تونس العرجاء: حول التناقض بين الساحل والداخل
22-05-2017

 

"... ثمّة في أيّ بلدٍ جنوبٌ، ويكون هذا الجنوبُ في العادة جائعًا ومُتَورّمًا وقابلًا للانفجار في أيّ لحظة." (محمد طمليه)

مقدّمة

يتميّز المجتمع التونسيّ ــــ خلافًا للكثير من المجتمعات العربيّة، وبخاصّةٍ في المشرق العربيّ ــــ بالتجانس العرقيّ والدينيّ والمذهبيّ. وهذا من المميِّزات التي منعتِ انزلاقَ الانتفاضة التونسيّة ضدّ نظام بن عليّ إلى صراع طائفيّ أو عرقيّ كالذي يجتاح العديدَ من بلادنا العربيّة. ولقد حالَ هذا التجانسُ دون تحويل التناقض في تونس من تناقضٍ بين الشعب والنظام، إلى تناقض في صفوف الشعب نفسه. وفي المقابل، هناك تناقضات أخرى تشقّ البنية الهيكليّة للمجتمع التونسيّ؛ مصدرُها السيرورة التاريخيّة للمجموعات المكوِّنة لهذا المجتمع، والمصالحُ المتضاربة داخلها وفي ما بينها، والتنوّعُ في أنماط المعاش، والتناقضُ بين تونس الساحليّة المحظوظة وتونس الأعماق المنسيّة والمهمّشة. وهذا التناقض، الذي سنحاول إلقاء الضوء عليه، لم يحظَ بالقدر اللازم من الدراسة.

"إنّ من أوكد مهامّ المثقّفين والمؤرّخين التونسيّين هو تحرير الثقافة والتاريخ التونسيّيْن، لا من الاستعمار فحسب، بل كذلك من النظرة المدينيّة [نسبةًإلى المدينة]. لقد حان الوقتُ لإعادة الاعتبار إلى أبطال تونس الصامتين الذين صنعوا خيراتِها المادّيّة على امتداد مئات القرون."(1)

إنّ المصطلح الدارج لدى العامّة للتعبير عن التناقض بين جهات البلاد هو "الجهويّات." ويُقال إنّ فلانًا "جهويٌّ" أي إنّه شخص يميّز بين الناس بحسب انتماءاتهم المناطقيّة والجهويّة. لكنّنا سنركّز على التناقض بين تونس الساحل وتونس الداخل، لأنّه يُعدّ التناقضَ الحاسم مقارنةً بالتناقضات بين بقيّة الجهات أو داخل الجهة نفسها. ولدراسة هذه الظاهرة دراسةً علميّة، فإنّه لا غِنى عن أمرين: 1) العودة إلى تاريخ تونس الاجتماعيّ؛ ذلك أنّ مختلف تمظهرات التناقض بين الساحل والداخل، في مستوى التعبير اللغويّ أو الممارسة الاجتماعيّة اليوميّة اللاواعية، هي صدًى لأحداث تاريخيّة سابقة لزماننا هذا. 2) الاستناد إلى التحليل الطبقيّ لاستبطان هذا التناقض، ولتلمّس بداياته، وكيفيّة توظيفه من قبل الطبقات المهيمنة لدوام سيطرتها.

 

جذور التناقض بين الساحل والداخل في القرن التاسع عشر:

كان نمط الإنتاج المهيمن في تونس قُبَيل انتقال الهيمنة على البلاد من الرأسماليّة الفرنسيّة إلى الاحتلال العسكريّ المباشر سنة 1881 هو نمط الإنتاج الإقطاعيّ. ومثَّلتْ مواردُ الأرض، منذ قرون، أهمَّ موارد الدولة. وقد تركّزت الأنشطةُ الفلّاحيّة الأكثرُ إنتاجيّةً في المناطق الساحليّة في الشمال، وفي بعض واحات الجريد في الجنوب. وكان الإنتاج الفلّاحّي تنظِّمه "الخماسة،" وهو عقدُ شغلٍ يهمّ قطاعَ الحبوب، و"يمتدّ على سنة، ويَربط بين فلّاح كبير أو متوسّط أو حتّى صغير من جهة، ومُزارع فقير لا يملك سوى قوّة عمله أو يملك أرضًا صغيرة ليست له القدرة على فلحها من جهةٍ ثانية." (2) وينصّ هذا العقد على أن يتحصّل المزارعُ على ما يقارب خُمسَ المحصول الزراعيّ، كما يلتزم بسداد "التسبقة" (الدَيْن) التي قدّمها له الإقطاعيّ صاحبُ الأرض. وفي الغالب، لا يقدر المزارعُ على تسديد هذا الديْن، فيبقى سجينَ هذا العقد، ويُمسي بمثابة العبد الخاضع لاستغلال صاحب الأرض.

