النوبة بين فقدانِ الانتماء الثقافيّ وتسليعِه: طعمُ الأرض والنيل واللغة والبيوت
21-12-2016

 

تلالٌ صفراءُ، مثاليّةٌ بتضاريسها كبطون الحوامل. رملٌ كثيفٌ يمتدّ حول نيلٍ يُحرق العيونَ بزرقته. الصحراءُ والنيلُ ضدّان يكمّلهما النوبيُّ في هذه البقعة القاسية من الأرض. النيلُ والصحراءُ والنوبيُّ ثلاثةٌ لا يفترقون، والأخضرُ بينهم عملُ النوبي اليوميّ: صلاةُ الحاضرة يقدّمها إلى النيل.

يجيء النيلُ، وتجيء معه حكاياتُ أهل النوبة المهجّرين، العاضّين على الجرح، والعالقين بين صورتيْن متطرّفتيْن متخيّلتيْن: صورةِ عنصريّةِ "الشمال" (المَرْكز) ضدّ لونهم وعاداتهم ولهجتهم، وصورةٍ فيتيشيّةٍ من الأفلام والسياحة و"بساطة" حياة القرى.

النوبة موجودةٌ في التغريبة والفقد؛ في قرًى وبيوتٍ وألوانٍ وأناسٍ فُقدوا مع السدّ العالي، حلمِ جمال عبد الناصر؛ في نيلٍ أكلَ قُراهم؛ وصحراءَ رُموا فيها؛ ولغةٍ غيرِ معترفٍ بها، ولونٍ يَفضح انتماءهم. هنا، عند الضفّة الأخرى للنيل، شعبٌ لا نَسمعُ عنه إلّا في وصفه آخرَ "أغمقَ" لونًا من أهل الشمال، أو "زنجيًّا" طيّبًا معطاءً كريمًا ساذجًا.

 

"التهجير" أو نكسة النوبيين

أسوان، أقصى الجنوب المصريّ، أقصى الغربة عن الوطن. هنا "الأقاليم،" هوامشُ الهوامش. وفي الإسكندريّة والقاهرة يُنسى هذا الجزءُ من الوطن. قلّةٌ قليلةٌ من المصريين زارت أصلًا هذه المنطقة التي يعتبرونها بعيدةً جدًّا، ومختلفةً عنهم بإثنيّاتها وعاداتِها ولهجتِها.

في ظلّ صعود القوميّة العربيّة مع عبد الناصر، والدعمِ الشعبيِّ الهائل لمشروعه السياسيّ والاقتصاديّ القوميّ، كان اختيارُ النوبيّين صعبًا: فرفضُهم للمشروع سيُعتبر موقفًا معاديًا للقوميّة العربيّة وانسلاخًا عن الوطن؛ وقبولُهم به سيعني خسارتَهم للأرض والمسكن. وقد كان الخيارُ النوبيّ "وطنيًّا" حين ضحّوا بحقوق الجماعة النوبيّة من أجل "مصلحة الأمّة." هكذا سيطرتْ سرديّةُ السدّ العالي "كإنجازٍ سياسيّ اقتصاديّ تنمويّ" على ما ألحقه من ضررٍ طاول أكثرَ من 45 قريةً نوبيّةً، هُجّر 18000 من سكّانها، وغُمرتْ بالماء كليًّا.

بدأ أوّلُ تهجير في العام 1902 حين نُقلتْ بعضُ القرى إلى تلالٍ أعلى بجانب النيل. تبعتْ ذلك تهجيراتٌ متتاليةٌ كلّما "رُفع" السدّ. إلى أن جاء مشروعُ بناء السدّ العالي في العام 1963، فجاء قرارُ ترحيل النوبيّات والنوبيّين إلى ما وراء السدّ. ويؤكّد مَن قابلتُهم قلّةَ مظاهر الاعتراض النوبيّ على ذلك. والسبب، إضافةً إلى ما ذكرناه آنفًا، أنّ مظاهراتٍ مطلبيّةً ضدّ النظام حصلتْ في قرية "دشنا" في الصعيد قبيْل طرح مشروع التهجير، فردّ الجيشُ بقصف القرية وقتلِ عددٍ من أهلها. هكذا تهجّر النوبيّون إلى شمال أسوان، حيث بنت الدولةُ لهم مكعّباتٍ متلاصقةً عُرفتْ منذ ذلك اليوم بـ"قرى التهجير."

