النضال الأرثوذوكسيّ الفلسطينيّ: من حركةٍ مسيحيّةٍ أرثوذوكسيّة إلى حركةٍ وطنيّةٍ شعبيّة
09-02-2018

 

ثلاثُ محطّاتٍ مفصليّة طبعت النضالَ الأرثوذوكسيّ الفلسطينيّ في الشهور الأخيرة ضدّ البطريركيّة اليونانيّة الأرثوذوكسيّة في قضيّة تسريب الأراضي إلى الصهاينة، ومن أجل تحرير الكنيسة الأرثوذوكسيّة في فلسطين من هيمنة رأسها اليونانيّ. وعلى الرغم من أنّ النضال الأرثوذوكسيّ مستمرّ منذ مطلع القرن الماضي، وقدّم الأرثوذكس أربعةَ شهداء على مذبحه في العام 1919،[1] فإنّ المحطّات التي سنتناولها عنت تطوّرًا مهمًّا في هذا النضال؛ إذ إنّه لم يبق نضالًا مسيحيًّا أرثوذوكسيًّا كما كان طوال أكثر من قرن، بل غدا نضالًا وطنيًّا شعبيًّا بامتياز. وهذا ما عنى نقلَ هذا النضال نقلةً نوعيّة، تفتح أمامه آفاقًا رحبةً لتواصله نحو تحقيق هدفيْه المعلنيْن:

ــــ عزل البطريرك اليونانيّ ثيوفيلوس، بائعِ الأراضي للصهاينة.

ــــ وتحرير الكنيسة من تسلّط الزمرة اليونانيّة.

 

المحطّة الأول: المؤتمر الوطنيّ لدعم القضيّة الأرثوذوكسيّة

بدعوةٍ من فصائل منظّمة التحرير في بيت لحم، والحَراك الشبابيّ الأرثوذوكسيّ، والمجلس العربيّ الأرثوذوكسيّ المركزيّ في الأردن وفلسطين، انعقد في 1/10/2017 في بيت لحم المؤتمرُ الوطنيّ الأرثوذوكسيّ لدعم القضيّة الأرثوذوكسيّة. شارك في المؤتمر أكثرُ من 500 عضو يمثّلون القوى والهيئات والجمعيّات، إضافةً إلى النشطاء من مختلف مناطق فلسطين التاريخيّة والأردن.

للمرّة الأولى في تاريخ النضال الأرثوذوكسيّ ينعقد المؤتمر في وصفه مؤتمرًا وطنيًّا، لا أرثوذوكسيًّا. تاريخيًّا، وضمن مأسسة الحَراك الأرثوذوكسيّ، انعقد حتى اللحظة خمسةُ مؤتمرات أرثوذوكسيّة، كان آخرها في العام 1991. وقد ناقشتْ هذه المؤتمرات أحوالَ البطريركيّة في ظلّ التسلّط اليونانيّ، وحدّدت اتجاهاتِ النضال، وانتخبتْ أعضاءَ المجلس العربيّ الأرثوذوكسيّ المركزيّ في فلسطين والأردن. ولكنْ بعد تزايد صفقات بيع الأراضي إلى الشركات والهيئات الصهيونيّة، وخصوصًا في القدس، وعدم ارتداع الزمرة اليونانيّة على رأس البطريركيّة، وبسبب حاجة الحَراك الأرثوذوكسيّ إلى تحويل نضاله إلى نضالٍ وطنيّ، فقد عُقد المؤتمرُ الوطنيّ.

كان المؤتمر بمثابة حشدٍ واسعٍ، قدّم الحاضنةَ الوطنيّة للنضال الأرثوذوكسيّ كي يَخرج من قوقعة الطائفيّة؛ فبيعُ الأوقاف المسيحيّة إلى الصهاينة ليس قضيّةً دينيّةً، بل قضيّةٌ وطنيّةٌ بامتياز. وما إعلانُ البيان الختاميّ عن "تحرير البطريركيّة من الفساد والفاسدين ومن العنصريّة والعنصريّين" إلّا تأكيدٌ واضحٌ أنّ الهدف الأسمى هو تحريرُ الكنيسة من التسلّط اليونانيّ باعتباره احتلالًا للبطريركيّة يمارس ــــ فوق تسريبه للأوقاف ــــ سياسةً عنصريّةً تجاه الكهنة العرب المسيحيّين، والأرثوذوكس عمومًا، بحرمانهم تسلُّمَ مواقعَ قياديّةٍ مقرّرة على رأس الكنيسة.

