بذراعيْن مفتوحتيْن
28-02-2016

 

مع كلِّ يومٍ ينقضي أتعلّم، وأُجيد بعضَ المهارات. لكنّني أخسرُ أيضًا: أخسر مَلَكاتٍ أجمل، وأفقدُ أشياءَ أهمَّ كنتُ قد امتلكتُها صغيرًا. كنتُ أُتقن اللَّعب، والآن يلقّنوني العمل؛ كنت أفتحُ الفضاء، واليوم أبني الأسوار.

 

***

كنت أكثرَ نُضجًا، وأعمقَ وعيًا. كنتُ أعرفُ أكثر. تعلّمتُ المشيَ على الحائط، ومراقبةَ الغيوم، والقبضَ على الضوء. وفي كلِّ يومٍ كنت أشعر بالخوف من الموت ضحكًا. جمعتُ العشب من دون غاية، ورغبتُ في القفزِ ما دمت مستيقظًا. عرفتُ حبسَ الأنفاس وأنا مختبئ، فيما الجميعُ يبحث عنّي. اختبرتُ الفطرةَ الذهبيّةَ التي دفعتني إلى اختيارِ تَسلّقِ أعلى الأشجار، وتلويثِ الثياب الجديدةِ بأسرعِ وقت. اختبرتُ الخيال، ودهشةَ الاكتشافِ التي ننسى عندها أن نتنفس. اختراعَ الأسرار. العيون المغمضة عند تعقيمِ جراحِ الركبتَين. الابتسامةَ المفاجئة التي تغيّرُ مسارَ دمعةٍ منهمرة.

***

وأنا طفل، عشقتُ عاداتي السيّئة؛ فحين لامني أبي على كثرة كلامي شعرتُ بالإطراء. أتقنتُ العديدَ من فنون تلك الأيّام: كفنِّ الهروب من الحمّام والركضِ عاريًا، وفنِّ الغناء بلغةٍ مرتجلةٍ غيرِ موجودةٍ ومن دون اكتراث لردّة فعلِ الآخرين. وفنِّ مواجهةِ أعتى الصراعات النفسيّة: الاختيار بين كرة القدم وركوب الدرّاجة الهوائيّة.

وكان لديّ من الشجاعةِ ما يكفي للتفكير مطوّلًا في طريقةٍ للعب الكرة وأنا على درّاجتي الزرقاء. لقد برعتُ في قيادتها بيدين مرفوعتيْن متحرّرتيْن. ما كان أشدّ حبّي لها! وما كان أشدَّ احترافي في تشويه قَصّة شَعري بمقصِّ الخياطة. وما كان أقوى عنادي، إلى درجةِ الجري وراءَ أحدهم حتى الموت.

تلك المرحلة جعلتني مثقّفًا جدًّا؛ لم أكنْ أُصدّقُ شيئًا، حتّى إنّني سخرتُ ممّن ادّعى أنّه يعرف كيف يكبرُ الأطفال.

وكذلك صرتُ مفكّرًا كبيرًا. والدليل هو أنّني لم أتوقف يومًا عن التفكير في سؤال: "من أين تأتي الرياح!؟"

لكنّ أكثرَ ما أحببته هو أنني أديب عظيم. ولن أنسى أبدًا قصصَ الرّعب الجميلة التي اختلقتُها لتخويف الأصدقاء الجبناء.

في طفولتي، حَكَمَ علاقاتي الاجتماعيّة التسامحُ والمحبّة. لم تكن هنالك مشكلةٌ في أن أتصالحَ مع ابن الجيران إثرَ عراكٍ عنيفٍ سببُه: هل هذه المخالفةُ ضربةُ جزاءٍ أم لا؟

في المدرسةِ كنتُ أفرحُ  كلّما حِزتُ العلامة الكاملة والعقوبةَ الأشدَّ، معًا. احترمتُ الآخرين، وما زلتُ حتّى الآن أُجِلّ ذاكَ الفتى الموجودَ في كلِّ صَفّ، ذاكَ الذي كُنّا نلتفُّ حولَه في زاوية الباحة حتى يحكي لنا من أين يأتي الأولادُ وكيف.

وكان يكفي أحدَهم أن يكونَ ماهرًا في الضربات الركنيّة ليصبحَ أعزّ أصدقائي، ولنؤسّس معًا عصابةً تقوم بتخريبِ شَعرِ البنات.

كانت أيّامَ نضالٍ أيضًا؛ فقد رفضتُ بحزمٍ الانتصاراتِ غير الواقعيّة التي حقّقها الكابتن ماجد. وهنا سأنتهز الفرصة لأقول لبسّام، ذاكَ البطلِ الذي وقف برجولةٍ في وجه الكابتن ماجد: "في هذا العالم ثمّةَ من كانَ إلى جانبك." نعم، وقفتُ بقوّةٍ في صفِّ المظلومين. ولو لم أكبر، لانضممتُ إلى روبن هود ورفاقهِ في الغابة.

***

هل تذكرونَ يا أصدقائي كيف كنّا؟

لنتعلّمْ من تلك الأيّام.

لنتقدّمْ قليلًا إلى الوراء،

كي نغدوَ أجمل...

وكي نقودَ حياتنا مثلَ درّاجةٍ هوائيّة،

بذراعين مفتوحتين.            

سوريا

انس ناصيف

كاتب سوري, مواليد 1989, درسَ الفلسفة في جامعة دمشق.