سنة 2014، ظهر القرار 444، الذي يَحْرم النوبيين تنفيذَ المادة 236 في الدستور، التي تضمن لهم حقّ العودة. وقد أعلن السيسي منذ مدّة عن نيّته تطبيقَه.(1) ويفتح هذا القانونُ إمكانيّة "استثمار" الشركات لأراضي النوبة، بينما يعيش أهلُ النوبة خارج قراهم!(2)

النيل والناس

"لم نعرف العيشَ بعد ابتعادنا عنه،" قالت لي بلهجتها النوبيّة سيّدةٌ ثمانينيّةٌ تجلس مع صديقاتها على الدرَج أمام باب منزلها المفتوح. نظرنَ إليّ بسعادة، وهززن رؤوسَهنّ حين عرفن أنّني أكتبُ عن التهجير. "وضعونا في المراكب مع حيواناتنا، ونقلونا إلى الصحراء. قالوا لنا بنَيْنا لكم قرًى. وصلنا فلم نجد سوى بيوتٍ سيّئة، من دون حمّاماتٍ ولا تمديدات. لم تكن صالحةً للعيش. رفض الكثيرون العيشَ فيها. انتظري. سأريكِ هذه البيوت."

في كشتمنة، قبيْل المغيب، أخذتنا أمّ لميا إلى "الحيّ الخامس." التقينا في الطريق صديقاتِ أمّ لميا وجاراتِها. "عايزة تشوفي بيوتنا؟ تعالي شوفي. هي بيوتنا دي تشبه بيوت جدودنا؟ بيوتنا في النوبة كانت واسعة ملوّنة، تدخلها الشمس. أتينا إلى هنا وصُدمنا؛ كلّها بيوت متلاصقة صغيرة، ثلاث أو أربع غرف."

تكمل النساءُ قصصَهنّ جالساتٍ عند المغيب: "كانت كلُّ حياتنا تدور حول النيل. نمرّ بجانبه ونسلّم عليه. سبوع(3) الأطفال نعمله عالنيل، نعمل أكل ونوزّعه عالناس، ونجيب ورْد ونرميه في النيل. وكمان في الصباحيّة،(4) العريس ينزل يقدّم ورْد للنيل عشان هو عايش معانا. مناخد بركة منه. منقدّم الورد لملائكة النيل." الموروثات الفرعونيّة، حيث كانت الورودُ تقدّم إلى إله النيل، تأسلمتْ لتصبح مقبولةً من الدين الجديد (الإسلام)، فكانت "ملائكةُ النيل."

في كشتمنة نتجوّل ثلاثَ نساءٍ: إحدانا تسكن هنا، والثالثة في غرب أسوان، وهي قريةٌ نشأتْ من التهجير الأوّل. تسألها الأولى: " أين تعيشون الآن؟" فتجيبها: "في غرب أسوان." فتردّ عليها الأولى: "أحسن من عندنا. عالأقلّ عالنيل."

في فيلم ليوسف شاهين، الناس والنيل (1972)، يركض عجوزٌ نوبيٌّ وراء أهل قريته ليقْنعهم بألّا يتركوا بيوتهم: "مصر عمرها 1000 سنة، والنوبة عمرها 5000 سنة. الـ5000 سنة لا يمكن أن تغرق."