إنّ النضال الوطنيّ الفلسطينيّ ضدّ الاستعمار الصهيونيّ الاستيطانيّ ينبغي أن يتضمّن، في ثنايا برنامجه، النضالَ من أجل تحرير قيادة المؤسّسة الكنسيّة من الاحتلال اليونانيّ. صحيح أنّ النضال الأرثوذوكسيّ لم يكن يفتقر منذ عشرات السنين إلى الأدوات التنظيميّة الفاعلة؛ فهناك المجلسُ العربيّ الأرثوذوكسيّ في فلسطين وعمّان، وهناك الحَراكُ الشبابيّ الأرثوذوكسيّ، وهناك العديد من الأدوات المحلّيّة والمبادرات الشبابيّة في فلسطين المحتلة عام 48 والأردن. غير أنّ ما كان غائبًا هو قيادةٌ تُوحِّد أشكالَ النضال الجماهيريّ، وتوحِّد الخطابَ والمطالبَ أيضًا. ونعتقد أنّ المؤتمر في 1/10/2017 أدّى دورًا أساسيًّا على هذا الطريق، سواء عبر بيانه، أو عبر تشكيله لجنةَ متابعة تمثّل شريحةً واسعةً من المسيحيّين الأرثوذوكس.

كما طالب البيانُ الختاميّ منظّمة التحرير بوضع ملفّ القضيّة الوطنيّة الأرثوذوكسيّة على طاولتها باعتباره ملفًّا وطنيًّا، شأنَ ملفّات اللاجئين والأسرى مثلًا. وتحقّق ذلك في المجلس المركزيّ الفلسطينيّ، الذي اجتمع في 14/1/2018. وهو ما سنقف عند أهميّته في محطّتنا الثالثة.

 

المحطّة الثانية: حراك 6/1 ضد البطريركيّة

6/1 هو ليلةُ الميلاد بحسب التقويم الشرقيّ. في هذا اليوم يدخل البطريرك الأرثوذوكسيّ، مع وفدٍ كنسيٍّ وعَلمانيٍّ شعبيّ، بيتَ لحم، من شارعٍ عتيق (شارع النجمة)، باتجاه كنيسة المهد، وذلك التزامًا بتقليدٍ دينيّ مرتبطٍ بالمسيحيّة منذ أقدم عصورها.

كان قرارُ لجنة المتابعة، المنبثقة عن المؤتمر الوطنيّ لدعم القضيّة الأرثوذوكسيّة، هو منْعَ البطريرك من دخول كنيسة المهد، وإظهارَ الرفض الشعبيّ، وذلك عبر 1) التصدّي لموكبه، و2) عدم اشتراك قطاعاتٍ شعبيّة ومؤسّساتيّة وكشفيّة في استقباله. ولقد نجحت الحركةُ الأرثوذوكسيّة الفلسطينيّة في انتزاع قرارٍ تاريخيّ من رؤساء البلديّات (في بيت لحم، وبيت ساحور، وبيت جالا،...)، ومن كلّ المجموعات الكشفيّة، بعدم المشاركة في استقبال البطريرك وموكبه. وهذا التغيير لم يكن هتكًا صريحًا للتقليد المتّبَع منذ مئات السنين، فحسب، بل نزعًا أيضًا لـ"القداسة" المزعومة عن جبّة البطريرك الذي سرّب الأوقافَ إلى الصهاينة. وذلك إعلانٌ واضح، من طرف جماهير المؤمنين المسيحيّين، أنْ لا اعتبارَ للموقف الدينيّ أو الدبلوماسيّ أو السياسيّ حين تُنتهَك البديهيّاتُ الوطنيّة.

