اللوحة 26
10-11-2017

 

من خلف مرسمي، ومن خلال النافذة المطلّة على المبنى المقابل الجديد، رأيتُ عمّالَ البناء يرفعون دعاماتِ الطابق الثالث الموازي لغرفتي. خمسة شبّان ــــ غير الذين يعملون على الرصيف أسفلَ المبنى ــــ  و"معلِّمُهم": رجلٌ أشيب، قصيرُ القامة، دائمُ العبوس. اعتدتُ رؤيتَهم على مدى أسابيع، حتّى إنّني حفظتُ أسماءهم، وكوّنتُ فكرةً بسيطةً عن كلٍّ منهم من خلال أحاديثهم التي تصلني متقطّعةً. وها هم اليوم يحاذون غرفتي وأكاد أسمعُ صوتَ أنفاسهم:

*مصطفى: فلسطينيّ. طويل القامة، بارزُ العضلات. يغنّي أثناء العمل، ويدخِّن بشراهة. متزوّج، ويحلم أن يُرزَق بصبيّ ليطلق عليه اسم "عمّار،" ليصبح هو "أبو عمّار." هذا ما قاله لرفاقه اليوم.  

*جواد: طالب جامعيّ. اضطرّته ظروفُ الحياة الصعبة إلى ممارسة هذا العمل. نادرًا ما يتكلّم. لم أره مرّةً يستريح، للتدخين وشرب القهوة أو الشاي.

*كمال: عصبيّ المزاج. يأتي متأخّرًا كلّ يوم تقريبًا. يُكثر الكلامَ عبر الجوّال مع خطيبته، ويُسمَع حديثُه المليء بالشتائم من على بُعد عشرات الأمتار:

ــــ ما معي مصاري. عم إشتغل متل الحمار.

ــــ .....................

ــــ قوليلهم مات... انتحر... فطس.

ــــ .....................

ــــ ربّك ع ربّ أهلِك.

ــــ ......................

ــــ مااااااني معصّب.  

ــــ ......................

ــــ لاااا بحبِّك... بتعرفي إنّي بحبِّك. ليش أكل الخرا بقى؟

*خالد: مربوعُ القامة. يتمتّع بسمرةٍ يَحسده عليها أبطالُ كمال الأجسام. مختّصٌ بالنكات البذيئة. وهو الوحيد الذي يستطيع إخراج "المعلّم" من عبوسه، فتراه يقهقه حتّى يكاد يختنق كلّما سمع إحدى نكاته.

*نور: شقيق مصطفى الصغير. لا يتجاوز خمسة عشر عامًا. يتيم الأب. لا يذهب إلى المدرسة، بل يعمل كي يساعد أخاه وأمَّه في مصروف البيت. انتبهَ إلى وجودي مؤخّرًا، فصار كلّما التقتْ نظراتُنا يبتسم؛ فأردّ بابتسامةٍ خفيفة، ويتابع كلٌّ منّا عمله.

***

أجلس قبالة نافذة غرفتي كأنّها شاشةُ تلفازٍ أشاهد من خلالها مسلسلًا متعدّدَ الحلقات، مسلسلًا شخوصُه من لحمٍ ودم، أستطيع ــــ لو أردتُ ــــ مخاطبتَهم أو نقاشَهم، لكنّهم مشغولون بعملهم، وأنا خلف مرسمي لا أقوم بما يلفت الانتباه.

كنتُ أعمل على رسم لوحةٍ جديدةٍ من أجل معرضي القادم، شتاءَ هذا العام، وهي اللوحة الأخيرة من أصل 25 أخرى أنجزتُها خلال العاميْن الماضييْن. اعتمدتُ أسلوب "المدرسة الانطباعيّة"(1) التي جذبتني مُذْ وقعتْ بين يديّ ــــ وأنا طفلٌ في المرحلة الابتدائيّة ــــ مجلّةٌ تهتمّ بالفن التشكيليّ، ووجدتُ فيها مقالًا عن كلود مونيه.(2) لم أقرأ المقال، لكنّ الألوانَ واسمَ الفنّان بقيتْ في ذاكرتي. وكان ذلك هو السببَ الرئيس لدخولي كلّيّة الفنون الجميلة فيما بعد.