ينحدر أغلبُ المزارعين "الخَمَّاسة" من المناطق الرعويّة والقبليّة. ولقد كان الخمّاس، تاريخيًّا، شخصًا مذمومًا، نظرًا إلى النفور التونسيّ القديم من العمل اليدويّ. أمّا "الهطاية" فهم سكّانُ قبائل المناطق الداخليّة الذين يهاجرون موسميًّا في الصيف لحصاد القمح في الشمال الحبوبيّ. وكانوا، إلى جانب "الخمّاسة،" يمثّلون الهيكلَ الأساسَ للفقراء في الحواضر، التي تتمركز أساسًا في السواحل. وبذلك، حَكَم التراتبُ الطبقيُّ على سكّان القبائل بالعيش في أسفل السلّم الاجتماعيّ؛ وهو ما أعطى تفوّقًا اقتصاديًّا وسياسيًّا وإداريًّا للمدن على حساب الأرياف والمناطقِ الداخليّة التي تسود فيها أنماطُ إنتاجٍ ثانويّة (كالرعيِ والزراعة). ولقد مثّل أعيانُ القبائل (القيّاد) والمشايخ حلقةَ الوصل بين الدولة المركزيّة، التي تمثّل مصالحَ كبار الملاّك في الحواضر، وبين سكّان تلك الربوع الشاسعة.

وكانت السياسة الجبائيّة للدولة، والضرائبُ المفروضة على رجال القبائل، تعمِّق إحساسَهم بالغبن، فلا يجدون أمامهم غير طريق التمرّد على السلطة المركزيّة. لذا تعدّدت الثوراتُ الجبائيّة خلال القرن التاسع عشر، وبلغتْ ذروتَها مع انتفاضة 1864 المسلّحة بقيادة علي بن غذاهم. لكنْ، على الرغم من امتلاك الفلّاحين طاقةً احتجاجيّة واندفاعًا للثورة على مرّ العصور، فإنّهم ظلّوا دائمًا عاجزين عن تحويل نضالاتهم مكاسبَ، لقلّة خبرتهم وضعف مناورتهم؛ ولا أدلّ على ذلك من شعورهم بالمرارة والإحباط بعد انتفاضة 17 ديسمبر 2010 التي انطلقت ــــ كغيرها من الانتفاضات ــــ من المناطق الداخليّة.(3) أما تاجر المناطق الساحليّة فيتميّز بالمناورة والتخطيط، وهو ما دفع بالمؤرِّخ الهادي التيمومي إلى أن يصفه بـ"صانع تاريخ تونس."

ومن أسباب التقدّم الاجتماعيّ في المدن قبل العام 1881 صناعةُ الشاشِيّة (غطاء الرأس)، التي كانت تصدِّر كمّيّات ٍكبيرةً إلى المنطقة العربيّة وإفريقيا وآسيا، حتى ذهب كثيرون إلى اعتبار هذه الصناعة بمثابة النواة الأولى لنمط الإنتاج الرأسماليّ في تونس، لولا محاصرتُها من قِبل الدول الاستعماريّة، من بين عوامل أخرى. وازدهار هذه الصناعة يعكس، على كلّ حال، أهميّة سواحل تونس الطويلة، التي مثّلتْ علاقات التأثير والتأثّر المتبادلة مع بقيّة الحضارات بحُكم التبادل التجاريّ.

