بين دمشق وبيروت
18-02-2017

 

 

1 ــــ انتبهْ، الحدود أمامك

جسدُه يتأرجحُ في الريح تحت عباءة الظلام البارد. يترنّح بعد قليل، ويحدث ما يحدث كلَّ مرّة: يميل قلبُه الصغيرُ مثلَ بندول الساعة، من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين. مشنوقٌ أسطوريٌّ قديمٌ تدلّى من بطن السماء. قدماه العاريتان تكادان أن تلامسا الأرضَ الجرداءَ الرطبة. لكنّه يُريد شيئًا واحدًا: أن يقف! حلمُه القديم أن يقفَ على أرضٍ صلبة، فوق بقعة ضوء، فيما هو يتأرجح الآن بين الأرض والسماء، بين الوادي والجبل، وبين الوطن والمنفى، على طول خطّ الحدود: هنا، بين دمشق وبيروت.

اليافطات الخضراء والحمراء والبيضاء والسوداء تشيّعكَ وتستقبلكَ مثلَ شاشة إعلاناتٍ حديديّة. تُحدّثكَ وتُحذّركَ على جانبَي الطريق، ودائمًا تعبس في وجهك، وتهمس في أذنك، وتقرع رأسك: "انتبهْ، الحدود أمامك!" "خفّف السرعة، حاجز عسكريّ!" "احذرْ، مُنزلق خطر!"

وإذا بلغتَ الحدودَ، أو الحاجزَ العسكريّ، أو المُنزلقَ الخطر، تبدأ الأسئلة: "وين إِستاذ؟ معك هويّة؟ معك رخصة؟ معك قلم؟ فلسطيني سوري؟ فلسطيني لبناني؟ معك سيجارة؟ معك ولعة؟ شو معك؟... الله معك!"

2 ــــ بين دمشق وبيروت

سيّارات وشاحنات كبيرة وصغيرة. عربات بيضاء وزرقاء، تابعة للأمم المتّحدة، ساكنة لا تتحرّك؛ بينما تحرث ناقلاتٌ عسكريّةٌ الشارعَ، وتزأر في غابة الحديد والإسمنت مثلَ دراكولات متوحّشة مخيفة: طووووووط.

وقف الأطفال الفقراء الشحّاذون، وخلفهم بائعُ القهوة الوحيد. كلّهم جاؤوا إلى هنا من أجلكَ، هذه هي الحقيقة، وأنتَ تقف في الدوْر، ولا تقف؛ يبلعك الحائطُ البشريُّ الذي أصابه الإعياءُ والخدرُ من شدّة البرد، وتلسعكَ مساميرُ الصلب في الصفّ الآدميّ الطويل.

هل قال الشرطيّ: "انتظرْ دورك، تعلّمْ أن تنتظر دورك؟"

فتاة لم تتجاوز العشرين وصلتْ للتوّ من مخيّم اليرموك. تلهث وتقول: "علِقْنا هون، بدهم صور جديدة. محلّ التصوير مسَكَّر، يا الله، شو أعمِل؟"

وعجوز لا تعرف أين وجهتها بالضبط؛ لا تعرف اسمَ البلد الذي ستهاجر إليه. لا تعرف أيّ شيء عن السويد. لا تقرأ، لا تكتب، لا تضحك، لا تصرخ ، لا تبكي.

وطفلة تحمل طفلةً أصغرَ بين ذراعيها.

ــــ أختك؟

ــــ لا.

كانت تقف مثلَ وتد ، مثلَ آلهةٍ قديمةٍ مطرودةٍ، تنظر أمامها إلى الهواء.

3 ــــ وين ارجع؟

تَجمّعَ "الشوفيرّية" من الاتّجاهين في خيمةٍ واحدة. بؤساءُ من كلّ الجهات، ومن كلّ البلاد. تعبوا من البحث عن زبونٍ مناسبٍ في آخر الليل. كانت أصواتُهم رخوةً ولزجةً، بعد نهارٍ طويلٍ يشبه الأمسَ تمامًا: كئيبًا بلا فائدة. مثلَكَ. وتتذكّرُ كلماتٍ لا تعرف أين قرأتَها: أنّ الأجساد، كالأشجار، تموت إذا غاب عنها الماءُ واشتاقت إلى الشمس؛ تتعب الاغصان، تتهدّل، تنطوي، تميل، تحزن، تبكي، تمرض، ثمّ تموت.

