تشارلز بوكوفسكي (نصوص شعريّة)
28-02-2016

 

ترجمة: عبير الفقي

 

 

1. الأيّام الأخيرة للطفل المنتحِر

 

أستطيع أن أرى نفسي الآن،

بعد كلِّ أيّام الانتحارِ هذه ولياليه،

أُدفَعُ على مقعدٍ متحرّكٍ،

خارج أحدِ منازلِ الرعايةِ العقيمةِ تلك،

(هذا، طبعًا، فقط إذا صرتُ مشهورًا ومحظوظًا)

من قِبل ممرّضةٍ

ضجِرةٍ وأقلَّ من عاديّة.

 

هأنذا أجلس مستقيمًا على كرسيّي المتحرّك،

أعمى تقريبًا،

تدور عينايَ إلى الوراء،

في الجزءِ المظلمِ من جمجمتي،

بحثًا عن رحمة الموت.

 

“أوَليس اليومُ جميلًا يا سيّد بوكوفسكي؟”

أوه، بلى، بلى.

 

الأطفال يَعْبرونني،

وأنا لستُ حتّى موجودًا.

ونساءٌ جميلاتٌ يمررن بجانبي،

بأوراكٍ كبيرةٍ مثيرة،

وأردافٍ دافئةٍ،

وبكلّ شيءٍ آخرَ مثيرٍ وضيّقٍ.

يصلّين ليكنّ محبوباتٍ...

وأنا لستُ حتى موجودًا!

 

“إنّها أشعّةُ الشمس الأولى التي تطلّ علينا منذ ثلاثة أيام،

سيّد بوكوفسكي!”

أوه، نعم، نعم.

 

هناك أجلسُ مستقيمًا على كرسيّي المتحرّك،

نفسي أكثرُ بياضًا من هذه الورقة،

بلا دمٍ.

العقلُ ذهبَ،

المقامرةُ ذهبتْ،

وأنا ـــ بوكوفسكي ـــ

ذهبتُ!

 

"أوَليس اليومُ جميلًا، يا سيّد بوكوفسكي؟"

أوه، بلى، بلى.

متبوّلًا في منامتي،

واللعابُ يسيل من فمي.

 

يجري تلميذان صغيران في المكان ـــــــ

ـــ مهلًا، أترى هذا العجوز؟

ـــ يا إلهي، نعم، إنّه يصيبني بالغثيان!

 

بعد كلّ التهديداتِ بالانتحار،

ها شخصٌ آخرُ انتحَرَ من أجلي

أخيرًا!

تُوقف الممرضةُ الكرسيَّ المتحرّك،

تقطف وردةً من فرعٍ قريب،

تضعها في يدي.

وأنا لا أعرف حتى ما تكونُ،

تشارلز بوكوفسكي

من أفضل كتّاب أمريكا  المعروفين. ولد في ألمانيا عام 1920.  عاش في الولايات المتّحدة الأميركيّة. نشر أوّل قصة في العام 1944. توفي سنة 1994.

نشر أكثر من خمسة وأربعين كتابًا شعرًا ونثرًا، منها:  مكتب البريد (1971)، خادم (1975)، نساء (1978)، لحم  خنزير على خبز (1982) وغير ذلك الكثير. تُرجمت أعماله إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة.

لعلّها قضيبي

بسببِ كلِّ ما تسبّبه من خيرٍ!

 

 

2. لأنّ لديهم أشياءَ تقال

كانت الكناري هناك،

وشجرةُ الليمون،

والعجوزُ ذاتُ الثآليل.

وكنتُ هناك، طفلًا.

ثم لمستُ مفاتيحَ البيانو

بينما كانوا يتحدّثون،

ولكنْ ليس بصوتٍ أعلى ممّا ينبغي،

لأنّه كانت لديهم أشياءُ تقال،

هم الثلاثة.

شاهدتُهم يغطّون الكناري في الليل

بأكياسِ الدقيق

“حتى تتمكّن [الكناري] من النومِ يا عزيزي”.

عزفتُ على البيانو بهدوءٍ،

نوتةً واحدةً كلَّ مرة.

الكناري تحت أكياسها،

وكانت هناك أشجارُ فلفل،

أشجارُ فلفلٍ تلامسُ السطحَ كالمطر

وتتدلّى خارج النوافذ

مثلَ مطرٍ أخضر.

ثم تحدّثوا، ثلاثتهم،

وهم جالسون في نصف دائرةٍ ليليّةٍ دافئة،

وكانت المفاتيحُ سوداءَ وبيضاءَ،

واستجابت لأصابعي

مثلَ سحرٍ محبوسٍ لعالمٍ بالغٍ ينتظِر.

الآن رحلوا، ثلاثتهم،

وأنا عجوز.

أقدامُ  قرصانٍ داست

السطوحَ القشّيةَ النظيفةَ

لروحي،

والكناري لم تعد تغّني.

 

3. ابتسامةٌ للذكرى

 

كانت لدينا أسماكٌ ذهبيّة،

وكانت تدورُ وتدور،

داخل الوعاء،

على الطاولة،

قرب الستائرِ الثقيلة التي تغطّي صورةَ النافذة.

ووالدتي، التي تبتسم دائمًا، وتريدنا جميعًا سعداءَ،

قالت لي: “كنْ سعيدًا هنري!”

 

وكانت على حقّ:

فالأفضل أن تكون سعيدًا

إذا أمكنكَ ذلك!

غير أنّ والدي استمرّ في ضربها وضربي عدّةَ مرات في الأسبوع،

حينما يحتدم الغضبُ داخل جسدِه ذي الأقدامِ الستّ،

لأنه لم يكن يستطع فهمَ ما يهاجمُه من الداخل.

 

والدتي، تلك السمكةُ المسكينة،

التي رغبتْ أن تكون سعيدةً،

كانت تُضرب مرّتين أو ثلاثَ مرّات في الأسبوع،

ثم تقول لي:

"كن سعيدًا يا هنري، ابتسم!

لماذا لا تبتسم أبدًا؟"

ثم تبتسم هي لتريني كيف؛

وكانت تلك أتعسَ ابتسامةٍ رأيتها!

 

ذاتَ يوم،

ماتت الأسماكُ الذهبيّة،

الخمسُ جميعُها،

طافت على جنوبها فوق الماء،

وعيونُها ما تزال مفتوحة.

عندما أتى والدي إلى المنزل،

ألقى بها إلى القطّ،

هناك على أرضيّة المطبخ.

كنّا نشاهد،

فيما كانت والدتي تبتسم.

 

 

4. الكتابة

غالبًا هي الشيءُ الوحيدُ

بينكَ

وبينَ الاستحالة.

لا شرابٌ،

ولا حبُّ امرأةٍ،

ولا ثروةٌ،

يمكن أن تضارعَها!

عبير الفقي

شاعرة ومترجمة مصرية، صدر لها ثلاثة دواوين شعرية: أنا لا أكتب إليك (2013)، وروح قديمة بنافذة عرض (2014)، وكلّ شيء يحدث هناك (2016). لها عدة ترجمات ونصوص في مجلات مصرّية وعربيّة.