التهجير وما خلقه

عند بناء السدّ، جلس الأجدادُ يرقبون النيلَ وهو يرتفع، ويروْن القرى المجاورةَ وهي تغرق وتتهجّر، فيما دولتُهم تُنفق المالَ والطاقةَ لنقل الآثار والمعابد، من دون أن تكلّفَ نفسَها عناءَ نقلهم هم. كان مصيرُ الحجر أفضلَ من مصيرهم: فقد صعدت المعابدُ إلى الجبل، بينما نُقلوا هم إلى بيوت صغيرة تبعد 350 كيلومترًا عن قراهم، لا تشبه البيوتَ النوبيّةَ الأصيلة، بألوانها وغرفِها الكثيرة والحُوشِ الذي يتوسّطها.

هكذا تحصل "التنميةُ" في مناطق الفقراء: هم يدفعون كلفتَها البيئيّةَ والاقتصاديّة والاجتماعيّة، ويجني أبناءُ المركز (الشمال، المدن، العاصمة) ثمارَها كلّها. "دي قضيّة حقوق عمرها 60 سنة،" تقول صديقتي، "وهي نقطة سودا على جبين كلّ مصري استمتع بكهربا مِن السدّ وذاكِر وبقى مهندس ودكتور، في حين أهلي دفعوا التمن من ثقافتهم وحياتهم وهويّتهم وصحّتهم ونموّهم الاقتصاديّ."

هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية شكّل نقلُ فلّاحين من مناطقهم الزراعيّة الخضراء إلى قلب الصحراء قطيعةً عن عاداتهم وتقاليدهم وموروثاتِهم الثقافيّة ونظامِهم الاقتصاديّ القائم من الأزل. فقد وجدوا أنفسَهم غارقين في رمل الصحراء، وهم الذين اعتادوا النيلَ ولم ينفصلوا عنه أبدًا.(5) "أوّل نسمة يومْ ما تولدنا كان من النيل. حنشمّ إيه دلوقتي؟" يقول أحدُ أبطال فيلم شاهين المذكور عند بناء السدّ. لقد فصل السدُّ بين النوبيّ ومائه، بين الصحراء ومَن يزرعها. اختفت القرى النوبيّةُ الحقيقيّة. طمرها النيلُ ولم ينحسرْ، فنشأتْ مكانَها أشكالٌ مختلفةٌ من "القرى النوبيّة." يبدأ أسامة حديثه وهو ينفخ سيجارة بعصبيّة: "مليون نخلة غرقتْ في ذلك التهجير... مليون!" النخل في أغاني النوبيين، وفي أكلهم وفي شرابهم. إنّه الشجر الوحيد الذي يفهم عيشَهم المرير.

"تنمية" البلد كلّه كانت، إذن، كارثةً بيئيّةً اجتماعيّةً مسّت، على الأخصّ، أكثرَ الفئات ضعفًا في المجتمع المصريّ: الفلّاحين، أهلَ الجنوب، المنتمين عرقيًّا إلى مجموعة مختلفة عن "الأكثريّة" القاهريّة. وقد كانت للتهجير نتيجةٌ ثقافيّةٌ ــــ حضريّةٌ (معماريّة) انعكستْ على شكل القرى وبيوتِها ووظيفتِها، وعلى النظرة إلى الموروث الثقافيّ النوبيّ: من بيوتٍ ونقوشٍ وصناعاتٍ يدويّة (خصوصًا ما يُعرف بالـ"خوص،" وهي سلالٌ ملوّنة مصنوعة من سعف النخيل) وأغانٍ ورقصات.

إذن، رفض عد هائل من النوبيين "عُلبَ التهجير" الإسمنتيّة، ولم يستطيعوا العيشَ في الصحراء التي تحيط بها، وآثروا التوجّهَ إلى جحيم القاهرة (ليصبحوا من فقرائها)، بل آثر بعضُهم الهجرةَ خارج مصر. المفارقة أنّ النظام الذي رماهم في الصحراء هو مَن يشكو مِن نشوء أحزمة البؤس ومدنِ الصفيح حول مدنه الكبرى. هكذا بقيتْ قرى التهجير، بشكلها البائس المتعب، يكرهها أهلها، وتذكّرهم كلَّ يوم بما كان يمكن لحياتهم أن تكون خارجها.