شيئًا فشيئًا بدأتْ تتبلور ملامحُ مشروعي الفنّيّ، الذي كان أداتي للتعبير عن انحيازي إلى البسطاء، ووسيلةً لتسليط الضوء على مَواطنِ الجمال في عالمهم الذي أنا جزءٌ منه. فكان مشروعُ تخرّجي مجموعةً من اللوحات تُصوِّر أحذيةَ الفقراء في حالات مختلفة. وقد اعتمدتُ "المدرسة الانطباعيّة" من أجل نقل هذه المشاهد وتثبيتِها على القماش، مع إضافة لمسةٍ رومانسيّةٍ من خلال اعتنائي بدرجات اللون والظلال وبعض التفاصيل الجانبيّة. والحقيقة أنّ لوحةً للفنان الهولنديّ الشهير فان كوخ هي التي أوحت إليّ بالفكرة. لكنْ لم يشفع لي ذلك، وتعرّضتُ لكثيرٍ من الانتقادات، فشَبّه بعض أساتذتي عملي كمن يخلط الزيتَ بالماء، والنتيجة معروفة سلفًا: "المدرسة الانطباعيّة لها موضوعاتُها، والأحذية ليست إحدى هذه الموضوعات." خجلتُ من الإشارة إلى لوحة فان كوخ وتقبّلتُ الانتقاد. لكنّ الغريبَ أنّ علامتي كانت جيّدة على الرغم من كلّ شيء!

***

قبل شهر، عندما انتهيتُ من شدّ قماش لوحتي هذه، لم يكن في ذهني موضوعٌ محدّدٌ. كانت لوحاتي الأخرى جاهزةً للعرض، وشعرتُ أنّني في حاجةٍ إلى روحٍ جديدة. بقيتُ فترة طويلة جالسًا أمام قماشها الأبيض، أبحث عن شيءٍ لا أعرف ما هو بالضبط. إلى أن سمعتُ يومًا صراخًا آتيًا من الخارج. ذهبتُ إلى النافذة، فوجدتُ عمّال الورشة ــــ وكانوا في الطابق الثاني ــــ متجمّعين حول "نور" الصغير وهو يتلوّى على الأرض، ممسكًا قدمَه النازفة بيديْه. قَدّرتُ أنّ مسمارًا، من تلك المسامير التي تُنسى في قطع الخشب المهمَلة، اخترق أسفلَ قدمه. وكان الأمرُ كذلك بالفعل. وكان نور تحت أشعّة الشمس الحارقة، بجسده النحيل وشعره الأشعث، يُذكّرني بنفسي وأنا في مثل عمره.

كنتُ أراقبه بقلبٍ منقبض، حين رأيتُ "المعلّم" ينحني فوقه بتثاقل، ثمّ بهدوءٍ شديدٍ ينزع المسمارَ ويبدأ بضربه على رجله المصابة بقطعة الخشب ذاتها. بدأتُ أصرخ: "ليش هيك؟ حرام عليك؟" لكنّ المعلّم استمّر بالضرب قبل أن يلتفت نحوي قائلًا: "إذا بدّك تعرف تفضّلْ حتّى إشرحلك."

***

حين وصلتُ وجدتُ نور ملقًى على الأرض: رجله مضمّدة بخرقةٍ وسخة، والدموع في عينيْه. كان الجميع حوله، ومعهم المعلّم الذي سألني على الفور: "عندك سيّارة؟" وما إنْ أومأتُ برأسي إيجابًا حتّى رفع نور إلى حضنه قائلًا: "دعنا ننقله إلى المشفى."

في الطريق عرفتُ أنّ الضرب بهذه الطريقة إجراءٌ متّبع بين عمّال البناء؛ فهو يساعد الجرحَ على النزيف، فيُخرجُ الدمَ الملوّثَ، ويَحمي الجريحَ من الإصابة بالكزاز،(3) قبل نقله إلى المشفى.

هكذا بدأتْ تتشكّل معالمُ لوحتي الأخيرة بعيْد عودتي من المشفى. وكنتُ أضيف كلّ يوم تفصيلًا صغيرًا، تفرضه الظروفُ والأحداث. حتّى الألوان كانت تتغيّر بين يومٍ وآخر. وكان نور، برجله النازفة، يتوسّط اللوحةَ، جالسًا على الأرض، وحوله بقيّةُ العمّال:

كمال، إلى جانب المعلّم، يشير منفعلًا اإلى نور. وفي الجهة المقابلة، تموضَعَ جواد، بنظّارته الطبّيّة وسرواله الجينز الواسع وقميصه الخاكيّ. وعلى بعد خطوةٍ منه، إلى الخلف، يُطلّ مصطفى برأسه، فاتحًا عينيْه على أقصاهما، فاغرًا فمَه، ممسكًا بجواد من كتفه، محاولًا الوصولَ إلى نور. أخيرًا يظهر خالد، إلى يسار المشهد، حاملًا على كتفه دعامةً خشبيّةً طويلة. وفي الخلفيّة تظهر الأبنية، بارتفاعاتها المختلفة، غارقةً في ضبابٍ ورديّ؛ ما جعل ألوانَها باهتةً، وحدودَها متداخلة، فبدتْ كجدارٍ أصمّ يحيط بالمشهد. كانت مساحة اللون الأحمر تتمدّد من المركز إلى الأطراف، وكانت صرخةُ نور تعلو كلّ يوم أكثر فأكثر.

