المريض والذبابة
04-04-2016

 

استطاع أن يحصي عددًا غيرَ محدود من غيومٍ تمرّ خلف الزجاج الذي وقفتْ عليه تلك الذبابةُ منذ نصف ساعة. بين الفينة والأخرى تُلهيه نوبةُ السعال عن العدّ، فيعود إلى البداية، ليجد أنّ أشكالَ الغيوم تتبدّل كثيرًا، وإنْ تشابه بعضُها أحيانًا. شاهدَ غيومًا تشبه طائراتٍ حربيّة، وغيومًا تشبه أشكالًا خرافيّة، وأخرى تشبه حيوانات. لكنّه كثيرًا ما شَبَّهَ بعضها بوجوهٍ عرفها، أو شاهدها، ونسي أصحابَها؛ فكان أن تذكّرها هذا اليوم، وفي ظرفٍ غريبٍ كالذي هو فيه الآن.

هل تأتيه الغيومُ بوجوهٍ تودِّعه؟

هل حان موعدُ الرحيل؟

كلّا، ليست الأمور بهذا السوء حتّى يستسلم، على الرغم من آلامه التي لم يَخْبرها من قبلُ.

أثناء استغراقه ذاك، داهمتْه نوبةُ سعالٍ جديدة، شعر بعدها بفراغ مؤلمٍ في رأسه. وحين أعاد النظرَ إلى الغيوم، كانت الذبابة قد اختفت عن الزجاج. سمع أزيزَها في مكانٍ ما. بحث عنها. كلّما تحرّك ازداد ألمُه، وازداد الفراغُ اتّساعًا. لكأنّ الكون كلّه صُبَّ في هذا الفراغ، وثَقُلَ به رأسه.

سمع أزيزَها من جديد، فخاف. حسبه أزيزَ الطائرات التي كانت ترمي قنابلَها على حيّه. نظر إلى كيس المصل الذي تتفرّغ سوائلُه في دمه، فلم يجدها. لربّما دخلتْ عبر الأنبوب إلى دمه، وبلغتْ دماغه. تخيّلها تطير في تجويف رأسه، وتلقي قذاراتها فوق بياض دماغه.

أيُّ كابوسٍ هذا؟

عاد إلى البحث. نظر إلى الستارة المتكوِّمة جانب النافذة، وإلى الجدار المقابل لسريره. جال ببصره في السقف تحرّكتْ عيناه كحركة عينيْ لصٍّ يستكشفُ مسرح غزوته القادمة.

إنْ حرّك رأسَه إلى اليسار، حيث النافذةُ الأخرى، فسيؤلمه التجويفُ الفارغ. رغم ألمه قرّر استئنافَ البحث عنها. التفت فوجدها هناك. سكن قليلًا كمن ضَمِنَ انتصارَه الآنيَّ. النافذة تُطلّ على جدارٍ يمنع رؤية الغيوم. أراد رؤية الغيوم عبر النافذة الأخرى، لكنّه يصرّ على مراقبة الذبابة. حار بين الذبابة والغيوم. الذبابة سجينة مثله، وربّما ضعيفة مثله أيضًا، لكنّ الغيوم تحمله خارج الغرفة التي ضاقت به وضاق بها. ربما تردُّه الغيومُ إلى شوارعَ كانت مزدحمةً قبل الحرب، أو إلى برارٍ، أو إلى قمم جبالٍ قاحلة.

تنبّه إلى أنّ الذبابة قد اختفت. ثمّ سمع أزيزها، فجال ببصره يبحث عنها من جديد.

التجويف يزداد اتّساعًا كلّما حرّك رأسه. الأزيز يزدادـ ولكنْ أين هي؟ ربّما صارت في التجويف. التجويف يزداد اتّساعًا، وصوتُها يزداد قوّةً. لا بدّ من أنّها في الداخل. ربّما تلقي الآن قذاراتها. أحسّ بدماغه يتّسخ، ثمّ أحسّ بألمٍ فيه كأنّها ترمي القنابلَ على سطحه. لم يعد يرى شيئًا.

يسمع أصواتًا حوله، ولكنه وحيدٌ في الغرفة:

ـــ انقلوه إلى المشفى!

ولكنّه في المشفى الآن.

ـــ قد لا يصل، فلماذا ننقله؟

ـــ إنّه بحاجة إلى دم.

يسمع أصوات انفجارات. يزداد صوت الأزيز قوّةَ. لا بدّ من أنّ الذبابة ترمي حممَها قرب مركز السمع.

أصواتُ انفجاراتٍ أصواتُ عويل. أصواتٌ وأصوات.

ثمّ صمت.

سوريا

مالك ونّوس

كاتب صحفيّ ومترجم سوريّ. نشر ترجمات ومقالات ومراجعات كتب في صحف ودوريّات سوريّة وعربيّة. نقل إلى العربية كتاب:غزّة، حافظوا على إنسانيّتكم، للمتضامن الدوليّ فيتوريو أريغوني عام 2011.