باريس ليست بيروت: عندما يصبح الإرهابُ عدوًّا داخليًّا
27-11-2015

 

"لقد برز جيلٌ جديدٌ... يقول ما مفادُه: أنتم تصنعون منّا وحوشًا؛ إنسانيّتُكم تدّعي أنّنا وباقي البشريّةِ سواءٌ، لكنّ أساليبَكم العنصريّة تضع كلًّا منّا على حِدة" (جان بول سارتر، ١٩٦٣، في تقديمه لكتاب فرانز فانون، معذّبو الأرض)(1)

 

لم تعد بيروتُ باريسَ الشرقِ الأوسط منذ عقود؛ والحقّ أنّها لم تكن يومًا كذلك. ولن تصبح باريسُ بيروتَ الغربِ،مهما حاول البعضُ أن يجعل مِن تزامنِ الاعتداءات الأخيرة على المدينتيْن دليلًا على ذلك. لكنّ لهذا التزامن، ولردودِ الفعل عليه، دلالاتٍ على التحوّلات التي تطرأ على تصوّر الذات وتصوّر الآخر، أمقترِفًا للإرهاب أمْ ضحيّةً له، في الوعي الجمعيّ المهيمِن للمجتمعات في العراق والشام.(2)

 

أنسنة الذات عبر التماهي مع الآخر

في الظاهر، تتّخذ دعوةُ بعض الناشطين في العالم العربيّ والغربيّ إلى مماهاة بيروت (أو بغداد) بباريس طابعًا إنسانويًّا مناهضًا لعنصريّة المجتمعات الغربيّة، ولإجراميّة الفكر الداعشيّ، في آنٍ واحد. فهؤلاء الدعاة يعترضون على المعايير المزدوجة في التغطية الإعلاميّة الغربيّة للحدثيْن الإجراميّيْن، كما في "التعاطف الدوليّ" (المتفاوِت) مع ضحايا الحدثيْن. وهم يَرفضون، عن حقّ، اختزالَ برج البراجنة، حيث وقع الانفجاران في ضاحية بيروت، بـ "معقلٍ" لحزب الله.

لكنّهم في هذا كلّه يستوردون الخطابَ الغربيَّ عن الإرهاب، ويخاطبون المجتمعَ الغربيّ (أي المجتمعَ "الدوليَّ" المزعوم) لا مجتمعاتِهم المحلّيّةَ (اللبنانيّة أو العربيّة). بل هم يروْن ذواتِهم من خلال الآخر الغربيّ، ويبحثون عن أنسنةِ أنفسِهم من خلاله أيضًا. وعلاوةً على ذلك، فإنّهم يَنْفون البعدَ السياسيَّ لـ "تفجيرَيْ بيروت" عندما يَمْحون الفارقَ بين برج البراجنة، في ضاحيةِ بيروت المستهدَفة، ورأس بيروت أو وسطِ بيروت مثلًا اللتيْن أمِنتا من التفجير.

إنّ إبرازَ أوجه التماثل، لا الاختلاف، بين تفجيريْ بيروت وباريس يُحيل الإرهابَ إلى عدوٍّ مشترك، فتصبح المعركةُ ضدّه معركةً مشتركةً. لكنها ليست كذلك. فباريس ضحيّة الإرهاب فعلًا، لكنّ بيروت (أو بغداد أو حلب أو صنعاء) ضحيّة الإرهاب والحرب على الإرهاب