***

تذكّرتُ، وأنا مستغرقٌ في الرسم، مشروعَ تخرّجي قبل ثلاثين عامًا. تذكّرتُ حين انتقدني أحدُ أساتذتي قائلًا: "أنت لا ترسم الواقع كما تدّعي، بل الواقع هو الذي يرسمك."

لم أفهم حينها المقصود، لكنّني تابعتُ عملي بالأسلوب ذاته، وغرقتُ أكثر في تفاصيل حياة الناس: من سوق الخضار، إلى الساحات العامّة والمقاهي والطرق الضيّقة، فإلى شاطئ البحر والصيّادين وشِباكهم وقواربهم الصغيرة الملوّنة.

مضت الأيّامُ وأنا غارقٌ بين أدوات الرسم والألوان وأصواتِ جيراني العمّال. وبدأتْ تظهر اللوحةُ بشكلها النهائيّ: تَمورُ بالحركة، وتغصُّ بالأحمر. كنتُ في بعض الأحيان أقضي ساعةً كاملةً لا أفعل شيئًا سوى التدخين والشرود في اللوحة. وكلّما شعرتُ أنّ العمل اكتمل سمعتُ صوتًا من داخلي يصرخ: "تريّثْ... تريّثْ."

في هذه الأثناء كان يزورني بعضُ الأصدقاء، ويشاهدون العملَ وتطوّراتِه، فيدور النقاش، وتُطرح العديد من الأسئلة: لماذا وضعتَ كلَّ هذا اللون الأحمر؟ لماذا رسمتَ شخوصكَ بأسلوبٍ مغرقٍ في الواقعيّة، بينما المحيط بأسلوبٍ آخر؟ لماذا الخلفيّة ضبابيّة بهذا الشكل؟ لماذا تخلّيتَ عن أسلوبكَ؟ أهناك إيحاءٌ سياسيٌّ خلف اللون الأحمر؟...

أمّا السؤال الذي استوقفني فكان من توليب، تلميذتي الصغيرة الموهوبة التي زارتني صبيحةَ أحد الأيّام ومعها كيسٌ كبيرٌ مليء بالطيّبات. وما إنْ وقعتْ عيناها على اللوحة حتّى قالت بعفويّة: "عملٌ ذكوريّ بامتياز!"

صدمني رأيُها، وطلبتُ منها توضيحًا. لكنّها خجلت واعتذرتْ، ظنًّا منها أنّني استأتُ من تعليقها. ثم هربتْ إلى المطبخ مع كيسها لتُعدّ وجبة الإفطار. صرتُ أكرّر جملتها في ذهني، ماسحًا اللوحةَ بنظراتي المتفحّصة. ولم أجد صعوبةً في معرفة أسباب هذا الرأي: فالشخوص كلُّهم من الذكور، بالإضافة إلى العنف الظاهر في تقاسيم وجوههم، وحركاتِهم المتوتّرة، والأدواتِ الصلبة المحيطة بهم، ولونِ الدم الذي امتدّ من قدم نور إلى جنبات المشهد.

عادت توليب بالفطور والشاي، فجلسنا نأكل بهدوء، بعد أن اختارتْ من قائمة الموسيقى المحفوظة على حاسبي المحمول مقطوعةً موسيقيّةً لبيتهوفن، عنوانُها "من أجل إليزا."

