تونس: من الحراك الثوريّ إلى الحراك الاجتماعيّ (ملفّ 1)
14-08-2017

 

 

بعد ستّ سنوات على الحراك الثوريّ، وأكثر من خمس حكوماتٍ وثلاث مناسباتٍ انتخابيّة (انتخابات المجلس الوطنيّ التأسيسيّ في 2011 والانتخابات البرلمانيّة والرئاسيّة في 2014)، شهدتْ تونس موجةَ احتجاجاتٍ انطلقتْ من مدينة القصريْن، إحدى أهمّ المدن التي كانت مسرحًا في جانفي 2011 لاحتجاجاتٍ واجهها آنذاك نظامُ بن عليّ المخلوع بعنفٍ شديد. ثم عادت الاحتجاجاتُ في منتصف جانفي 2016، فبدأتْ من القصرين، وانتشرتْ نحو المدن والقرى المجاورة، لتتوسّعَ وتشملَ أغلبَ مدن البلاد.

المطالب التي تدفع الشبابَ إلى الاحتجاج الآن هي المطالبُ عينُها التي رفعها الشبابُ منذ ديسمبر 2010 حتى جانفي 2011، وتتمثّل في: الحصول على عمل، والاهتمام الرسميّ بمناطقهم، وإيقاف التهميش المتواصل الذي يتعرّضون له من قِبل الحكومات المتعاقبة. فعبْر السنوات الفارطة لم تشهد الجهاتُ التي مثّلتْ مربّعَ الفقر والثورة في تونس أيَّ تغييراتٍ حقيقيّة. بل إنّ النصَّ على التمييز الإيجابيّ لصالح هذه الجهات في الفصل 12 من الدستور الجديد لم يُفعَّلْ على أرض الواقع؛ إذ يَصطدم بالتمويل، وبشروط مؤسّسات النقد والإقراض الدوليّة، وبإدارةٍ عموميّةٍ تعاني بيروقراطيّةً تتحكّم في أبرز التفاصيل، وبفسادٍ مستشرٍ في كلّ المجالات (من آخر أخبار الفساد، في جهة القصريْن تحديدًا، أنّ وزارة التربية خصّصتْ لتلاميذ الأرياف عددًا من الدرّاجات الهوائيّة كي يتنقّلوا بها إلى مدارسهم البعيدة عن أماكن سكناهم، فسطا على عددٍ منها المسؤولون على المستوى الجهويّ!).

ظلّ تعاطي النخبة التونسيّة مع الحَراك الثوريّ الذي اندلع منذ العام 2010 انتقائيًّا، إذ اقتصر على الاستفادة من الحرّيّات السياسيّة التي أتاحتها الثورةُ: من حرّيّة التعبير، والتنظيم، والمشاركة السياسيّة. وغاب الوعيُ بأزمة النظام الاقتصاديّة، وبارتفاع منسوبِ التهميش والتفقير والإحساس بالظلم لدى فئات واسعة من المجتمع ــــ وبخاصّةٍ الشباب.

ظلّت النُّخب التونسيّة المعارضة لنظام بن عليّ تناوئه، بشكلٍ جوهريّ، على أساس المطالب السياسيّة الحقوقيّة، ولم تنجحْ في استدعاء الشعب إلى معركة الحريّات السياسيّة ضدّ ذلك النظام، ولا في تحقيق انتصاراتٍ حقيقيّةٍ عليه. طُرحت المشاغلُ الاجتماعيّة محورًا للاشتباك مع النظام منذ انتفاضة الحوض المنجميّ في 2008 وحتى تاريخ 17 ديسمبر 2010. الجدير ذكرُه أن ذلك النظام انخرط في أواخر الثمانينيّات في برنامج الإصلاح الهيكليّ استجابةً لحزمة إصلاحاتٍ فرضتْها مؤسّساتُ التمويل الدوليّة، ومكّنتْه من الاستمرار في الحكم؛ ثمّ انخرط في سياسة الانفتاح الاقتصاديّ، وبخاصةٍ في فترة التسعينيّات، فخوصص عددًا من القطاعات العموميّة، مع تفشّي الفساد لصالح المقرَّبين منه من رجال الأعمال، ولا سيّما أصهارُ الرئيس ــــ ما أثّر سلبًا في الاستثمار الأجنبيّ نفسه.