أمّا ما يسمّى "القرى النوبيّة" الواقعة على النيل (وأشهرُها: غرب سهيل، وغرب أسوان، وجزيرة أسوان)، فيمكن أن نرى فيها بعضًا من موروثات الشكل القديم للبيوت النوبيّة، بألوانها ورسومها. لكنّ ما يحدث داخلها (غرب سهيل مثلًا) هو شكلٌ آخر للاستغلال الاقتصاديّ الذي تواجه به الدولةُ النوبيّين. فخلال السنين الأخيرة، خُلقتْ "فيتيشيّةٌ" معيّنةٌ للنوبة وأهلِها وقراهم: أصبحتْ "بساطةُ" القرى وألوانُها وثيابُ أهلها ولونُ بشرتهم ولهجتُهم وعاداتُهم أمورًا غرائبيّة يبحث أهلُ الشمال "المنبهر" عنها. وصُوِّرَ العديدُ من الأفلام التي تشكّل تبسيطًا أبلهَ لحال النوبيين، وتنميطًا كاملًا لماهيّة الهويّة النوبيّة. وقد عملتْ شركاتٌ عديدةٌ على تسويق هذه الصورة من أجل خلق سوقٍ استهلاكيّةٍ في منطقة بعيدة جدًّا (16 ساعة في القطار) عن المركز. وقد تبلورتْ مظاهرُ الفيتيشيّة السياحيّة تلك عبر الأوتيلات "النوبيّة" و"البيت النوبيّ،" والاستعراضات الثقافيّة، وعروض محمد منير.

ففي هذا الحيّز المكانيّ، نرى فنادقَ تحاول إنتاجَ "البساطة" و"الحياة الريفيّة" و"التجربة القرويّة،" فتُبنى بالشكل والموادّ التقليديّة نفسها كي "تبدو" أقربَ إلى الحقيقة الأولى، فيما هي في واقع الأمر أقربُ إلى أن تكون "مسرحيّة ببغائيّة" للقرية الأصليّة، و"خدمةً" لهذه الـ"خدمة". أذكر أنني كنتُ أمشي في القرية مع أحد النوبيين ونحن نتكلّم عن التهجير، فإذا به يأخذني، من دون أن يسألني، إلى سوقٍ ضخمةٍ للمنتوجات النوبيّة والهدايا التذكاريّة. لقد حوّلت السياحةُ معظمَ خدمات القرية، التي كان يُفترض أن تخدمَ أهلَها في الأساس، إلى خدمة "الزوّار،" وكأنّ الهدفَ الأساسَ من نشوء هذه القرية هو تسليعُ منتوجها الثقافيّ.

والأمر ينطبق على ما يسمّى "بيوتًا نوبيّة": إنّها محضُ تقليدٍ للبيوت النوبيّة الأصليّة التي كان موجودةً في القرى الأصليّة، لكنّها فارغةٌ من سكّانها، وتُستعمل فنادقَ للزوّار. كلّ ما يُستعمل في هذه البيوت الجديدة هو لتقليد "تجربة" العيش النوبيّة الأولى: هنا كانوا يجلسون، هناك كانوا يأكلون، هنالك كانوا يتجمّعون أو ينامون. هكذا فَرّغت السياحةُ البيتَ النوبيَّ الأصليّ من أهله الأصليّين، ومن استعمالاته الأصليّة، وجعلتْ "تجربة العيش في بيت نوبيّ" سلعةً يستطيع الزوّارُ شراءها لأيّام معدودة.