كانت الموسيقى تنساب في منتهى الرقّة والعذوبة، وتوليب الجميلة تأكل بشهيّة، إلى أن قالت فجأةً: "لا يبدأ يومي إلّا بعد تناول وجبة الإفطار." وأضحكتني حين تابعتْ: "لا أحبُّ اللحوم ولا الباذنجان!" قاطعتُ إعلانها الغريب هذا وسألتُها: "ما مناسبة هذا الحديث؟" ردّت: "لا مناسبة. إنّها معلومة فقط." وكانت تريد الاسترسال، لكنّني قاطعتها من جديد: "ما دمنا نتحدّث عن المعلومات، هل تعرفين لمن هذه المقطوعة الموسيقيّة؟" "قرأتُ ذلك قبل لحظات وأنا أبحث في قائمة الموسيقى لديك. إنّها لبيتهوفن،" قالت. "وهل تعرفين اسمها؟" "لا، ما اسمها؟" سألتْ كما يسأل الأطفال. فوجدتُها فرصةً مناسبةً للعودة إلى دور الأستاذ وبدأتُ أقصّ عليها ما أعرفه:

ــــ هذه المعزوفة نُشرتْ لأوّل مرّة بعد أربعين سنة من وفاة بيتهوفين. وليس مؤكّدًا من هي إليزا، والمرجّح أنّ اسم المعزوفة الحقيقيّ هو"من أجل تيريزا،" وسبب ذلك الخطأ يعود إلى سوء خطّ بيتهوفن. فقد كانت هناك فتاةٌ في حياته تدعى تيريزا مالفاتي، وهي طالبة تدرس لديه وصديقة مقرّبة منه.

كانت عينا توليب اللامعتان تنظران إليّ بمودّة، مع أثر ابتسامة على شفتيها. ابتسمتُ بدوري قائلًا: "هذه المعلومة ثمنُها أن تصبّي لي كأسًا أخرى من الشاي." فقالت وهي تبحث عن الإبريق تحت الطاولة: "أنا أيضًا طالِبتُك وصديقتُك المقرّبة. فهل سترسم لوحةً وتسمّيها باسمي؟" قلت: "من يعلم؟ ربّما أفعل!" ثم أضفتُ مشيرًا إلى اللوحة: "معكِ حقّ. إنّها ذكوريّة." وذكرتُ لها الأسباب، فوافقتني قائلة: "بالإضافة إلى ما ذكرتَ، هناك أيضًا حجمُها." وافقتُها بعد قليل من التفكير؛ فالأحجام الكبيرة قد توحي بالذكورة، وحجم اللوحة كان 2×2 م. وسألتها إنْ كان هناك شيءٌ آخر. فأجابتني، وهي تحشو فمها بلقمةٍ كبيرةٍ من اللّبنة وتُلحقها برشفةٍ من فنجانها الشاي: "هناك الشكل." وعندما لم أُعلّق، مكتفيًا بالتمعّن في وجهها الجميل وحركاتها الطفوليّة، أضافت: "أنظرْ إليها! إنّها مربّعة الشكل. والمربّع يوحي بالذكورة."

ابتسمتُ للملاحظة، فتوقّفتْ عن الطعام وبدأتْ تتكلّم بجدّيّة: "أنت شرحتَ لنا ذلك في إحدى محاضراتك. هل نسيت؟"

قلت: "لم أنسَ، وأذكرُ جيّدًا أنّني قرأتُ عليكم مقطعًا من كتابٍ لم أعد أذكر اسمَه. كان دراسةً في علم التحليل النفسيّ، لا كلامًا منزّلًا. وجاء فيه إنّه يمكننا تقسيمُ البشر تبعًا لشخصيّاتهم مقارنةً بالأشكال الهندسيّة؛ فهناك من هم مُربَّعيّون ــــ ولا علاقة لهذا بالذكورة أو الأنوثة. والمُرَبّعيّون يُفضّلون المعلومات الواقعيّة على العواطف أو الأفكار التجريديّة؛ وهذا هو سبب اعتمادهم بشدّة على العمليّات التحليليّة في أسلوب حياتهم..."

كانت تنتظر توقّفي عن الكلام لتقول على الفور وبلهجةٍ حاسمة: "وهذا يعني أنّ المُربّع ذكوريّ. وشكل المربّع قاسٍ وجامد. نقطة انتهى." سألتُها: "وماذا تكون الأنثى حسب نظريتكِ؟" لتجيب من دون تردد: "مثلّث." نظرتْ إليّ كأنّها تسألني رأيي. قلت بتحفّظ: "كنتُ أظنّها دائرة." فانفجرتْ ضاحكةً وأضحكتني من قلبي حين قالت بملعنة: "دائرةٌ حكوميّة!" ثمّ جمعتْ أغراضَها وغادرتْ كما جاءت بصخب.