كما أنّ اعتبارَ بعضهم أنّ الإرهاب "الذي أنتجه الغربُ عاد ليرتدّ على هذا الغرب" يَطمس الفارقَ الهائلَ بين حجم هذا الارتداد في بلدٍ كفرنسا، مقارنةً ببلدٍ كلبنان (أو العراق أو سوريا). فتزامُنُ الحدثيْن، وتشابُهُ المأساتيْن، وتطابُقُ الجهتيْن المنفِّذتيْن ــــ هذه كلُّها لا تعني وحدةَ الحال وترابطَ المصير. يسري ذلك على كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في المكانيْن: من تفاوتِ الدعم الصحّيّ والمادّيّ الذي يلقاه ضحايا التفجيريْن وأهلُهم في بيروت مقارنةً مع ما يلقاه نظراؤهم في باريس؛ إلى الفترة الزمنيّة التي تستغرقُها عودةُ الحياة إلى طبيعتها في كلٍّ من المدينتيْن على حدة؛ فإلى الخطوات الأمنيّة والعسكريّة التي تتّخذها كلٌّ من الحكومتيْن؛ وانتهاءً بمستقبل البلديْن المعيشيّ والأمنيّ على المدى البعيد. وإنّ مآلاتِ هجماتِ ١١ أيلول عبرةٌ لمن لا تخونه الذاكرة؛ تكفي المقارنةُ بين حال الولايات المتحدة بعد أكثر من عشر سنوات من هجمات نيويورك وواشنطن، وحالِ البلدان التي اعتبرتْها واشنطن ــــ زورًا وبهتانًا ــــ مسؤولةً عن هذه الهجمات كأفغانستان والعراق.

إنّ إبرازَ أوجه التماثل، لا الاختلاف، بين تفجيريْ بيروت وباريس يُحيل الإرهابَ إلى عدوٍّ مشترك، فتصبح المعركةُ ضدّه معركةً مشتركةً. لكنها ليست كذلك. فباريس ضحيّة الإرهاب فعلًا، لكنّ بيروت (أو بغداد أو حلب أو صنعاء) ضحيّة الإرهاب والحرب على الإرهاب (أيْ إرهابِ الدول) في آنٍ واحد. وفي إطارٍ سيكولوجيّ، فإنّ الحربَ على الإرهاب من منظورِ باريس هي حربٌ على الآخر (عدوّ خارجيّ)، بينما الحربُ على الإرهاب من منظورِ بيروت (ومدنٍ أخرى) حربٌ على الذات (عدوّ داخليّ).

 

أبلسةُ الذات عبر أخْرَنتها (تحويلِها الى آخر)

لطالما انحصر الإرهابُ في الوعي الجمعيّ المهيمن عند المجتمعات الغربيّة بأعداءِ هذه الدول الخارجيّين؛ ومع مرور الزمن، تعدّدتْ هويّاتُ هؤلاء الأعداء، لكنّ المعيارَ بقي واحدًا: الإرهاب هو الآخر. عندما لا يكون هناك لبْسٌ في هويّة هذا الآخر، كما هي الحالُ في هجمات ١١ أيلول، يتعزّز هذا المعيارُ. أمّا عندما يتبيّن أنّ الجاني هو مِن داخل هذه المجتمعات، أيْ من مواطنيها، وهي ظاهرةٌ في ازدياد، فإنّه يتمّ تحويلُه إلى "آخر،" وذلك عبر وسيلتين:

ــــ الأولى هي تجريدُ الفعل العنفيّ من صفته الإرهابيّة إذا كان المقترِفُ من العِرقِ الأبيض وغيرَ مسلم، فيصبح ذلك الفعلُ العنفيُّ "جريمة" ولو نكراءَ مهما عظمتْ. وهذا ما حدث في النروج عام ٢٠١١، ويحدث باستمرار في الولايات المتحدة.

ــــ الثانية هي تجريدُ مقترِف الفعل العنفيّ من انتمائه إلى المجتمع إذا كان هذا المقترفُ من أصولٍ غيرِ أوروبيّة، وبالذات مسلمًا أو عربيًّا، وذلك بغضّ النظر عن مكانِ ولادته أو ثبوتِ مواطنيّته أو فترةِ إقامته.

