الورود الحمراء
15-10-2015

نظرتُ إلى المرآة. تأمّلتُ التجاعيد في وجهي. مرّرتُ أصابعي فيها. منذ خمس سنوات وأنا أفعل هذا كلّ مساء. أردتُ أن ألحقَ بزوجي مباشرةً بعد أن تُوفّيَ ــ لم أعتقد أنّي سأستطيع العيش من دونه. إلّا أنّ الموتَ لم يحالفني.

استدرتُ مبتعدةً عن المرآة، وهممتُ بالخروج من الحمّام، لكنّي شعرتُ بالحاجة إلى أن أنظر إليها مرّةً أخرى. ما رأيته أدخلَ في نفسي الصدمةَ والرعب: لم أعد أرى انعكاسي الذي اعتدتُه ستّين سنة، بل رأيتُ هيكلًا عظميًّا ناصعَ البياض، في فمه وردةٌ حمراءُ كبيرة.

جمدتُ في مكاني أرجف. خرجتْ من فمي زعقةُ طفلٍ صغير. عاد إليّ إحساسي فاستدرتُ بسرعة. لكنّ ما كان ورائي زاد في رعبي، إذ انتصب رجلٌ متوسّطُ العمر والهيئة، لا علامة فارقة فيه خَلا أنّ عينيه كانتا جوفاويْن.

ــ من أنت؟

ابتسم الرجل ليكشف عن أسنانٍ بيضاء. وقال بصوت خافت: "ألا تعرفين بعد؟ أتيتُ لآخذك."

ــ ماذا يحدث؟ سأنادي الشرطة، سأصرخ!

ــ لا أحد يستطيع أن يساعدك الآن. أتيتُ لألبّي رغبةً تمنّيتِها خمسَ سنوات.

سكتّ لبرهة، وتساءلتُ كيف سيؤذيني رجلٌ بلا عينين.

سألته: "ألا تعتقد أنّ مهمّتك تسْهل لو كانت لديك عينان؟"

ابتسم مرّةً أخرى، هذه الابتسامة البريئة والواثقة: "لا أحتاج إليهما لكي أراكِ. لا تخافي. لن تتألّمي. كلّ شيء سيكون على ما يرام."

فكّرتُ بصمت، لكنّه حاور أفكاري كأنّه سمعها:

ــ كلّ شخص قبل أن يموت بلحظات، اذا رأى انعكاسَه، رأى شيئًا مختلفًا. البعض يرى فراشةً كبيرة، آخرون يروْن خنزيرًا برّيًّا، وهناك من لا يرى شيئًا. ما رأيتِه كان أحد هذه الانعكاسات.

لدقيقة، أحسستُها أبديّةً بوجود هذا المخلوق، عمّ السكوت.

ــ والآن... ماذا سيحدث؟

اقترب مني بخطواتٍ صغيرةٍ متأنّية حتّى أصبح وجهي قبالة وجهه. نظرتُ إلى محجرَيْ عينيْه الجوفاويْن، فشعرتُ بالدوار، وكأنّي أنظر إلى حفرةٍ لا قاعَ لها. انحنى وقبّلني على شفتَيّ، ثم تراجع بضع خطوات.

أحسستُ بشيءٍ يتحرّك في لساني. لم تمرَّ خمسُ ثوانٍ حتى خرج عِرْقٌ أخضرُ من فمي، ما لبث أن امتدَّ بطريقة عجيبة، وأطلق وردةً حمراءَ كبيرة.

أردتُ أن أنام. استلقيتُ على الأرض على جنبي. ضممتُ رِجلَيّ بيديّ. نظرتُ نظرةً أخيرةً إلى المحْجريْن الفارغيْن والابتسامةِ البريئة، ثم حلّ الظلام.

***

ظلامٌ دامس، كأنّي في أعماق المحيط. ولكنْ ما هذا النورُ الخافت البعيد؟ أردتُ أن أقترب منه. شيءٌ ما يدفعني إليه. كبر النورُ وازدادت سرعتُه نحوي. وفي لحظة تغيّر كلُّ شيء.

ما هذه الأيدي البيضاء الكبيرة التي تحملني؟ ما هذه الوجوه المقنّعة التي تنظر اليّ؟ أهذا صراخي أنا؟ أهذا بكائي أنا؟ أردتُ أن أتكلّم، لكنّ ما خرج منّي كان صراخ طفل صغير.

حملتني الأيدي إلى امرأةٍ، ضمّتني إلى صدرها. فجأةً أحسستُ بالأمان. بدأتُ أنسى ما كنت. بدأتُ أنسى امرأة الستّين سنة... أمْ هل كانت خمسين؟ تلاشى فكري. تلاشت ذكرياتي. لم أعد أستطيع أن أصوغ جملة. بدأ كلّ شيء من جديد.

***

أنا صبيّ صغير.

عمري خمسُ سنوات. أحبّ الورود الحمراء كثيرًا.

 

كندا

انس الصلاح

فلسطينيّ الأب ولبناني الأم، ترعرع في بيروت في عائلة على حافّة البورجوازيّة. يحب قراءة كل شيء بما فيه لوائح الطعام ومكونات معاجين الأسنان. يكتب عندما تشاء الأقدار.