إنّ التصدّي للموكب، ومقاطعةَ رؤساء البلديّات والمجموعات الشعبية، تطوّرٌ لافتٌ في ذاته، وذو طابعٍ تاريخيّ. فالمتصدّون أوّلًا كان أغلبُهم من المسيحيّين الأرثوذوكس الذين نحّوا جانبًا تلك "القداسةَ" الكاذبة عن بائع الأراضي للصهاينة، وأمطروه بما مَلكتْ أيْمانُهم من البيض والأحذية وحاويات النفايات ــــ وهذا لم يجْرِ عبر تاريخ الاحتفالات من مئات السنين. كما أنّ مشاركةَ غير المسيحيّين في هذا الحَراك أضفى عليه طابعًا وطنيًّا وأخرجه من بوتقة الطائفيّة الغبيّة. ولم تنفعْ أبواقُ البطريرك في التحريض على الحَراك بالقول إنّ الفاعلين مسلمون، هادفًا إلى الإيقاع بين المسيحيين والمسلمين، وإلى جذب القطاع المسيحيّ المؤمن إلى صفّ البطريركيّة بالعزف على الوتر الطائفيّ وإظهارِ الموضوع وكأنّه يخصّ "الطائفةَ" وحدها!

ينبغي التذكير أيضًا بمقاطعة المستوى الرسميّ، على مستوى رئاسة سلطة أوسلو، للعشاء التقليديّ الذي ينظّمه البطريرك يوم 6/1، في تفاعلٍ خجولٍ مع الحَراك. كما تأكّد رفضُ محمود عبّاس للقاء البطريرك بُعيْد التعرّض لموكبه.

 

المحطّة الثالثة: المجلس المركزيّ الفلسطينيّ

من نافلة القول الإشارةُ إلى انعدام الثقة الشعبيّة بهيئات منظّمة التحرير وقراراتها. غير أنّ المؤتمر الوطنيّ في 1/10/2017 دعا المنظّمة إلى معاملة القضيّة الأرثوذوكسيّة كملفٍّ من ملفّاتها. ولذلك لزم الضغطُ السياسيّ على هيئات المنظّمة، وتعميقُ البعد الوطنيّ للقضيّة بعيدًا عن بعدها الطائفيّ. وعليه، فقد تقدّمت المؤسّسات الأرثوذوكسيّة بمذكِّرةٍ إلى اجتماع المجلس المركزيّ في 14/1، فحظيتْ بأكثر ممّا توقّعناه من اهتمامٍ جدّيّ ــ ــ عرضًا وتوزيعًا وتبنّيًا لما ورد في كلمات العديد من المندوبين.[2] [3]

طالبت المذكرة بثلاثة أمور أساسيّة: 1) إعلانُ موقفٍ صريحٍ يدعم النضالَ الوطنيّ والأرثوذوكسيّ ضدّ تسريب الأراضي وبيعها. 2) دعمُ مطالب المسيحيّين الأرثوذكس الفلسطينيّين بعزل البطريرك، ودعمُ المطلب الوطنيّ بتحرير الكنيسة. 3) توفيرُ مقوِّمات النجاح لهذا النضال.

لم يتبنَّ المجلسُ المركزيّ بوضوحٍ مطالبَ المذكّرة كافّةً، بل تطرّق إلى القضيّة من ثلاث زوايا أساسيّة وردتْ في بيانه الختاميّ، وجاءت على النحو التالي:

"يدين المجلسُ المركزيّ عمليّاتِ تسريب ممتلكات الطائفة الأرثوذوكسيّة إلى المؤسّسات والشركات الإسرائيليّة، ويدعو إلى محاسبة المسؤولين عن ذلك، ويدعم نضالَ أبناء الشعب الفلسطينيّ من الطائفة الأرثوذوكسيّة من أجل المحافظة على حقوقهم ودورهم في إدارة شؤون الكنسيّة الأرثوذوكسية والحفاظ على ممتلكاتهم."[4]

وكما يظهر، فإنّ المجلس ألمح إلى ضرورة محاسبة البطريرك، ولكنّه لم يسمِّه، وكأنّ البائع/ الخائن زنيمٌ لا تُعرف هويّتُه! كما ألمح إلى ضرورة دعم المسيحيّين في "إدارة شؤون الكنيسة،" غير أنّ ذلك لا يمكن أن يتمّ من دون تحرير الكنيسة من الاحتلال اليونانيّ! ثمّ إنّ المجلس دعم نضالَ المسيحيّين بعد أسبوعٍ فقط من التصدّي للبطريرك، وهو ما اعتُبر "تفهّمًا" ضمنيًّا لما عاناه موكبُ البطريرك من البيض والأحذية!

