغ عددُ سكانها نحو 200 ألف نسمة، فإنّ باقي المناطق تُعتبر ذاتَ أقليّة كرديّة؛ ففي منطقة الجزيرة (محافظة الحسكة) لا تتجاوز نسبةُ المكوّن الكرديّ أكثر من 28% من مجموع سكّانها، في حين تقارب نسبتُهم الـ 45% في منطقة عين العرب إذا أخذنا ريف المنطقة في الاعتبار.

6 ـ لم تنجح الأحزابُ الكرديّة، حتّى اللحظة، في تقديم تعريف مشترك للفيدراليّة التي تطالب بها، ولا في إيجاد مبرّر مقْنع لقيامها في سورية. وثمة أقسام كبرى من الشعب السوريّ تعتبر الفدراليّة شكلًا من أشكال التقسيم، أو مقدمة لتفتيت هذا الشعب.

7 ـ مكوّنات الشعب السوريّ من الشمال إلى الجنوب تعيش في مناطق مشتركة ومختلطة. والعمل على إيجاد منطقة صافية إثنيًّا أو مذهبيًّا أمرٌ لا جدوى منه. ولن تنفع عمليّاتٌ التهجير أو التطهير العرقيّ في تحقيقه.

سوريا


1- إذا استثنينا حزبَ الاتحاد الديمقراطيّ، التابع لحزب العمّال الكردستانيّ، والحزبَ التقدّميّ الديمقراطيّ الكرديّ، المرتبط بجلال الطالباني، فإنّ جميع الأحزاب الكرديّة الأخرى في سورية تعتبر مسعود البرزاني رمزَها وقائدَها ومرجعَها السياسيّ.

2- يُذكر أنّ عددًا كبيرًا من المنتسبين إلى الحزب الذي أعلن الفيدراليّة في الشمال السوريّ هم من المقاتلين الأجانب، وبشكلٍ خاصٍّ من الجنسيّة التركيّة.

مهند الكاطع
كاتب سوريّ من القامشلي. حائز شهادة ماجستير في الهندسة الكيميائيّة التقنيّة. مهتمّ بدراسة الأقلّيّة الكرديّة وحراكها السياسيّ.