وكانوا عطشى في الليل؛ نصفَ موتى، نصفَ نيام. لقد يئسوا من كثرةِ ما صرخوا: "يلا عَ الشام.عَ الشام. بيروت عَ بيروت." لكنّ الطريق مغلقة. كلُّ الطرق مغلقة. ولن يفتحوا الحدودَ هذه الليلة.

ــــ والعمل؟

ــــ دبِّروا رؤوسكم.

امرأة تبكي أمام الشبّاك وتروي قصّتَها للضابط المناوب، وهي تمسح مُخاطَها ودموعَها. تقول له: "الله يخلّيك."  

يردّ عليها بجوابٍ، يتبعه سؤال: "قوانين، شو أنا بحطّا؟"

تحاول سردَ قصّتها مرّةً أخرى، علّه يفهم. ولكنْ، كلّما فعلت انتفضَ الرجلُ أكثر، وغضب أكثر، ونظر إليها بحقدٍ أكبر، وظلّ يمضغ شيئًا بين أسنانه.

ــــ لماذا يكرهها ويكره نفسَه ويكرهني؟

تحاول المرأة أن تستردّ ولو ذرّةً من كرامتها، فتقول في يأس وحزم: "والعمل؟"

ــــ ارجعي!

تتهاوى مرّةً أخرى:

ــــ وين أرجع؟

ــــ ...

ــــ وين أرجع؟

ــــ ...

تذهب وتغيب في العتمة والزحام.

4 ــــ قبل بيروت  

يقف أبو عمر أمام محّله في ساحة شتورة ينتظركَ. هذا الرجل علامة فارقة؛ ذلك لأنّه آخرُ مَن يُودّعك وأوّلُ مَن يستقبلك.

يسألك بعد قليل: "إيه، شو وصْلتِ المَيّة للشام؟" ولا ينتظر جوابك، بل يهتف بصوته الأجشّ: "إخت هيك ثورة على إخت هيك عالم... شو معك اليوم؟"

دخل عسكريّ إلى المتجر. رحّب به أبو عمر، لكنْ دونما حماسة: "يا أهلًا، وطن."

هزّ "وطن" رأسَه الكبير. كان يمجّ نصفَ سيجارة تحت شاربيْه. وفجأةً، مدّ رقبتَه مثل زرافة، وناوله رزمةً من النقود. ابتسما، وهتف أبو عمر في فرح كطفل كبير:

ــــ أحلى وطن.  

 5 ــــ بعد دمشق  

يحنّ إليها الآن، ويتذكّرها. ربّما لأنّه يراها أمامه تتّكئ على الجدار الإسمنتيّ: سمراءَ تلمع تحت ضوءٍ خافت. بندقيّة جديدة، لكنّها محايدة ومتعَبة ومهمَلة، بلا هدفٍ ولا حياة. والحدود أمامكَ. كلُّها أمامكَ. لماذا يتذكّر المعسكرَ والشبابَ والفدائيَّ الفلسطيني العجوزَ الذي تركه في المخيّم قبل عشرين سنة؟ كان يقول له:

"بلادنا هناك، هل تراها؟ حيفا ليست بعيدة كما تظنّ. مسافة ساعة واحدة. نعم، ساعة واحدة فقط."

بعد قليل يأتي أحدُ الجنود. يرفعها. ويلفّ الحزامَ الداكنَ حول رقبته، ثمّ يلوك الكلام.

بعد قليل، يحدّث زميلَه عن الأخبار الكاذبة، وعن العاصفة الثلجيّة التي لم تأتِ بعد.

بعد قليل، أغلقوا الطرق... كلَّ الطرق.

إلى متى؟ أسألكَ أيّها المشنوقُ على هذه الحدود. وللمرة الألف: إلى متى؟

إلى أن تحمل بندقيّةً مرّةً أخرى.

إلى متى؟

إلى أن تقطعَ الحدودَ والجبالَ والتلال.

لا تنسَ حيفا، وتذكّر دائمًا أنّها ليست بعيدة. إنها مسافة ساعة واحدة فقط.

إلى أن تعودَ، ويطلعَ الفجر.

بيروت

خالد بركات

كاتب عربيّ من فلسطين المحتلّة ويقيم في الخارج.