بعد رصاصة "السفير": الصحافة الورقيّة في مهبّ الريح
20-06-2017

 

 

جاء توقّفُ جريدة السفير اللبنانيّة (1974 ــــ 2016) عن الصدور، بقرارٍ من رئيس مجلس إدارتها ورئيس تحريرها طلال سلمان، بمثابة رصاصةٍ شظّت جسدَ الصحافة المطبوعة، الذي نادرًا ما لاقى مكترثين به في السنوات الأخيرة. الصحيفة الأكثر قراءةً في لبنان، حاليًّا، لا توزِّع أكثر من سبعة آلاف نسخة (الرقم يشمل الاشتراكات)،(1) في الوقت الذي يقتصر فيه توزيعُ الصحف الاثنتيْ عشرة التي تعمل في لبنان (مجتمعةً) على حوالي خمسين ألف نسخة يوميًّا (الرقم يشمل الاشتراكات السنويّة أيضًا).(2)

احتجبت السفير العروبيّة في ظروف سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة شائكة: آلاتُ الاستعمار لا تزال تعمل على التفتيت العربيّ، وضمورُ قضيّة فلسطين بات في الأولويّات، وحركاتُ التكفير تتقدّم المشهدَ العربيّ الحربيَّ الطابع، والفسادُ يحفر عميقًا في المؤسّسات الحكوميّة، واللهاثُ خلف "أكل العيش" يتقدّم أيَّ اهتمام، و"النُّخب" المُفترضة متخندقةٌ في خنادقَ سياسيّةٍ وإقليميّةٍ أو تعاني تورّمًا نرجسيًّا. وإذ بات معلومًا أنّ قرار إغلاق السفير حفّزتْه عواملُ شخصيّةٌ (تتعلّق بسلمان) وموضوعيّةٌ (منها تصدّرُ الإعلام الرقميّ المشهدَ الصحفيّ)، تتواتر أخبارٌ تفيد بأنّ المطبوعة الجديدة، التي قد تُطلّ قريبًا لتعبئة فراغ السفير، لا تعير أهميّةً المتغيّرات الرقميّة الطارئة.(3)

***

في رصد الاهتراء الناخر في الجسم المطبوع، يتردّد ــــ في الأحاديث المتداولة ــــ تراجعُ المال السياسيّ المدفوع إلى رئاسات الصحف المكتوبة من جهات مختلفة، في الداخل والخارج. ولكن من الواضح أنّه، منذ نهاية التسعينيّات، لم يعد المموِّلون الأبرز في المنطقة العربيّة في حاجةٍ إلى المنابر اللبنانيّة لنقل الرسائل، إذ تولّت هذا الأمرَ الفضائيّاتُ التي أسّسوها آنذاك. بيْد أنّ فتراتِ الشحّ الجزئيّة في ذلك الوقت لم تدقّ ناقوسَ الخطر، ولو لناحية إعداد خططٍ تهدف إلى جذب جمهور "مختلف" إلى الصحف الورقيّة، وإلى توسيعِ الاشتراكات، وتغييرِ العلاقة مع المعلنين كي تكون مُجديةً للطرفين.

لم تُظْهر الصحف، ولا غالبيّةُ العاملين في الوسط الصحافيّ، وتحديدًا الصحفيّون السياسيون، نقصًا في المناعة تجاه "المال الحرام" الآتي من الساسة أو ممثّلي السفارات. وفي هذا الإطار، أذْكر، خلال انتدابي إلى البرلمان اللبنانيّ من قِبل صحيفةٍ ناشئةٍ في مطلع الألفيّة الثانية، أنّ المندوب الصحفيّ إلى البرلمان (أو إلى قصر هذا الزعيم أو ذاك أو مؤتمره الصحفيّ) كان يتسلّم من المؤسّسة التي يعمل لحسابها مظاريفَ ماليّةً، وهدايا من النوّاب والمسؤولين. وكان قلائل من المندوبين يرفضونها.

لقد كانت للصحافة السياسيّة حظوةٌ، وشكّلتْ غايةً منشودةً لدى جلّ الزملاء والزميلات. وفي حين كان يُصنَّف العاملون في المطبخ الصحافيّ بـ"العتّالين" ويعانون تدنّي أجورهم، كان زملاؤهم الذين تتصدّر أسماؤهم الصفحاتِ الأولى يشاركون الساسةَ المآدبَ الفاخرة. كانت بذورُ "سمّ الورق" قابعةً في داخل المؤسّسات.

