جبل النار
09-07-2016

 

إلى روح غيفارا

ــــ في رمشة عين تقلبون الأرض جحيمًا. غضبي أعورُ مثلي لا يرى إلاّ الخرابَ!

امتطى حصانه ثمّ رفع رمحهُ صائحًا في وجوه أتباعه، وانطلقوا نحو الجنوب إلى جبل النار. على سفح الجبل اصطفّ عددٌ من الرجال أمام شيخ عجوز فوق كتفه اليسرى نسرٌ هرمٌ.

ــــ أيّها الحكيم، أرشِدْنا إلى حلّ. إنّ العدوّ في طريقه إلينا، سيسحقنا في ثوانٍ معدودة. قل لنا كيف النجاة؟

ــــ مخطئون لو ظننّا أنّ الفرار يزيد في الأجل! قديمًا ثرتُ من أجلكم من دون تفكير في العقاب. وُثّقتُ بالحديد إلى الجبل لسنين، حتّى استأنس بي النسرُ فصار من الثائرين. واليومَ، نحن أحرارٌ بعد أن قتلنا في أنفسنا بذورَ الذلّ والهزيمة. يا إخواني، ها يدي أولجُها في النار عهدًا على محاربة الطغيان، فأين أياديكم؟

بصوتٍ واحدٍ هتف المقاتلون: معك نحن يا معلّم!

الطريق إلى جبل النار يملأها الرعبُ. الذئب يُعارض الريح ويُعسِلُ. وقعُ سنابك الخيل كنبض القلب لا يتوقف. الغاية: سحقُ قريةٍ شعارُها التمرّدُ.

ــــ يا معلّم، قل لنا ما الخطّة؟ هل نقدر على مواجهة جيشٍ شرسٍ، ونحن قلّةٌ، وسلاحُنا أقلّ؟

ابتسم المعلّم وقال: "صحيحٌ ما تزعمون. ولكنّ لنا العقل! سننقل النساء والصغارَ إلى مكانٍ آمن، ثمّ نصعد الجبلَ، كلٌّ محمّلٌ بزاده وسهامه، ونحتمي بالقمم الحصينة متربّصين. حتّى إذا داهمنا أعداؤنا عند السفح، رميناهم بالنبال من مراقبنا.

ــــ ولكنْ يا معلّم مَن بوسعه صعودُ هذا الارتفاع الشاهق، وتسلّقُ الصوّان البتّار، محمَّلًا بثقلٍ جبّار؟ إنّه الجنون ولا ريب! ماذا لو نفد طعامُنا وشرابُنا ونحن محاصَرون؟

ــــ أوَتخافونَ الموتَ جوعًا وعطشًا؟ ألم نتعاهدْ لتوّنا على المقاومة؟ مَن كان يبغي الهروب، ها الأرضُ واسعةٌ، فليغربْ عنّا، وليعش شريدًا في الفيافي.

تبادل الرجال نظراتٍ تائهةً. اكتسح الشكُّ نفوسَ البعض. ارتعدت الفرائص. اصفرّت الوجوه. انسحب عددٌ من الجبناء، ناكثين العهد، دامعين. صاح المعلّم: "قوموا إلى ما نصحتُكم به."

في تلك الأثناء كانت جحافلُ الأعداء تواصل تقدّمَها. لم يعد يفصلها عن القرية الجبليّة غيرُ مسيرة يومين أو ثلاثة. الدّماء تقطر على الصفا. الجروح يلهبها العرَق. العزائم تفتر وتشتدّ، وقد دنا الليلُ. كان المعلّم يسابق أبناءَه لبلوغ القمّة، والنسرُ يعاونه في التشبّث كلّما زلّت يدهُ. بعد يوم من العذاب كان الكلُّ قريبًا من السّماء، لا شيء في الأعالي إلّا حشائش كالإبر منتصبة وحجارة كثيرة مفلّلة وأعشاش جوارح مبعثرة.

لم يُشعل الجمعُ نارًا، بل قضوْا ليلتهم كالبُوم منتظرين على قلق. وبينما هم مشدودو الأعصاب إذ بأحد ناكثي العهد ينمو إلى القمّة عائدًا. وعندما بلغها رأى المعلّمَ من بعيد، فمشى إليه منهكًا وارتمى باكيًا عند قدميه: "يا معلّم أخطأتُ إلى نفسي وإلى أهلي. لكنْ ها إنّي عدتُ. فاغفرْ لي، وإنْ كنتُ لا أستحقّ مغفرتكَ..."

ــــ لا بأس عليك. قُم وامض إلى أصحابك.

فوقف يكفكف عبراته ثمّ مضى إلى الجمع وجيبُه تُشنشن بالفضّة.

"أهلًا بعودة أخينا التّائب،" هجهج المقاتلون.

***

مع بزوغ الشّمس بدا قسطلُ الجحافل، فصاح المعلّم: "تأهّبوا! قد شمّرتْ عن ساقها الحربُ! لينتصبْ كلٌّ في مكانه حتّى أعطيَكم الإشارة لمفاجأة العدوّ."

عند الأصيل كان الجبل مُطوّقًا من كلّ الجهات. "أين أنتم أيّها الجبناء؟" زمجر الأعورُ، ولكز حصانه، فصهل صهيلَ توعّدٍ. وفي اللحظة ذاتها اسودّت الدّنيا بسهام مرشوقة كأنّها أسرابُ جرادٍ ستنقضّ على حقل حنطة. صيحاتُ الموت ترتفع. حوافرُ الخيل خضّبتها الدّماء. يتقهقر الأعداء.

ــــ فداءكَ نحن يا معلّمنا، فداءكَ نحن... سيجيء النّصر ويعود نسيمُ الحريّة.

الغازون، بحقدٍ، إلى القمّة ينظرون. يتقدّم التّائبُ العائدُ مبتسمًا نحو سيّده ويقبّلهُ: "بشراكَ يا جبل النّار. النّصر قريب!"

فقال له المعلّمُ: "أبقبلةٍ تدلّهم على معلّمك؟"

اسودّ وجهُ صاحب القبلة. تراجع خطواتٍ إلى الوراء. أخرجَ الفضّة من جيبه ليلقيَها. لكنْ عوى الذئبُ. كان سهمُ الأعور قد استقرّ في قلب المعلّم.

تونس

سيف الدين بنزيد

 باحث تونسيّ متخصّص في مجال الأدب العربيّ الحديث. نال الأستاذيّة في اللغة والآداب العربيّة من المعهد العالي للغات بتونس، وكانت رسالته بعنوان "الغربة والفخر في أشعار الشنفرى وعُروة بن الورد." واصل المرحلة الثالثة من التعليم العالي بكليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس، وتحصّل على شهادة الماجستير في اللغة والأدب والحضارة العربيّة، وكان عنوان أطروحته: "التناصّ مع الكتاب المقدّس في مجموعتيْ البئر المهجورة وقصائد في الأربعين ليوسف الخال." نال الدكتوراه وكانت أطروحته بعنوان: "التوظيف الرّمزيّ في الشعر السياسيّ المصريّ الحديث." درّس بالمعهد العالي للغات بتونس، وبالمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة بتونس.