باتجاه الطريق
28-02-2016

 

على أطراف المدينة المرتمية أمام البحر، التقيا. هو يَدْرس الأدبَ صباحًا في الجامعة، ويعمل في المحجر الواقع أمام الجبل في المدينة المجاورة بعد الظهر. يحمل الحجارةَ مع العُمّال، ليُنفق على الدراسة. وهي تدرس في كليّة الفتيات صباحًا، وتنكفئ ليلًا على ماكينة الحياكة التي لم تعد أمُّها قادرةً على مواصلة الانحناء عليها.

تحت السماء الرماديّة تعاهدا على أن يواصلا البحثَ عن ثقبِ إبرةٍ من الضياء. سارا في اتّجاه البحر، وظلاّهُما ينكسران تحت شمس الظهيرة. سألته:

ـــ كيف حال الدراسة؟ الأدب وتغيير العالم؟

ـــ لا شيء. أنا أدرس الكذب. يقولون لنا إنّ الأدب قادرٌ على تغيير العالم.

تنهّدتْ. رنت إلى البعيد. شبك يدَها في كفّهِ وهما يقتربان من الشاطئ. نظر إليها. كان وجهها شاحبًا. سألها:

ـــ ما أخبار أسْرتك؟ هل مازالت والدتك مريضة؟

توقّفتْ، فأوقف سيره. أزاحت خصلةً نافرةً عن جبينها.

ـــ نعم. صحّتُها تتدهور. لم أعد أذهب إلى الجامعة تقريبًا لأبقى بقربها.

هزّ رأسه. وسحبها من يدها برفق، فالتقى ظلاَّهما النحيلان تحت خطواتهما. اختلس نظرةً إلى ثوبها الطويل؛ عليه أثرُ خياطةٍ مكانَ تمزُّقٍ بادٍ. مرَّ بائعُ الشاي أمامهما، فناداه. أخذا يشربان الشاي اللاذع. معدته خاليةٌ، وهي لم تُفطر. يبتسمان. اتّفقا على الموعد القادم. وضعا الكوبين على الرِّمال، ونهضا. أخذت تنفض الرمالَ عن ثوبها، وهو يمسح عرقه. في الشارع ودّعها، وهي تجاهد لتشقّ طريقها بين الأجساد المتلاصقة في سيّارة الأجرة الجماعيّة لتجلس في آخر العربة.

في المكان القصيّ عند الجبل فتح كتابه يقرأ بعيدًا عن عينيْ ملاحظ العُمّال. غرق في النظريّات والتحليلات، حتّى مال عليه ظلٌّ ثقيل. رفع عينيه، فرأى الملاحظ محتقنَ الوجه. نهض ببطء مغلقًا كتابه. بادره الرجل الغاضب:

ـــ هنا مكانُ عمل للرجال، لا مكتبة عامَّة. إمّا أن تعمل أو لا ترينا وجهَك.

وضع الكتابَ على الحجر الضخم بجواره ونهض. أكمل الرجل بالحدّة نفسها، وهو يشير بالعصا في يده إلى سفح جبلٍ بعيد:

ـــ نحتاج إلى ثلاثين نقلةً من الحجر الأبيض من هناك. ستجد "الأَجوِلة" بجانب سيّارة النقل، أمامك ستّ ساعات.

هزَّ رأسه في بطء. سار باتّجاه الجبل. خطوات وصاح الملاحظُ المتهكّم:

ـــ نسيتَ هذا!

التفت إليه فوجده يشير إلى المعول.

***

الشمس قصديرٌ منصهر تشوي الأجساد. مرَّت نصف ساعة ولم تأتِ وفق الموعد. مسح بمنديله وجهه الغارقَ في العرق. مرَّت نسمةٌ فمنحت روحه بعض الحياة. سار إلى الشارع، وأشار إلى سيّارة نقلٍ جماعيّ اكتظّت بالركَّاب. حشر نفسه بينهم. نصفُ جسده في الهواء، في سيارةٍ منطلقة. 