ثمّ تأتي "الاحتفاليّاتُ" لتضيفَ طبقةً تزيينية على كلّ ماسبق ذكرُه من تسليعٍ واستهلاك. كنّا نمشي في ليلة تشرينيّة دافئة في قرية صغيرة، ذاتِ طرقٍ رمليّة، وأشجارِ حنّاء لم أصدّقْ أنّ لها رائحةً بهذه القوّة وهذا الجمال. كانت الـ"كزدرة" أشبهَ بقصةٍ خارجةٍ من كتابٍ عن بلادٍ خرافيّة، بجوار نيلٍ هادئ وصخورٍ هائلة وصمتٍ واسع. فهمتُ حينها لماذا تتلهّف الشركاتُ على إنشاء أوتيلاتٍ و"بيوتٍ نوبيّة" في هذه المنطقة. فجأةً سمعنا موسيقى ودفوفًا وغناءً. حين اقتربنا وجدتُ سبعة شبّان نوبيّين يعزفون ويغنّون ويرقصون لأربعة "بيضٍ" ينظرون ببلادة، ويحاولون محاولات حثيثة الرقص مع النوبيين. انتهى العرض، واختفت البسمات عن وجوه الشباب النوبيين، ومشوا.

قد يتساءل البعض: وما المشكلة في تحويل المظاهر الثقافيّة إلى استعراض (show)؟ في رأيي أنّ المظاهر الثقافيّة ليست هدفًا في ذاته، بل أداةٌ للتعبير. نحن نرقص ونغنّي حين نفرح، ونندب حين نحزن. أمّا تفريغُ تلك المظاهر من أسبابها فهو تتفيهٌ لها. عندما تتحوّل الثقافة إلى استعراضات تفقد سببَ وجودها.

بالتزامن مع تسليع الشكل المكانيّ والثقافة عامّة، نشأتْ شخصيّات وإنتاجات ثقافيّة تتماشى مع الفيتيشيّة السياحيّة. بالنسبة إلى الكثيرات والكثيرين من أهل النوبة، هكذا وُلد المغنّي محمد منير "سارقًا" الموروثَ الثقافيَّ النوبيّ، ومحوّلًا أغاني التهجير إلى أغانٍ خاليةٍ من المعنى السياسيّ. وقد نجح في أداء دور Uncle tom؛ أي الشخص الآتي من المجتمع المضطهَد ولكنّه يعمل  ــــ بأمرٍ من المستعمِر/ المضطهِد ــــ على تدجين المجتمع المضطهَد وتحويرِ صراعه. وقد اعتبر منير أنّ القضيّة النوبيّة غير موجودة، وأنّ النوبيين "مشوا" من قراهم بسبب "كرامة" السدّ. وليس مفاجئًا أن تسمعوا أغاني منير تصدح في أغلبيّة المقاهي والاوتيلات التي تحتلّ الشاطئ في القرى النوبيّة.

فلسطين والنوبة

سألتُ النوبيين والنوبيات عن النوبة: كيف يتصوّرونها، وكيف يعرّفونها، وكيف يتناقلونها جيلًا بعد جيل؟ فظهر أنّ القضيّة والقريّة النوبيتين موجودتان في القصص والأغاني النوبيّة، وباللهجة النوبيّة المحكيّة. ويَمْثل المطربان محمد منيب وحمزة علاء الدين لاعبيْن أساسيّيْن في قصّ حكايا التهجير وحقّ العودة والشوق إلى الأرض والنخيل والقرية كتشكيل معماريّ ــــ ثقافيّ ــــ اجتماعيّ.(6)

تقول الرواية إنّ اللغة النوبيّة، باللهجتين الكنزيّة والفاديجيّة، كانت لغةَ الشيفرة فى حرب أكتوبر 1973. وقد استُعمل فعلان؛ بالكنزيّة: "جُمْ" (وتعني "اضربْ")، وبالفاديجا: "أُوشِر" (وتعني "لا تضربْ"). ويوم ضَرب المصريون الإسرائيليين في تلك الحرب ضربوهم بالنوبيّة. النوبيون جزءٌ أساسٌ من التركيبة المصريّة، ومن النضال التحرّريّ ضدّ "إسرائيل." وهذا ما تعبّر عنه الأكثريّةُ النوبيّةُ بارتباطها العميق بالقضيّة الفلسطينيّة.