والآخر هذا هو نفسُه في "الغرب،" أكان في أميركا الشمالية أمْ أوروبا أمْ أوستراليا. ليست حدودُ الآخر الإرهابيّ في المجتمعات الغربيّة، إذنْ، مرسومةً بالقانون أو الجغرافيا. فبرغم كلّ التحوّلات الثقافيّة والديموغرافيّة والاقتصاديّة التي شهدتْها هذه المجتمعاتُ، فإنّ هذه الحدود ما زالت رهينةَ وعيٍ عنصريٍّ لازَمَ تاريخَ أوروبا الاستعماريّ، لكنّه تحوَّلَ من وعيٍ تتمّ المجاهرةُ به إلى لاوعيٍ يطفو على السطح على وقع كلِّ اعتداء.

حافظَ هذا المفهومُ السيكولوجيُّ للإرهاب على ماهيّته (الإرهاب هو دومًا إرهاب الآخر) إلى حدٍّ كبيرٍ في الوعي الجمعيّ المهيمِن في الغرب قبل الاستعمار وبعده، وقبل ١١ أيلول وبعده، وقبل هجماتِ باريس وبعدها. في المقابل، شهد الوعيُ الجمعيُّ المهيمِنُ في معظم المجتمعات العربيّة تصدّعًا ملحوظًا منذ غزو العراق سنة ٢٠٠٣. قبل هذا التاريخ لم يكن الإرهابُ يقتصر على "الآخر" في هذا الوعي؛ بل كانت التفجيراتُ في مصر أو نيويورك مثلًا تصنَّف ــــ أقلّه من قِبل السلطة وبعضِ شرائح المجتمع ــــ بـ "الإرهابيّة" رغم اقترافها من قِبل مواطني هذه المجتمعات. لكنّ المكوّن "الذاتيّ" لهذا الإرهاب ظلّ هامشيًّا. وفي حالاتٍ كهجمات أيلول، كان الإرهابُ يوضَع في سياق ردّ الفعل على السياسات الأمريكيّة.

منذ الاحتلال الأميركيّ للعراق، تحوّل الكمُّ الأكبرُ من العنف الممنهج ضدّ المدنيين على يد الجماعات المتطرّفة إلى الداخل العربيّ، ليبلغَ ذروتَه على وقع الثورات المضادّة العربيّة، وليتجسّدَ أخيرًا في داعش وأخواتِها وممارساتِ الأنظمة القمعيّة. لقد أصبح الإرهابُ عدوًّا داخليًّا غيرَ هامشيّ. نعم، حاول البعضُ تحويلَه إلى آخرَ، إمّا عبر نفي صفة "الإسلام" عنه أو عبر القولِ إنّه صنيعةُ الغربِ أو الأنظمةِ المحلّيّة، لكنّ ذلك كلّه تمّ ويتمّ في سياقِ اقتتالٍ أهليّ، أيْ من أجل تحويلِ جزءٍ من الذات (الطرف الداخليّ الآخر) إلى آخرَ "أجنبيٍّ" حتى يُبرَّرَ قتلُه، لا من أجل "حماية النسيج الاجتماعيّ" للشعوب في سبيل تخطّي هذا العنف كما هي الحالُ في "الغرب." هكذا، يأتي الردُّ على قتل الأبرياء في ضاحية بيروت الجنوبيّة، بذريعة"استهداف حزب الله،" بقتل المزيد في حلب أو الرقّة، بذريعة "ملاحقة التكفيريين" ولو عبر طائراتِ عشرات البلدان العربيّة والأجنبيّة. لعل جزءًا أساسيًّا من "الآخر" في سوريا والعراق أجنبيٌّ فعلًا، لكنّ إثارته كـ "آخر" كان ويبقى في الغالب وسيلةً لنفي العنصر المحلّيّ المعارِض، في لعبة الموت المتبادل بين أطراف الصراع المحلّيّة.