هذا المناخُ الاجتماعيّ المختنق، والوضعُ الاقتصاديّ الذي فتح البلادَ على مصراعيْها للبرلة الاقتصاديّة، شكّلا مناخًا لتراكماتٍ مجتمعيّةٍ مهّدتْ للحَراك الثوريّ، الذي انطلق في جهات البلاد المهمَّشة. وساعد على ذلك انتشارُ المعلومات عبر وسائل الإعلام الجديد، التي مكّنت المحتجّين في أواخر 2010 وبداية 2011 من فكّ الحصار الذي فرضه النظامُ من خلال منظومة إعلامه الرسميّة.

بعد ستّ سنوات من حَراك الفئات التي لم تُحقّقْ الحكوماتُ المتعاقبةُ مطالبَها، تراكم الغضبُ الشعبيّ على تواصل سياسات نظام بن عليّ بعد خلعه. بل إنّ السياسات التي قدّمتْها الحكوماتُ الجديدةُ عمّقت الأزمةَ الاقتصاديّة، وعمّقتْ سياساتِ تهميش الشباب العاطل، وسياساتِ استثناءِ ما سوى المدن الكبرى (وبخاصّةٍ العاصمة والساحل) من توزيع الثروة. وهذا ما خلق هجرةً داخليّةً من الشمال الغربيّ، بشكلٍ خاصّ، نحو تلك المدن؛ إضافةً إلى تكوّن حزام من الأحياء التي تمثّل الفئاتِ الأكثرَ تهميشًا وفقرًا.

اليوم، نشهد عودةً إلى طرح مشروع "قانون المصالحة،" ضمن نتائج مسار التوافقات التي صيغتْ خارجيًّا، وعبر معطيات "الانتقال الديمقراطيّ" وضمان إعادة إنتاج النظام القديم؛ علمًا أنّ الأخير لم يتفكّكْ، بل ارتبك، وأعاد صياغةَ تحالفاته في مواجهة استحقاقات مسار 17 ديسمبر 2010، مستفيدًا من دور النخَب "المعارضة" لنظام بن عليّ سابقًا ــــ وهي نُخَبٌ أنعشتْ خياراتُها السياسيّةُ النظامَ لحظةَ ارتباكه.

فلقد جاءت مبادرةُ رئاسة الجمهوريّة إلى اقتراح "قانون المصالحة الاقتصاديّة" سنة 2015 في إطار نتائج مرحلةِ ما بعد التوافق الذي صاغت تفاصيلَه سنة 2013 القوى الأجنبيّةُ في تونس. وتمثّلت البدايةُ في جملةٍ من اللقاءات التي جرت في السفارات الأمريكيّة والفرنسيّة والألمانيّة في تونس؛ مرورًا بلقاء رئيس "حركة النهضة" راشد الغنوشي ورئيس "نداء تونس" في باريس؛ إضافةً إلى التقارب بين "الجبهة الشعبيّة" (اليساريّة) و"نداء تونس،" والذي جمع أشتاتًا من "حزب التجمّع" المنحلّ والبورقيبيين القدامى والجدد وممثِّلين آخرين لمصالح "جبهة الإنقاذ."

إنّ هذا التوافقَ الذي رُوِّجَ على أنّه "استثناءٌ تونسيّ" لم يكن كذلك، وإنّما فرضتْه السفاراتُ ورجالاتُها. وكانت "الجبهة الشعبيّة" هي الجسرَ الذي عَبَره "نداءُ تونس" نحو التطبيع معه في المشهد السياسيّ في مرحلة الاغتيالات السياسيّة، تحت وهم أنّ "النداء" سيثأر من دم المغدوريْن شكري بلعيد ومحمد البراهمي. ثم جاءت نتائجُ انتخابات 2014 التشريعيّة، ثمّ الرئاسيّة، لتؤدّي إلى تحالفٍ حكوميّ أساسُه "النداء" و"النهضة" وبعضُ الأحزاب الصغيرة الحاملة لإيديولوجيا النيوليبراليّة المتوحّشة (حزب "آفاق تونس") وبعض الأحزاب المتلبرلة (حزب المسار) فيما بعد.