ولسمّ الورق عوارضُ، منها بُعدُ الصحفيين عن مقاصد المهنة عبر ما سُمّي "خدماتٍ صحفيّةً": كأن يقوم "صحفيٌّ" ــــ إلى جانب وظيفته في المؤسّسة ــــ بأشغالٍ "برّانيّة،" فيدبِّج لبعض الساسة خطاباتِهم البرلمانيّة، أو يقدِّم لهم مشوراتٍ إعلاميّة، أو يحرِّر لهم مقابلاتٍ موضَّبةً مسبّقًا لغرضٍ ما، وغير ذلك من الخدمات التي تقصّر الفارقَ بين السياسيّ الدافع والصحفيّ القابض. ولا مغالاة في القول إنّ رؤساءَ التحرير والمحلّلين السياسيين يُحسبون غالبًا أعضاءً في النادي السياسيّ اللبنانيّ، لا من مقارعي رؤوس الفساد!

ما تقدَّم أفقدَ ثقةَ القرّاء بمعظم الصحفيين. وهو ما يتمظهر اليوم، بحسب ملاحظة د. مهى زراقط،(4) في الحملات التي يشنّها الجمهورُ أحيانًا، عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، على المؤسّسات الإعلاميّة اللبنانيّة، وبصورةٍ تتجاوز السياسيين أحيانًا.

***

يذكرُ قارئ مخضرم أنّ صحافة لبنان قبل الحرب امتلكتْ حيّزًا من الليبراليّة جعل الصحفَ ــــ بما فيها الأكثرُ يمينيّةً ــــ تَشهد في تركيبتها فسيفساءَ انعكستْ غنًى على مضمونها. ويروي أنّ المندوبين الصحفيّين في الصحف الأبرز (النهار والسفير نموذجان) كانوا ينتمون إلى مختلف الأطياف السياسيّة والدينيّة؛ فكان لأكثر من طيفٍ رأيٌ ومقالةٌ، مهما كان خطُّ الصحيفة التحريريّ. ومع أنّ ذلك لم يلغِ حقيقةَ أنّ المكتوب كان مموَّلًا من الخارج (أنظمة عربيّة، منظّمة التحرير، الاتّحاد السوفياتيّ، الولايات المتحدة،...)، فإنّ الصحف كانت تَنقل إلى الجمهور ثقافةً سياسيّةً متنوّعةً نسبيًّا.

بيْد أنّ الفسيفساء ما لبثتْ أن تهشّمتْ، وحُفرت الخنادقُ مكانها مع تغيّر هويّة المموِّلين. وتمدّد زمنُ رفيق الحريري، الذي جذب كادراتٍ غيرَ متجانسة سياسيًّا بفضل عطاياه السخيّة، فكرّس مبدأَ الصحفيّ المتمترس إعلاميًّا والقابع حذرًا خلف راتبه الفلكيّ (أو المنتظرِ المظاريفَ). فازداد الوسطُ الصحافيّ فسادًا على فساد. وحذا كثيرون من رجال الأعمال الآتين إلى السياسة حذوَ الحريريّ الأب.

استرجاعُ الاتّهامات الموجّهة إلى الصحافة المكتوبة، بولائها للمستعمِر، ومن بعده للمال السياسيّ الذي شكّل عصبَها منذ الستينيّات، واضحٌ بحسب د. زراقط. ولكنْ يُضاف إليه الضعفُ المهنيُّ الذي أحدق بهذا الجسم طويلًا؛ إذ من بين عشرات الصحف الصادرة في بيروت، جرّاء المناخات المواتية، كانت المهنيّةُ والجدّيّةُ شبه معدومتين.

وكمثال على المُناخ "الحريريّ" الذي ساد الأثرياءَ الوافدين على السياسة، أذْكر أنّني أثناء تغطيتي انتخابات عكّار النيابيّة سنة 2005، مررتُ بقصر سياسيٍّ ثريٍّ لم يترشّح سنتذاك للانتخابات، لكنّه كان يدير اللعبةَ بنفوذه القويّ. فعاجلني مستشارُه الإعلاميّ بـ"ظَرفٍ" قدّمه إليَّ بلطف. وحين رفضتُ استلامَه، بادرني مندهشًا بأنّ محتواه "غير محرز" ويوازي مصروفَ البنزين من بيروت إلى عكّار، فأدرتُ ظهري له، ومشيت. ومن نافل القول إنّه، في ذلك النهار، عُرض على كلِّ مَن مرّ على القصر ذي المعمار البديع "بدلُ" الزيارة، وأنّ الكثيرَ أرخى رقبتَه شاكرًا.