يتّضح ممّا سبق أنّ التناقض بين المدن والمجتمعات القبليّة سمةٌ بارزة من سمات المجتمع التونسيّ قبل سقوطه تحت الاحتلال الفرنسيّ سنة 1881. وكانت المدينةُ الطرفَ الرئيس لهذا التناقض، إذ كانت لها اليدُ العليا سياسيًّا واقتصاديًّا وإداريًّا.

 

تمظهرات التناقض بين الساحل والداخل خلال الاستعمار

كانت المناطقُ الداخليّة، موطنُ الفلّاح الشجاع والثائر، أقلَّ انفتاحًا على الأفكار التحديثيّة من المناطق المتاخمة للبحر، لكنّها أكثرُ رفضًا للظلم والاستغلال. وهو ما جعلها تتبوّأ موقعَ قيادة مقاومة الغزو الاستعماريّ للبلاد سنة 1881. وقد ظهر لتلك المقاومة الفلّاحيّة العديدُ من القيادات والرموز، مثل: علي بن خليفة النفاتي، وعلي بن عمار العياري، وحرّاث بن محمد الفرشيشي. لكن سرعان ما سُحِب البساط من تحت أقدام هذه القيادات لسببين:

ــــ الهزيمة التي مُنيت بها مقاومةُ القبائل أمام تفوّق الجيش الفرنسيّ الغازي عددًا وعتادًا.

ــــ ظهور حركات سياسيّة ذات منبت حضريّ، تَنظر بعَين الريبة والحذر إلى الفلاحين. بل تكنّ لهم العداء الصارخ أحيانًا، على ما سنبيّن لاحقًا. وتمثّلتْ هذه الحركات في "حركة الشباب التونسيّ" و"الحزب الحرّ الدستوريّ التونسيّ." وقد عبّرتْ هاتان الحركتان عن توجّهات قياداتيْهما المنحدرتين من أوساط أرستقراطيّة، وعن مصالح البورجوازيّة التونسيّة الناشئة، والبرجوازيّة الصغيرة المتمركزة في المدن المتاخمة للبحر. وقد وصل الأمرُ بأحد رموز الحركة الأولى، البشير صفر، حدَّ التنديد بانتفاضة القصرين وتالة سنة 1906، بل المطالبة بإعدام المنتفضين؛ الأمر الذي يؤكّد أنّ معاداة الفلاحين خاصِّيّةٌ جوهريّة كامنة في صُلب هذه الحركة التي تُعتبر البذرة الأولى للحزب الثاني (الذي تأسّس سنة 1920).

في العام 1934، سينبثق الحزبُ الحرّ الدستوريّ الجديد عن الحزب الحرّ الدستوريّ التونسيّ (القديم)، وسيستلم قيادةَ الحركة الوطنيّة بزعامة الحبيب بورقيبة. يقول الهادي التيمومي في هذا الصدد: "وبدايةً من 1934، تزعّمت البورجوازيّة الصغيرة الحضريّة، وخاصةً منها المنتمية إلى الساحل (سوسة)، الحركة الوطنيّة ضدّ الاستعمار. والساحل منطقة معروفة بشبكتها الحضريّة الكثيفة منذ التاريخ القديم. وقد أسّس الحبيب بورقيبة، أصيل هذه المنطقة، الحزب الحرّ الدستوريّ الجديد."(4)

سنة 1952 ستعود "أعماقُ تونس" إلى واجهة الأحداث، وذلك مع اندلاع حركة فلّاحين مسلّحة بقيادة الطاهر الأسود، والأزهر الشرايطي، ومصباح الجربوع، وغيرهم من الأسماء التي لم تدوّنها صفحاتُ التاريخ الرسميّ. لكنّ بورقيبة لم يَعتبر هؤلاء "الفلاقة"(5) والفلّاحين حلفاءَ وشركاءَ مُتساوين مع باقي مكوّنات الحزب، بل أداة فعّالة للضغط على الفرنسيين بهدف الوصول إلى اتفاقيّة الاستقلال الداخليّ (1955) واتفاقيّة الاستقلال التامّ (1956). ومن هذا المنظور، فإنّ قيادة الحركة الوطنيّة ضدّ الاحتلال الفرنسيّ، خلال فتراتها الحاسمة، كانت في أيدي القيادات الحضريّة.