كالفلسطينيين في مخيّماتهم، سمّى النوبيون قرى تهجيرهم بأسماءِ قراهم المغمورةِ بالماء. ويتشابه النوبيون مع الفلسطينيين أيضًا في طريقة محاربة بعض المصريين لهم، بالزعم أنْ "لا قضيّة لهم" وأنّهم "باعوا أرضَهم،" وذلك ضمن سرديّةٍ قميئةٍ تحاول "لومَ الضحيّة،" بتعبير إدوارد سعيد، وطمسَ التاريخ، والتخلّصَ من ذنبٍ هو واقعٌ على ذلك البعض لا محالة: ذنبِ السكوت عن ظلم جماعةٍ بكاملها والتغاضي عن معاناتها، واعتبار تضحيتها من أجل حياةٍ أفضل "للآخرين" أمرًا لا بدّ منه.

وهناك مَواطنُ شبهٍ أخرى من حيث الفقدُ والتيهُ والعلاقةُ المستمرّة بالأرض، هذا من دون أن ندخل طبعًا في أيّة مقارنة، وبأيّ شكلٍ من الأشكال، بين الدولة المصريّة حينها ــــ المعاديةِ في الصميم للعدوّ الإسرائيليّ ــــ وبين هذا العدوّ.

خلافًا للفلسطينيين الذين يصفون قراهم لأولاد أولادهم، كي يحفظوها، فيعرفوا مواقعَ بيوتهم عندما يعودون، فإنّ قلّةً من النوبيين يعرفون قصصَ القرى من أهلهم. وكنتُ أسأل، في كلّ جلساتنا في أسوان، إنْ نشأ لدى أهل النوبة طقسٌ مشابهٌ لعادة أهل فلسطين بالاحتفاظ بمفاتيحِ أبواب بيوتهم معهم. وكان الجواب يأتي دائمًا بالنفي؛ ربّما لأنهم ــــ وبعكس الفلسطينيين ــــ متيقّنون من أنّهم لن يروْا قراهم تلك مجدّدًا. لكنّهم كانوا يؤكّدون لي أنّ بابًا أزرقَ، "يفتح على النيل،" مازال في قلب كلّ نوبيّة ونوبيّ.

يحكي فيلم "جريدي" للمخرج محمد هشام أنّ أهلَ النوبة، وقتَ فيضان النيل، كانوا يفكّون الأبوابَ والشبابيكَ الخشبيّة من بيوتهم، ويصعدون بها إلى الجبل. كانوا يعتبرون أنّ البيوت الطينيّة سهلةُ البناء، وأنّ الخشب صعبُ المنال. عندما حصل التهجير، باع أبناءُ النوبة أبوابَ بيوتهم وشبابيكَها.

في هذا التيه العظيم يعيش النوبيّون والنوبيّات. يعملون بصمت، يتمنّوْن، يصلّون كثيرًا ربّما، يتظاهرون أحيانًا، رافعين شعاراتِ حقّهم في العودة، في ظلّ خوفٍ دائمٍ من استعمال "بطاقة الإثنيّة" ضدّهم، ومِن اتّهامهم بأنّهم يعملون لصالح بلدانٍ أخرى. والسؤال يبقى أمامنا، كعرب: كيف نرضى، نحن مَن يَعرف معنى التهجير والظلم والاحتلال، أن نرتكب في حقّ غيرنا ما اقترفه الظالمون بنا؟

بيروت

1- http://www.elyomnew.com/articles/47529

2- بدأت التحرّكاتُ في 5 نوفمبر 2016 بمظاهرةٍ رافضةٍ للقرار 444. ثمّ تحوّلت إلى "قافلة العودة النوبيّة" التي نزلتْ في 18 و19 تشرين الثاني، واعترضتها الشرطة المصريّة بعد كيلومترات قليلة جنوب مدينة أسوان. استمرّت المظاهرات عدّة أيّام، لكنّها انتهت بعد وعد الحكومة بتفضيل النوبيين في عمليّات البيع.

3-احتفال عائليّ تقليديّ عند بلوغ الطفل أسبوعَه الأوّل.