عدتُ وحيدًا، ورجعتُ إلى لوحتي "الذكوريّة" أدقّق في تفاصيلها كأنّني أراها للمرّة الأولى، وأحدّث نفسي: حسنًا، لتكن ذكوريّة، أين المشكلة؟ ثمّ أعود وأغيّر رأيي بعد لحظات: ما المانع من كسر هذا الانطباع؟ ولكنْ كيف؟ لماذا لم أسأل هذه "الفصعونة"؟

بقيتُ طوال اليوم أقلّب الفكرة في ذهني، وطيفُ توليب يلاحقني بنظريّاتها ومربّعاتها وعينيْها المشاكستيْن. بعد طول تفكيرٍ تركتُ الأمور على حالها ووضعتُ توقيعي على اللوحة واسترحت.

***

في يوم الافتتاح حضر جمهورٌ كبير: رجال أعمال، وسياسيّون، وأدباء، ومثقّفون، وهواة رسم، وفنّانون محترفون،... حين دخلتُ الصالة رأيتُ باقاتِ الزهر مركونةً في زواياها، واللوحات موزّعةً على الجدران بأناقةٍ وإتقان، تفصل بينها مسافاتٌ مدروسةٌ تراعي الإضاءةَ وحركة الناس. أمّا لوحة نور فقد احتلّت بمفردها صدرَ الصالة، وبدتْ من بعيدٍ كبقعة دمٍ فوق بياض الجدار.

بعد قليل رأيتُها عند مدخل الصالة، حيث الملصقُ الإعلانيّ الذي تتوسّطه ــــ بخطٍّ عريضٍ وبلون الحليب ــــ كلمةُ "توليب" عنوانًا للمعرض، وتحت العنوان يتربّع اسمي مع باقي المعلومات وبحجمٍ أصغر.

هناك تمامًا، وكالقدر، كانت تقف توليب: ظهرُها إلى الملصق، واضعةً كفّيْها فوق فمها كما تفعل عادةً عندما تخجل وتتأثّر. وحين رفعتُ لها يدي تحيّةً، أرسلتْ إليّ قبلةً في الهواء، وانزلقتْ مع دموعها بهدوءٍ نحو الأرض مستندةً بظهرها إلى الزجاج، فبدتْ مع الملصق فوقها لوحةً بحقّ: مثلثٌ لطيفٌ مزركشٌ بالألوان، ينوء تحت ثقلِ مربّعٍ يفور بالدم.

كانت هذه هديّتي إلى تلميذتي الحلوة، التي فتّحتْ عينيّ على أمرٍ لم أتنبّهْ إليه. وها هي تأتي اليوم، بكامل ألقها، لتُدهشَني بحضورها اللطيف، فأرنو إليها مأخوذًا. بينما تتردّد صدى كلمات أستاذي في ذهني:

"أنت لا ترسم الواقعَ كما تدّعي، بل الواقعُ هو الذي يرسمك."

اللاذقيّة

 

(1) أسلوبٌ فنّيٌّ في الرسم، يعتمد على نقل الواقع أوالحدث من الطبيعة مباشرةً، كما تراه العينُ المجرَّدة، بعيدًا عن التخيّل والتزويق. وبموجبه، خرج الفنّانون من المرسم، ونفّذوا أعمالَهم في الهواء الطلق؛ ما دعاهم إلى الإسراع في تنفيذ العمل الفنيّ قبل تغّير موضع الشمس في السماء وتبدُّلِ الظلّ والنور. سمّيتْ هذه المدرسة بهذا الاسم لأنها تنقل انطباعَ الفنّان عن المنظر المشاهَد، بعيدًا عن الدقّة والتفاصيل.

(2) كلود مونيه 1840 -1926 : رسّام فرنسيّ. رائد المدرسة الانطباعيّة (أو التأثيريّة). قام بإنجاز لوحةٍ جديدةٍ عام 1872، وسمّاها "انطباع شمسٍ مشرقة." ولمّا كان الأول في استعمال هذا الأسلوب الجديد من التصوير، فقد اشتُقّ اسمُ المدرسة الجديدة "الانطباعيّة" من اسم لوحته.

(3) مرضٌ حادّ ينتج عن تلوّث الجروح بالجراثيم.

عصام حسن

رسّام كاريكاتير، وكاتب من اللاذقيّة، سوريا. أقام العديد من المعرض في سوريا وشارك في معارض خارجها، له مؤلّفات عديدة، منها: ما قلّ ودلّ وهيك وهيك  (رسوم كاريكاتيريّة)، غيمة الشعر الوردية، وأكره اللون الأحمر (نصوص ورسومات للأطفال)،الحرب ومربّى الفريز،  وحدثينا يا شهرزاد، وعن الحب وفأر الطحين (نصوص وحكايات مختلفة).