كان الاستعمار على وعيٍ تامّ بهذا التناقض المزمن في تونس، منذ البعثات الاستكشافيّة التي أرسلها إلى البلاد في القرن التاسع عشر، وخلال فترة حضوره المباشر (1881 ــــ 1956). لذلك، حاول عزلَ القبائل عن قيادات الحزب الدستوريّ؛ فأقرّ، مثلًا، برنامجَ تعمير البادية، أو "النظرةَ الجديدةَ إلى الريف،" بغرض سحب البساط من تحت أقدام الدستوريين، خلال ثلاثينيّات القرن العشرين، عبر تهدئة رجال القبائل، وللحدّ من ظاهرة النزوح، نظرًا إلى ما تمثّله من تهديدٍ للمستوطنين الأجانب في المدن.

كما سنّ الاستعمارُ مجموعةً من القوانين التي أحدثتْ تغييرات مهمّة في الميدانين الاجتماعيّ والاقتصاديّ، مثل "أمر 1918" الذي رسم الحدودَ بين الأراضي، ومَنَح القبائل حقّ امتلاكها، فتقلّصتْ حياةُ البداوة والتّرحال بشكل كبير، وأصبحت القبائل أكثر استقرارًا. لكنّ ذلك لم يُحدث تغييرًا في مستوى البُنى الفوقيّة السائدة، إذ ظلّت أفكارُ النّاس حبيسةَ الإيمان بالسحْر والشعوذة والأفكار الغيبيّة. وعلى الرغم من أنّ هذه الأفكار انتشرتْ في أرجاء البلاد كافّةً، فإنّها كانت أكثر تغلغُلًا في المناطق الداخليّة، بينما كانت السواحل أكثرَ تأثّرا بالثقافة الغربيّة الوافدة مع الاحتلال الفرنسيّ. وهو ما حافظ على الاختلاف في نمط العيش بين هذين القطبين الجغرافيّين.

رَسَّخ التحدّي الاستعماريّ، من دون قصد، الهويّة الوطنيّة التونسيّة. وتراجعت التناقضات في صفوف الشعب مع بداية الخمسينيّات، لتخْلي مكانَها للتناقض الرئيس مع المحتلّ. وأصبحت الأغلبيّة الساحقة من الشعب التونسيّ، وفي جهات البلاد جميعها، تؤْمن بأنّ الاستقلال ضرورة ملحّة. لكنّ هذا لم يعنِ انتفاءَ الصراعات داخل الحركة الوطنيّة، بل وصل بعضُها حدَّ الصراع المسلّح، مثل الصراع اليوسفي ــــ البورقيبي الذي عمّق التناقضات الجهويّة في تونس.

فماهي تجلّيات التناقض بين المناطق الساحليّة والمناطق الداخليّة بعد انحسار الاستعمار المباشر سنة 1956؟ وكيف تعامل الحزبُ الدستوريّ مع هذا الاختلال منذ وصوله إلى السلطة بعد توقيع اتّفاقيّة الاستقلال؟

الهُوّة بين الشريط الساحلي والمناطق الداخليّة منذ الاستقلال

في 24 ديسمبر 2010، تاريخ سقوط أوّل شهيد في الانتفاضة الشعبيّة ضدّ نظام بن عليّ في قرية منزل بوزيّان، صرخت امرأةٌ صرخةً تكاد تُلخّص ببلاغة نظرةَ أهالي محافظة سيدي بوزيد (التي انطلقتْ منها الاحتجاجات) لنصف قرن من الاستقلال:" كِيمَا خرّجنا الاستعمار باش نخرّجو الاستقلال؟"