إذن، لم يرتقِ قرارُ المجلس الوطنيّ إلى ما طمحنا إليه كنشطاء. وهذا يتّفق إجمالًا مع فهمنا لطبيعة المؤسّسة الرسميّة وحساباتها، التي لا نتّفق معها إطلاقًا. ومع ذلك فقد اعتبرنا القرارَ بمثابة قرارٍ تاريخيّ، وذلك للاعتبارات التالية: 1) كانت تلك هي المرّةَ الأولى التي تُطرح فيها القضيّة على هذا المستوى في منظّمة التحرير، بعد أن كانت حبيسةَ المؤسّسات الأرثوذوكسيّة الصرف ذات الطابعِ الطائفيّ. 2) اصطبغت القضيّةُ بما يليق بها في وصفها قضيّةً وطنيّةً، لا قضيّةً دينيّة؛ ما يؤكّد أنّ الحركة المناهضة للبطريركيّة تحوّلتْ من حركةٍ مسيحيّةٍ أرثوذوكسيّة إلى حركةٍ شعبيّةٍ وطنيّة تمكّنتْ من طرح نفسها على جدول أعمال المؤسّسة الفلسطينيّة.

وعليه، يمكن أن يتسلّح الحَراكُ الوطنيُّ المُدافعُ عن الأوقاف الكنسيّة بموقف المجلس المركزيّ من أجل مزيدٍ من الضغط الشعبيّ على رئاسة السلطة وحكومتها كي تغادرا موقع "اللعم" (لا + نعم) المتأرجح بين البطريركيّة والموقف الوطنيّ الأرثوذوكسيّ. كما يمكن التسلّحُ بموقف المجلس المركزيّ من أجل المزيد من العمل في أوساط المؤمنين المسيحيّين باتجاه وضع "جبّة" البطريرك في موقعها الصحيح ــــ رداءً يخفي سلوكًا خيانيًّا ببيع الأراضي ــــ بما يَكفل توسيعَ الحشد الشعبيّ لتحقيق أهداف المؤتمر الوطنيّ في 1/10/2017.

فلسطين

[1] - يمكن متابعة هذا النضال من زاوية تاريخيّة في مقالة جلال برهم المنشورة في هذا الملفّ.

[2] - للإنصاف تنبغي الإشارة إلى أنّ الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين كانت الفصيلَ الوحيد الذي تضمّنتْ مذكّرتُه ومطالبُه المرفوعة إلى المجلس المركزيّ بندًا صريحًا بتبنّي مطالب الحَراك الشعبيّ الأرثوذوكسيّ. لكننا نشير أيضًا إلى دور المندوبيْن حنان عشراوي ومحمود العالول في تبنّي المذكّرة والدفاع عنها. كما نشير إلى بعض مندوبي الجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين.

[3] - ننشر هنا المذكّرة المقدّمة إلى المجلس المركزيّ:

وسام الرفيدي

باحث ومحاضر متفرغ في دائرة العلوم الاجتماعية في جامعة بيت لحم- فلسطين، عمل سابقاً كمحاضر غير متفرغ في جامعة بيرزيت لعلم الاجتماع والدراسات الثقافية. حاصل على شهادتي ماجيستير من جامعة بيرزيت، الأولى في علم الاجتماع عن رسالته، التحولات على مكانة المرأة في الرواية الفلسطينية المعاصرة، ما قبل وبعد أوسلو، والثانية في الدراسات العربية المعاصرة.

يحاضر الرفيدي منذ سنوات في مساقات عدة منها النظرية الاجتماعية، الحركات الاجتماعية، الإعلام والاتصال، السكان، والعائلة، كما يساهم حالياً مع زملائه في الدائرة تطوير مساقات إضافية في التاريخ الاجتماعي الفلسطيني وعلم اجتماع الدين. للباحث رواية منشورة (الاقانيم الثلاثة) بطبعتين في رام الله ودمشق، وكتاب صدر عن الفارابي حول المرأة والرواية الفلسطينية بين زمنين: أوسلو والمقاومة، وكتاب ثاني صدر في رام الله حول صناعة الكتاب في فلسطين قُدِم لمعرض فرانكفورت الدولي للكتاب، كما وله العديد من الدراسات المنشورة في مجلات وكتب، منها دراسات في الهوية الفلسطينية بعد أوسلو، القومية المتخيلة والعنف في النص التوراتي، والخطاب الفكري للمنظمات.

 تتعدد اهتمامات الباحث معرفياً فإضافة لحقول العلوم الاجتماعية، تحظى قضايا مثل نظرية الرواية والنص الديني والفكر السياسي باهتمام خاص من قبله.