 

تدميرُالذات عند العجز عن تدمير الآخر

لقد وعى المفكّر والمناضل فرانز فانون أثناء حرب التحرير في الجزائر في منتصف القرن الماضي أهمّيّة "عقلنة" العنف المنبثق من الشعوب المستعمَرة (أيْ فهمِه بشكلٍ عقلانيّ)، ووضعِه في سياقٍ تاريخيٍّ وسياسيٍّ، بغضّ النظر عن إجراميّته المفرطة، بل بسببها أيضًا. وهو ما يشير إليه سارتر عندما يقول: "إقرأ فانون: سوف تُدرك كيف أنّه، في مرحلة العجز [لدى المضطهَدين]، يكون دافعُهم الجنونيُّ للقتل تعبيرًا عن لاوعيهم الجمعيّ. عندما يَفشل هذا الحنقُ المقموعُ في إيجاد متنفَّسٍ، يتحوّل إلى فراغٍ يُدمِّر المضطهَدين أنفسَهم. حتى إنّهم من أجل تحريرِ أنفسهم، يرتكبون المذابحَ بعضهم ضدّ بعض."(3)

إنّ البحثَ في تجذّر العنف داخل المجتمعات العربيّة من هذا المنطلق هو بحثٌ في فهم التحوّلات التي طرأتْ على العلاقة المتجدّدة بين الخارج المستعمِر والداخلِ المستعمَر

هناك اختلافٌ كبيرٌ بين الواقع الذي كان قائمًا أيّامَ فانون، وواقعِ يومِنا هذا، بما في ذلك طبيعةُ الاستعمار وأدواتِه المحلّيّة وأهدافِ الجماعات الممارِسة للعنف وإيديولوجيّاتِها. لكنّ فهمَ فانون لماهيّة تحوُّلِ العنف، من علاقةٍ خارجيّةٍ بين المستعمِر والمستعمَر إلى علاقةٍ داخليّةٍ بين المستعمَرين أنفسِهم في ظلّ عجزِهم، قد يَصْلحُ للبدء في فهم ما آلت إليه الأمورُ في عددٍ من البلدان العربيّة، وعلى رأسها سوريا؛ وذلك بعيدًا عن رمي كلّ اللوم على الخارج أو تبرئته بالكامل. إنّ البحثَ في تجذّر العنف داخل المجتمعات العربيّة من هذا المنطلق هو بحثٌ في فهم التحوّلات التي طرأتْ على العلاقة المتجدّدة بين الخارج المستعمِر والداخلِ المستعمَر، وهي علاقةٌ باتت ربّما أكثرَ تشعّبًا وتعقيدًا منذ غزو العراق مقارنةً بما كانت عليه أيّامَ فانون (استعمار مباشر) أو في فترة التحرّر التي تلتها (استقلال ظاهر).

في ضوءِ ما تقدّم، لعلّه كان الأجدى أن تتماهى بيروتُ وبغدادُ وباقي المدن والقرى السوريّةُ والعراقيّةُ المستهدَفةُ بعضُها مع بعض قبل (وليس بالضرورة عِوضًا من) أن تتماهى أيٌّ منها مع باريس. فالموت واحدٌ في كلّ هذه المدن، وقتلُ الأبرياء فيها جميعِها مدان، لكنّ حظوظَ النجاة وشروطَ النهوض مختلفة.

هيوستن


(1) Frantz Fanon, The Wretched of the Earth (New York: Grove Press, 1963), 8.

(2) ليست "الذات" و"الآخر" و"الإرهاب" مفاهيمَ مستقرّةً أو كياناتٍ مستقلّةً موجودةً في الواقع الاجتماعيّ، بل هي متخيّلة وفاعلة فيه في آنٍ واحد.

(3) Ibid., 18. Translated from English by this author

هشام صفيّ الدين

أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة بريتش كولومبيا، كندا. صدر له كتاب دولة المصارف: تاريخ لبنان الماليّ بالإنكليزيّة عن دار ستانفورد (2019) وبالعربيّة عن مركز دراسات الوحدة العربيّة (2021، ترجمة فيكتور سحاب). وحرّر وقدّم لكتاب الماركسيّة العربيّة والتحرّر الوطني: مختارات من كتابات مهدي عامل، ترجمة انجيلا جيورداني (بريل، 2020)، ونفير سورية (مع يانس هانسن، دار جامعة كاليفورنيا، 2019).