لقد قامت حركةُ النهضة بما فعلته الجبهةُ الشعبيّة سنة 2013، أي التحالف مع "نداء تونس،" لكنْ حين باتت (أي النهضة) في الحكم، ولم تعد في المعارضة. وكان ذلك بمثابة خطوةٍ استباقيّةٍ في مواجهةِ ما يهدِّد وجودَها، في إشارةٍ إلى خطاب جزءٍ من "نداء تونس" (جناح محسن مرزوق)، وهو الخطابُ نفسُه الذي رفعه "نداءُ تونس" بصدد محاسبة الترويكا وتمسّكتْ به الجبهةُ الشعبية: خطابٌ حمل استعداداتٍ انتقاميّةً بشعاراتٍ إيديولوجيّةٍ ثقافويّة. لكنّ أكبرَ مستفيد كان النظام القديم ــــ الجديد، الذي كان المسارُ الثوريُّ قد اشتعل من أجل إسقاطه، ومن أجل إطلاق سيرورةٍ معاديةٍ للسياسات النيوليبراليّة ــــ وهي سياسات أضعفتْ دورَ الدولة الاجتماعيّ والاقتصاديّ، وأدّت إلى تغوّل رأس المال الأجنبيّ والمحلّيّ، وسخّرت الدولةَ لخدمة مصالح رؤوس الأموال على حساب أغلبيّة الشعب.

إنّ سرديّة "الانتقال الديمقراطيّ" وخطابَ "التوافقات التاريخيّة" أدّيا إلى استقواء المنظومة السياسيّة والاقتصاديّة القديمة بمغانم الحالة الليبراليّة، أي الانتخابات ومؤسّسات "الدولة الجديدة." إنّ الديمقراطيّة الشكليّة ــــ وأعني المعزولة عن مناقشة المنوال الاقتصاديّ المنتِج للنهب والاستغلال، والمكرَّسِ للإفلات من العقاب ــــ لن تؤدّي إلّا إلى تأصيل الحالة النيوليبراليّة الاقتصاديّة، المتعارضةِ جذريًّا مع استحقاقات المسار الثوريّ، الذي كان ردّةَ فعلٍ على عقودٍ من تطبيق توصيات صندوق النقد الدوليّ وبرامج البنك الدوليّ والاتحاد الأوروبيّ.

يبدو النظامُ مصرًّا على حربه الشرسة، لكنْ من داخل منظومة "الديمقراطيّة الشكليّة،" مستغلًّا التوازناتِ المتحرّكةَ، ولو بتجاوز التوافقات التي أبرمها تحت الضغط. لكنْ إلى أيّ مدى يمكن أن يذهب في هذه التجاوزات؟

هنا لا يمكن أن نُغفل أنّ المؤسّسات الدوليّة المموِّلة، والدولَ المانحةَ والداعمة، تَفرض شروطَها وبرامجَها مقابلَ الدعم والإقراض الماليّيْن لضمان استمراريّة الاستعمار الاقتصاديّ. إنّها تريد مواصلةَ النهب والاستغلال والتفاوت، لكنّها تريده هذه المرّة بشكلٍ "شفّافٍ وقانونيّ." ولذلك، فإنّ خطاب "مقاومة الفساد" و"احترام التعهّدات" و"الحوكمة،" وغيرها من ترسانة المعجم الإمبرياليّ التي تتبنّاها الجهاتُ الداعمةُ والمانحةُ والمقرِضة، تصبح اليوم جزءًا من سرديّة التبعية الاقتصاديّة. بكلامٍ آخر: إنّ الجهات الدوليّة المذكورة تعي أنّ استمراريّةَ آليّات التحكّم والاستغلال تُسهم في إعادة إنتاج التمرّد، بما قد يؤدّي إلى الإطاحة بنموذج الاستعباد المقنّع؛ ولذلك تقترح إصلاحاتٍ في المنظومة القانونيّة للدولة تضمن استمرارَ الخيارات المنتِجة للفقر والتفاوتِ والظلم.