هكذا عبّرتْ، بمعجمها البسيط، عن فكرة عميقة، مفادُها أنّ دولة ما بعد الاستقلال أدارت ظهرَها لفلّاحي تلك الربوع، فبقيت المناطقُ الداخليّة نسيًا منسيًّا، وبقي الأهالي هناك يشعرون بالظلم و"الحُقرة"؛ وكلّ ذلك على الرغم ممّا تحقّق، منذ العام 1956، من إنجازات على صعيد البنية الأساسيّة (طرق، مستشفيات، توسيع شبكات المياه والكهرباء،...)، وتقليص نسبة الأمّيّة، وتحقيق نسب نموّ اقتصاديّ مرتفعة نسبيًّا (تراوحتْ نسبةُ النموّ خلال فترة حكم بن عليّ بين 4٪ و5٪). لكنّ المعضلة الرئيسة هي التوزيع غير العادل لهذه النِّسَب، طبقيًّا وجهويًّا. وقد شَهِدتْ خارطةُ التوزيع الجغرافيّ للمنشآت الكبرى (الطرقات السيّارة، المصانع، المنتجعات السياحيّة، المستشفيات الجامعيّة، الكلّيات...) اختلالًا كبيرًا، إذ تركّزتْ 90٪ منها في السواحل الشمالية والشرقيّة للبلاد بحسب إحصاء 2010.

إنّ فهم ظاهرة اللامساواة الجهويّة يمرّ حتمًا عبر تحديد المضمون الطبقيّ للسّلطة، والذي يحدّد في النّهاية توجّهاتهاالاقتصاديّة والسّياسيّة. لقد كان الحزب الدّستوري (بتسمياته المختلفة والمُتغيّرة) الذي احتكر السّلطة منذ سنة 1956 إلى غاية الإطاحة بزين العابدين بن علي في 2011، مُعبِّرًا في الأساس عن مصالح البرجوازيّة. ليست هذه البرجوازيّة نِتاج صيرورة داخليّة للمجتمع، بل زُرعت بذورها الأولى بفعل التدخّل الخارجيّ للاستعمار الفرنسيّ. وزادت العلاقات الرأسماليّة تغلغلًا، خلال السبعينيّات، مع حكومة "الهادي نويرة" التي انتهجتْ سياسة الانفتاح، وراهنت على القطاع الخاصّ، بعد فشل تجربة التعاضد المعروفة باسم "الاشتراكيّة الدّستوريّة،" في الستينيّات، بتخطيط من أحمد بن صالح. وكان من نتائج هذه الاختيارات الاقتصاديّة "تعمّق الفوارق الجهويّة، بين المناطق الساحليّة في الشرق التونسيّ والمناطق الداخليّة في الغرب من جهة، وبين الأرياف والمدن من جهة أخرى، نتيجة استمرار الاستثمار وتطوّره في السّاحل حيثما تتوفّر شروط الاستثمار؛ كالبُنية الأساسيّة. ونتيجةً أيضًا لتراجع الاستثمار في الفلاحة."(6) تُركِّز البرجوازيّة التونسيّة نشاطها واستثماراتها بشكلٍ أساسيّ في قطاع الخدمات وبخاصّةٍ السياحة (بلغت مساهمة قطاع الخدمات 43.2٪من الدخل الوطنيّ الخام سنة 2007). وهذا ما جعل الاقتصاد التونسيّ اقتصادًا ريعيًّا غير منتج، تلعب فيه البرجوازيّة المحلّيّة مُجرّد دور الوساطة بين الداخل والخارج. لذلك، يصحُّ وصفها بالبرجوازيّة المركَّبة ريعيّة/ كمبرادوريّة. ولأنّ القاعدة الرّئيسيّة التي ينطلق منها رأس المال، هي البحث عن الرّبح الأقصى، ونظرًا إلى كون بلدان أوروبا هي الشريك الرّئيس لهذه الطبقة الكمبرادوريّة، فقد ركّزت أغلب استثماراتها ونشاطها في المناطق المتاخمة للبحر. دفع هذا الوضع المُختلّ واللامتوازن بآلاف العائلات وآلاف البطَّالِين إلى الهجرة والاستقرار في المدن السّاحليّة الكبرى (سوسة، تونس، صفاقس)، وذلك بحثًا عن مرافق الحياة الأساسية (مستشفيات، كليّات، مصانع)، وعن عمل يحفظ الكرامة الإنسانيّة. وهو ما أدّى، خلال العقود القليلة الماضية، إلى  تغييرٍ سريع وخطير في خارطة التّوزيع الجغرافي للسكّان؛ حيث أصبح الشّريط السّاحلي ــ الذي يُمثِّل رُبع مساحةالبلاد ــ يضمّ ثلثَي السكّان. وأصبحت تونس الكبرى تضُمّ ربع سكان البلاد! وهو ما يُشكّل تَحدِّيًا في غاية الخطورة، لأنّه يُقلّص من فرصة نجاح أيّ محاولة لإيجاد تنمية بديلة متمحورة حول الذّات، حيث لا أمل في نجاح أي منوال تنمويّ مستقلّ بدون إعادة الاعتبار للريف وللفلاحة، ولتوفّر يدٍ عاملة كافية في هذا القطاع. فَمن لا يُنتج قُوتَه بعرق جبينه، لن يكون مستقلًّا مهما سعى إلى ذلك. ومن ناحية أخرى، يخلق هذا الواقع عبئًا ديموغرافيًّا كبيرًا على المدن السَّاحلية الكبرى التي أصبحت مُحاصرةً بالأحياء الشّعبيّة الفقيرة. وكنتيجة طبيعيّة لهذا الضّغط السكّانيّ، في الشريط السّاحليّ، تنزل الأجور بشكل لافت انطلاقا من القاعدة البسيطة القائلة بأنّه كلّما ازداد العرض في سوق الشغل تدنَّت الأجور؛ وبالتالي، يزداد الفقر وترتفع البطالة، فتنتشر الجريمة (بلغت النسبة 350 جريمة يوميًّاحسب إحصائيّات وزارة الداخليّة لعام 2014) والإدمان. وتجد التّنظيمات الإرهابيّة، التي تتغذّى أساسًا من البؤس والفقر، في أحياء الصفيح والعشوائيّات أرضيّةً ملائمة للاستقطاب والعمل.