***

في قاعة الدرس أخذ الأستاذ يتحرّك بزهوٍ وسط الطلّاب، وهو يكرّر ما قاله عن الأدب والعالم والتأثير والتأثُّر. الطلاب بين نائمٍ وعابث، ومن يتلهَّى بالنظر خارج قاعة الدرس أو يغمز لزميلته. توقّف الأستاذ المتأنَّقُ عن الشرح، وقال: "هل من استفسار أو إضافة؟" رفع يدَه المربوطة بشاش طبّيّ. ابتسم الأستاذ، وأشار إليه من أطراف أصابعه. نهض باديًا عليه الإرهاق.

ـــ تفضّل.

ـــ لماذا تعلّموننا الكذب؟

جفل الأستاذ. همهم الطلّاب وقد استدارت أعينهم جميعًا إليه.

ـــ ماذا تقصد يا بنيّ؟

ـــ قلتم إنّ الأدب يغيِّر العالم. لكنّ القوّة تحكم العالم وتحرّك كلّ ما فيه، حتّى الأدب. اذكرْ لي نصًّا أدبيًّا حرّر البشريّة من الفقر!

ارتبكتْ نظراتُ المحاضر، ولم تستطع الثبات على عينَي الشاب الغاضب.

ـــ يا ابني، الأدب والمجتمع كالأواني المستطرقة يغيّر ويتأثّر. والتفاعل ينبع من...

صاح مقاطعًا:

ـــ كذب. كلّها نظريّات، والعالم يئنّ خارج هـذه السطـور المنمّقـة.

ساد الهرج. الطلّاب ينظرون إلى زميلهم في حماس مؤازرين. أخذ الأستاذ يخبط بالقلم على المنصّة أمامه، ويشير إليهم بكفّه طالبًا الهدوء. عاد ينظر إلى الفتى المتحفّز وعينيه الغاضبتين.

ـــ سنخصّص حصّةً كاملةً لمناقشة رأيك، وسنتشارك جميعًا في طرح الآراء.

ظلّ الفتى على جموده. ابتسم الأستاذ وسأله بمودّة:

ـــ أراك تربط يدك. ما السبب؟

صمت طويلًا. قال:

ـــ كنت أكتب قصيدةً في الجبل.

***

البحر يُفلت من ملاحقة الأشعّة، والرمالُ تنتظر. في ركن قصيٍّ  في المدينة لاحت البنتُ تحثّ الخطى. عيناها جنازتان. نهض عن المقعد الحجريّ وسار نحوها بقلق. التقت كفّاهما. نظرتْ إلى يده المضمّدة. توقّف طويلًا أمام عينيها المرهقتين. سارا تحت الشمس.

ـــ لم تأتِ إلى موعدنا منذ خمسة أيام؟

ـــ أمّي ماتت.

توقّف عن السير. عيناها جامدتان كأنّما استنزفتا كلّ إمكانيّةٍ للبكاء. تنهَّد. فكّر في ضمّها أمام السائرين. تراجع. ربّت على كتفها. واصلا السير. كان عاجزًا حتّى عن مواساتها.

المدينة تواصل مواتها: بين بشرها اللاهثين على الطرقات بحثًا عن القوت، والمتناثرين على الأطراف في المحاجر، والممدّدين على الأسرَّة في البيوت الفقيرة. والبحر لا يمنح المدينة، من بهائه، سوى الزَبَد.

تذكّرتْ عملًا مؤجّلًا لزبائن ينتظرون ملابسهم، تركتْها أمُّها في منتصف الأزرار والأقمشة ورحلتْ. لم يخبرها بأنّه فُصِل من الجامعة "موقّتًا" لـ "تطاوله" على الأساتذة ومناقشتهم بأسلوب "غير لائق،" على ما ذكر التقرير. سيذهب إلى المحجر ريثما يعيدونه إلى الكليَّة.

قالت بابتسامة منطفئة:

ـــ إلى أين سنذهب؟

ـــ إلى البحر.

ـــ من أيّ طريق؟

ـــ عن طريق المقبرة.

دبيّ

حمزة قنّاوي

شاعر وكاتب مصريّ. محاضر بجامعة الجزيرة، كليّة الإعلام، دبي. من أعماله: الأسئلة العطشى (2001)، وأكذوبة السعادة المغادرة (2003)، وأغنيات الخريف الأخيرة (2004)، وبحّار النبوءة الزرقاء (2006)، وقصائد لها (2007).وفي الرواية/سيرة ذاتيّة: المثقفون (2009)، من أوراق شاب مصري (2012).