***

مع بداية الألفيّة الثانية وسيادة الإنترنت، راحت النقاشاتُ في كليّة الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانيّة تدور عن الخدمات التي يجب أن تقدّمَها الصحيفةُ الورقيّةُ لتبقى جاذبةً لجيل الإنترنت من دون أن تتخلّى عن رصانتها. ولكنّنا لم نشهدْ ذلك على أرض الواقع، ولاسيّما على الصفحة الأولى التي لم تشذّ عن عادتها في حمل الأخبار السياسيّة (أو الاقتصاديّة) حصرًا، وقلّما تَقَدّمها خبرٌ ثقافيّ أو رياضيّ أو اكتشافٌ طبّيّ أو أيُّ شيء يشي بالنزوع نحو التغيير.

ومع نهاية الألفيّة الثانية، ركن جزء كبير من الصحفيين إلى مكاتبهم، وأمسى التلفون واسطتَهم في إعداد الموادّ اليوميّة على حساب العمل الميدانيّ. الفضول المعرفيّ بارح المهنة، وخيّم طابعُ "العلاقات العامّة" على غالبيّة الصحف، وخصوصًا في الصفحات الثقافيّة التي شابهتْ فقراتِ "المنوَّعات." وتأخّرتْ ثورةُ الإنترنت في جعل الصحف اللبنانيّة أكثرَ رشاقةً؛ صحيح أنّ كثيرًا منها بكّر في استحداث موقع إلكترونيّ لكنّه جاء "بدائيًّا،" ولم يقدّم سوى محتوى الورقيّ (المدفوع) على الشاشة (مجّانًا)؛ (بل صار الأخيرُ مدفوعًا مع التجارب الصحفيّة الحاليّة التي تحاول الاستفاقةَ من سكرات الموت).(5)

وما لبث هذا التفاعل أن كبر، فطالعتنا تجاربُ مثل "منتدى السفير" الذي حفّز على التفاعل الرقميّ. إلّا أنّ الانقسام السياسيّ الحادّ في لبنان حرفَ النقاشَ على "المنتدى،" وحشره في الزواريب الطائفيّة، فاتُّخذ القرارُ بإغلاقه!

وفي وقت غير بعيد، وفّرت الصحفُ مواقعَها في نسخٍ عدّةٍ متّصلةٍ بالموبايل والآيباد، ووسّعتْ رقعةَ التفاعل مع المتصفِّحين، قبل أن تنشئ حساباتٍ لها على مواقع التواصل.

في أدوار الصحافيّ المتغيّرة مع النشر الإلكترونيّ، أمست الإفادةُ من التكنولوجيا الجديدة لإلباس المعلومة حلّةً جديدةً هدفًا وغايةً؛ علمًا أنّنا كنّا في السابق، بحسب زراقط، "نعلِّب" المعلومةَ قبل تقديمها إلى القارئ، ولكنْ بأدوات مختلفة.

وتبقى الصحافة في عصر الداتا هي الصحافة. وأمامها اليوم فرصةٌ للقيام من كبوتها، وتلقّفِ المتغيّرات الطارئة على الفضاء الإلكترونيّ، وتوظيفِها في عملها الجادّ. وهذا ما يتطلّب تغييرَ الأدوات، مع الحفاظ على أسّ المهنة الأخلاقيّ، البعيدِ عن أيّ استسهالٍ أو استزلام. ولكنّ ما يحصل حاليًّا لا يبشِّر بالخير، ويستدعي التفكير في نماذج اقتصاديّة قادرة على الجمع بين جديّة المكتوب ومهنيّته والوسائل التقنيّة الجديدة.

بيروت

1- مصدر في شركات التوزيع لا يودّ الإفصاح عن هوّيته.

2- المصدر السابق.

3- من المتوقّع أن يغيب عن الصحيفة الجديدة، المزمعِ صدورها قريبًا برئاسة مصطفى ناصر، أيّةُ تفرّعات رقميّة، من موقع إلكترونيّ وخلافه.

4- أستاذة في كليّة الإعلام في الجامعة اللبنانيّة؛ من حوار خاصّ مع الكاتبة.

5- تجربتان مستجدّتان لصحيفتَي النهار ولوريان لوجور تسمحان لمتصفّح الانترنت بقراءة موادّ الصحيفة الورقيّة لقاءَ بدل ماليّ.

نسرين حمّود
صحفية لبنانية، مهتمة في الشأنين الاجتماعيّ والثقافيّ. نشرتْ في صحف ومطبوعات عدة، وآخرها: الأخبار اللبنانية والدوحة القطرية.