ومن المفارقات، أنّ مناطق الجنوب التونسيّ الغنيّة بالثّروات الطّبيعيّة،هي من أفقر مناطق البلاد؛ فمنطقة الحوض المنجميّ، في قفصة، التي توفّر لتونس مليارات الدولارات من صادرات الفوسفاط، لا يرى منها الأهالي غير السراب والتلوّث البيئيّ والأمراض السّرطانيّة. لا شكّ أنّ الجنوب التونسيّتمّ تغييبه تنمويًّا وسياسيًّا على مدى عقود؛ فحتّى المناصب القياديّة في الدّولة التي احتكرها الحزب الحاكم، يقع إقصاء أبناء تلك الأقاليم من المُشاركة فيها، في كثير من الأحيان؛ لذلك، فليس مستغربًا أن تَسمع تذمُّر أهالي تونس العميقة قائلين: "الكدح في المناجم والمال في العواصم،" أو "استأثر الساحل بالسّلطة والمال، وتركوا لنا الفُتات." وهذه الشعارات (الصادقة والمحقّة) إن لم يتمّ ربطها عن وعي باختيارات النظام السياسيّة وطبيعته الطبقيّة، فإنّها قد تتحوّل إلى عامل لتقسيم الشّعب، واجترار التشكّي من المرارة. وهذا ما يسعى إليه النظام بهدف حرف البوصلة عن التناقض الحقيقيّ بين الشعب والطبقات الحاكمة إلى صراع في صفوف الشّعب. ولا يتورّع النظام، لبلوغ هذه الغاية، عن استخدام شتّى الوسائل؛ ومن بينها كرة القدم التي جعلت من آلاف الشباب، وحتى الكهول، قُطعانًا يغضُّون الطرف عن فساد رجل الأعمال الذي يتولَّى رئاسة النادي الذي يشجّعونه. وقد أصبحت هذه اللّعبة وسيلةً من وسائل ترسيخ العُنصريّة، وعمّقت ظاهرة "الجهويّات." وغَدَت مطِيّةً لبعض رجال الأعمال الفاسدين، ولبعض السياسيين للفوز بجماهيريّة عمياء، وبـ"أتباعٍ" يذهبون معهم حتّى إلى جهنّم!