4- الصباح الأوّل بعد ليلة الزواج.

5- "فتمّ بناء القرى البديلة في مناطق صحراويّة. والبيوت نفسها بنيتْ بالأسمنت، يعني تمّ بناء مقابر جماعيّة. وبالفعل، خلال السنة الأولى من التهجير، مات عدد كبير من كبار السنّ، بالإضافة إلى وفاة كلّ الأطفال الحديثي الولادة. يعني بضربة واحدة تمّ القضاء على جيل يحمل الذاكرة وجيل يحمل الأمل. أمّا عن التعويضات المزعومة فأحبّ أعرّفكم أنْ تمّ تقدير النخلة بحوالي 180 صاغ، والبيت بحوالي 50 جنيه، وفدّان الأرض ماحصّلشي 150ج، والساقية أو البير اتقدّر الواحد فيهم بحوالي 20ج بحالهم، والأرقام دي مش بس تضحك دلوقتي... إنّما زمان كانت أقلّ من القيمة الحقيقيّة للمفقودات بكتير. مش كده وبس... كمان ماتمّش صرفها كلها."

  http://www.elyomnew.com/articles/46024

6- حمزة علاء الدين آويش: "وطوال الليل جلست أفكّر: هل يمكن للبحر أن يكون بكلّ هذه القسوة؟"؛ "أينما ذهبنا وارتحلنا فإنّنا نحملكِ داخل كياننا يا نوبة"؛ "مَن يحمل كلَّ هذا الحب في قلبه لا يمكن أن ينسى التمر المتراكم على أراضيكِ" https://www.youtube.com/watch?v=89sIzyENN6o

حمزة علاء الدين أسرمسو: "وقفتُ أراقبها [النخيل] تغرق في مكانها هذا." https://www.youtube.com/watch?v=q7ZrHAeY5p0

أحمد منيب: "مشتاقين يا ناس للبيت لنبع الحبايب، لبلاد النخيل والغيط، هيعود اللى غايب، مشتاقين يا ناس لبلاد الدهب"؛ "رحلة وعودة، نادرين لما نرجع تانى، لبلاد الجمّال ربّاني، جوّه البيت هنزرع نخلة، تطرح خير وتعمل ضلّة، والعصافير تلقط غلّة، فى الحوش الكبير والرملة، جار الساقية فى العصريّة، نحكي حكاوي، والأفراح هتملي الناحية، ويا غناوي، مشتاقين يا ناس." https://www.youtube.com/watch?v=O6bxzBTNw5E

أحمد منيب: " ترى هل سيكون فى وسعنا أن نعتبر كأنّ شيئا لم يحدث؟ يا نوبة، يا موطن الجميع وحبّهم الكبير، مكانك فى القلب. لا وألف لا، اصرف عنّا البلاء يا ربّ. ياعمرنا، أنتِ مستقرّة فى أرواحنا. ضربتْ جذورك فى أعماقنا. يا نوبتنا، يا حبّنا الكبير، يا محبوبة الجميع، يا حبّنا الكبير، يا محبوبة الجميع. سيراتنا وحكاياتنا الحلوة فى دروب القرية. إيقاعات الدفوف وأنغامها وحلقات الرقص. ترى، هل ذهب كلّ هذا إلى غير عودة؟ وقرية النوبة الجميلة التي شهدت، تبحتر حالها فى أمان وسعادة؟ ليت الدروب الخضراء إلى النهر تعود. ليت القدر يمنّ علينا برؤية تلك الأيّام. آه يا من تستقرّين فى الروح، وضربت جذورك فى أعناقها، يا نوبتنا الجميلة، يا حبّنا الكبير, يا محبوبة الجميع." https://www.youtube.com/watch?v=pjtWQVor1W4

جنى نخّال

باحثة وناشطة يساريّة من بيروت والجنوب. تعمل في مجال التنظيم المدنيّ في العشوائيّات ومخيّمات اللجوء، كما تنشط في التنظيم الطلاّبيّ في الجامعات.