***

في خضمّ هذا الصراعات يظلّ الحراكُ الاجتماعيّ هو الثابتَ الأبرزَ في المشهد. ولذلك برزتْ محاولاتٌ لترويضه، أو إجهاضه، عن طريق التشويه،(1) أو التفاوض الالتفافيّ من قِبل السلطة ومحيطِها.(2)

يضاف إلى ذلك الالتفاف التفافٌ آخر، هو الذي يبذله "المجتمعُ المدنيّ،" التابعُ معرفيًّا لمقولات الهيمنة الثقافيّة، والتابعُ اقتصاديًّا في تمويله. فهذا المجتمع يعمل على التخفيف من "الدسم" الذي يتركّز في مطالب المحتجيّن، إذ ينتصب وسيطًا بين النظام والمحتجّين من خلال دروب التفاوض الخفيّة، أو التأثير في المطالب ذاتها عبر التأكيد على ضرورة التراجع بسقف المطالب ليتمكّن النظامُ من الاستجابة إليها؛ وهذا ما يجعل الحراكَ الاجتماعيّ جزءًا من حالة الاستقرار الذي يَخدم مصلحةَ النظام الدوليّ ووكلائه محليًّا.

لكنْ منذ 17 ديسمبر 2010، كما ذكرنا، تمكّن الحراكُ الاجتماعيّ من الثبات، بل من خلق نماذجِ مقاومةٍ تتجاوز إمكاناتِ المجال السياسيّ الرسميّ، حكمًا و"معارضة." تلك هي المعركة الفعليّة، خصوصًا في ما تعلّق بقضيّة الأرض والمسألة الفلّاحية. وهو ما عبّرتْ عنه تجربةُ "جمعيّة حماية واحات جمنة،" على الرغم من الحصار الذي تتعرّض له من قِبل الجهات الرسميّة.

كما تأكّدتْ علاقةُ مطلب العدالة الاجتماعيّة بمسألة التفاوت بين الجهات والفئات. إضافةً إلى التهميش الممنهج والمتواصل للجهات الداخليّة، وارتباطِ ذلك بمسألة الثروات الوطنيّة والتبعية الاقتصاديّة. وهذا ما برز في اعتصام الكامور الذي شهدتْه صحراءُ ولاية تطاوين في الجنوب التونسيّ، التي تحتوي مناطقَ لإنتاج الغاز والنفط. وهذا الأمرُ حفّز عددًا من الشباب على تنفيذ تحرّكاتٍ احتجاجيّةٍ في مناطق أخرى في الجنوب، كمنطقة دوز في ولاية قبلي، التي تتوافر فيها أيضًا مواقعُ لإنتاج النفط؛ فهذه المنطقة رفعتْ بدورها مطالبَ التشغيل والعدالة الاجتماعيّة ورفض التهميش المتواصل لمنطقتهم.

***

مثّل الحَراكُ الاجتماعيّ السيروةَ الطبيعيّةَ للحَراك الثوريّ زمن "الانتقال الديمقراطيّ،" المكرَّسِ لتوافقات الالتفاف على المسار الثوريّ الذي اندلع من أجل "إسقاط نظام عصابة السرّاق" كما هتف المتظاهرون منذ ما بعد 17 ديسمبر 2010. لكنّ استمرار الحَراك الاجتماعيّ يؤكّد مرّةً أخرى أنّ للثورة سرديّتَها المقاومة في مواجهة كلّ تلك الالتفافات.

تونس

 

(1) وذلك من خلال حملات إعلاميّة تتّهم المحتجّين، مثلًا، بالمسّ بأمن البلاد واقتصادها.

(2) وذلك بالحدّ من أيّة مكتسبات عبر التفاوض والاستجابة المحدودة للمطالب المرفوعة لتبيان فشل الحراك.

علي كنيس

يعدّ رسالة ماجستير في العلوم السياسيّة حاليًّا في كليّة الحقوق والعلوم السياسيّة في تونس. مؤمن بالنضال من أجل إسقاط الاستعباد الاقتصاديّ والإطاحة بالهيمنة الثقافيّة الاستعماريّة وتصفية الاستبداد السياسيّ انتصارًا لمسار 17 ديسمبر 2010.