إنّ كلّ هذه المخاطر الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة النّاتجة عن هذا التّناقض بين الساحل والداخل في تونس، يجب أن تُوضع في إطار أنّها نتيجة لحكم نظام تمييز جهويّ، لا يمثّل مصالح الطبقات الشعبيّة ولا السّيادة الوطنية. وما دون هذه الرؤية هو سقوط لا وقوف بعده.

 

خاتمة:

خَلق هذا التناقض بين الساحل التونسيّ والمناطق الداخليّة خارِطةً غير متوازنة ومائلة؛ حيثُ وُضِعت كلّ أثقال البلاد الاقتصاديّة والسياسيّة والديمغرافيّة على امتداد الشّريط الساحليّ. ولأنّ الخطوة الأولى لتغيير هذا الواقع المُختلّ، هي فهمه والإحاطة به من كلّ الجوانب، فقد حاولنا العودة إلى جذور هذا التّناقض خلال القرن التاسع عشر، ثمّ دراسة أسبابه وتمظهراته خلال فترة الاستعمار المباشر وما بعدها، وعلاقتها بالصراعات الاجتماعيّة والطبقيّة التي تعتمل داخل المجتمع.

إنّ النمط الاقتصاديّ السّائد هو أحد الأسباب الرئيسة لهذا الاختلال الذي جعل من تونس بلدًا أعرج يسير على قدم واحدة. ولمعالجة هذا الوضع غير المتوازن، لا بديل عن مشروع وطنيّ ومُستقلّ يقطع مع التّبعيّة المهيمنة على الخيارات الاقتصاديّة في البلاد، وتكون فيه الدّولة قاطرة التّنمية المُتمركزة حول الذّات، لأنّ أصحاب رؤوس الأموال الخواصّ غير مستعدّين للتّضحية وللنهوض بالأرياف. وفي وضع يبدو فيه اليمين مُنتصرًا على كلّ الجبهات، فإنّه لا خيار سوى النّضال لقلب موازين القوى لصالح الطبقات الشعبيّة والجهات المُغيّبة. ومن الضّروريّ، بالنّسبة إلى القوى اليساريّة حاملة لواء التّوزيع العادل للثروة والسلطة، أن تتوجَّه إلى تنظيم الجماهير في المناطق الداخليّة والأرياف؛ وألّا يقتصر عملها السّياسي على مراكز المد،ن لأنّ تاريخ الحركات الاحتجاجيّة الكبرى في تونس أثبت أنّ الرئة التي تتنفّس بها مقاومة الاستغلال،في هذا الوطن، توجد في الأرياف.

تونس

المراجع:

1- الهادي التيمومي، انتفاضة القصرين، تالة 1906 (تونس: دار محمد علي الحامي، 2011)، ص 16.

2- مجموعة من الباحثين، المُغيّبون في تاريخ تونس الاجتماعيّ (تونس: المَجمع التونسيّ للعلوم والآداب والفنون، "بيت الحكمة،" 1999)، ص 90.

3- بدأت الانتفاضة التي دفعتْ بن عليّ إلى الهروب في ولاية ــــ محافظة سيدي بوزيد، التي تنتمي تاريخيًّا إلى قبيلة الهمامة المعروفة بنزعتها التّمرّديّة.

4- الهادي التّيمومي، كيف صار التونسيّون تونسيّين؟ (تونس: دار محمد علي الحامي، 2015)، ص129.

5- الفلّاقة: لفظة عنت المقاتلين، وما زال المعنى مستعملًا حتّى اليوم. راجع: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9

6- عبد الجليل بوقرّة، فصول من تاريخ اليسار التونسيّ:كيف واجه الشّيوعيّون وبرسبكتيف نظام الحزب الواحد 1963ــ1981، دار آفاق للنشر،تونس،2012.ص 136.

 

وائل بنجدو

كاتب وباحث من تونس.