جورج حبش: الثورة في فوهة بندقيّة (ملفّ)
26-01-2017

 

 

كنتُ لا أزال في الجامعة عندما قرأتُ كتاب حقيقة القوميّة العربيّة وأسطورة البعث العربيّ، للشيخ محمد الغزالي. الكتاب، شأنه شأن مئات الكتب من هذا النوع، احتلّ فجواتٍ واسعةً في العقل العربيّ عقب نكسة 67، وهي نفسها الفجواتُ التي تركتْها الدولةُ القوميةُ نهبًا لمؤسِّسي "الفقه" الغيبيّ التكفيريّ. ثم تعزّزتْ تلك الصورةُ بخروج  مصر من الصراع السياسيّ والعسكريّ مع "إسرائيل،" بعد قبولها بمعاهدة كامب ديفيد، عقب إطلاق السادات مقولةَ "مصر للمصريّين،" في تأكيدٍ غير ملتبسٍ على نهاية الدولة الناصريّة، التي تبنّتْ مطالبَ الثورة العربيّة وقدّمتْ نموذجًا شعبيًّا مقبولًا ووسطيًّا  لنمط الإنتاج الآسيويّ .

لم يدهشني في قراءة الغزالي للقوميّة العربيّة سوى ذلك العصفِ الذهنيّ الذي انتهى به إلى اتّهام مفكّرين كبار ومناضلين أفنوْا أعمارَهم دفاعًا عن انتشال العقل العربيّ من كهنة آل عثمان إلى فضاء الوطنيّة المنفتحِ والمتعدّد. لم تكن اتهاماتُه أبعدَ من ذلك المنطقِ الطائفيّ والاستئصاليّ الذي يتّهم المسيحيين العربَ بأنّهم ليسوا أكثر من "أجانبَ" يدعمون القوميّةَ العربيّةَ بهدف إسقاط آخر نماذج الحكم الإسلاميّ الذي "تمثّله" إمبراطوريّةُ آل عثمان، رغم أنّ الطرح القومويّ كان ولا يزال متمسّكًا بفكرة الأمّة الواحدة.

ولا شكّ في أنّ التحوّلات التي أحدثتْها الهزائمُ المتتالية التي مُنيتْ بها الدولةُ القوميّة كانت أحدَ أسباب الانهيارات الكبرى التي أصابت الثورةَ العربيّة وانتهت إلى نفي قادتها أو سجنِهم أو قتلِهم؛ مرّةً برصاص احتلالٍ غاشم، ومرّةً بسوط حكّامٍ ينتمون إلى الثورة نفسها ويتحدّثون باسمها. وقد رأينا كيف كان الدكتور جورج حبش عرضةً للاغتيال في سجون دمشق لولا تهريبُه بعمليْةٍ محْكمةٍ قادها رفيقُ دربه وديع حدّاد. والأمر نفسه حدث في تحوّلات الموقف الناصريّ المهزوم الذي لم يكن باستطاعته منحَ حبش التأييدَ الذي كان قد منحه إيّاه في السابق، ولاسيّما بعد أن تعدّدتْ عمليّاتُ الجبهة الشعبيّة ضدّ الأهداف الصهيونيّة في أوروبا.

ولا شكّ في أنّ التسوية التي طرحتْها الولاياتُ المتحدةُ في الشرق الأوسط كانت تستهدف، بين ما تستهدف، تصفيةَ جميع الحركات الثوريّة التي كانت تمثّل انتصارًا للماركسيّة اللينينيّة في مواجهة الإمبرياليّة، التي تُعدّ الدولةُ الصهيونيّةُ أحدَ أهمّ أذرعها في الشرق الأوسط. وهو الأمر الذي حدا بزعيم الجبهة الشعبيّة إلى وصف اتفاق أوسلو بـ "المقزِّز"؛ فقد بدا وكأنّ هذا الاتفاقَ استئناسٌ فلسطينيّ رسميّ بالمؤامرة، التي رأت قيادةُ منظّمة التحرير أنّ التعامل معها يعني الفوزَ بما تبقّى من أشلاء دولةٍ مغدورةٍ تخلّى عنها الجميع. صحيح أنّ التحوّلات كانت متسارعةً ومؤلمة، لكنها لم تستطع أن تغيّر الكثيرَ في واقعِ مَن صدّقوا أكاذيبَ استسلامٍ مخزٍ يدفع الفلسطينيون وحدهم ثمنَه حتّى أيامنا. لذلك ربّما كان تطوّر الموقف السياسيّ للجبهة الشعبيّة مناهضًا لكلّ الأنظمة العربيّة...إلّا مِن تحالفاتٍ لا تصمد، كانت في معظمها تستهدف حمايةَ بعض المخيّمات في الأردن وسوريا ولبنان.

الآن، وبعد مرور ما يربو على الخمسين عامًا على تأسيس الجبهة الشعبيّة، وأكثر من ستّين عامًا على تأسيس حركة القوميين العرب، يبدو انتصارُ ما بعد الكولونياليّة في صيغتها الجديدة كأنّه إعادةُ إنتاجٍ للحلفاء القدامى من قادة الرجعيّة العربيّة لكي يتقدّموا سطحَ المشهد. وهكذا حلَّ نموذجُ الدولة الرجعيّة، الذي سرعان ما أعاد إنتاجَ الأبويّة والطوطميّة، لتتعزّز في النهاية تلك التصوّراتُ الاستشراقيّةُ القديمة حول "دوجمائيّة" الفكر الإسلاميّ عمومًا والعربيّ خصوصًا و"رجعيّتهما." وقد عمدت الأنظمةُ الفاقدةُ الشعبيّة إلى تعزيز بقائها عبر تكريس أدوات التجهيل: بالمزيد من تقديس الماضي، ومن ثم إضفاء المزيد من الرواقيّة على الناطقين به عبر تعزيز مكانتهم الاجتماعيّة. وهذا طبعًا لا ينفي وقوعَ الحركات الثوريّة في أسر دوجمائيّة نظريّة انتهت إلى المزيد من الانقسامات والتردّي.

وقد أشار الحكيم جورج حبش، في غير موضع، إلى أنّ سياسة الحكومات العربيّة انتهت إلى تآكل مفهوم الأمن القوميّ العربيّ جملةً. وحذّر من أنّ الاعتماد على التحالفات القديمة ذاتِ الطابع الاستعماريّ لن يجدي في تجديد مفهوم الأمن القوميّ. لذلك تمسّك حتى النهاية بدعوته التي لم تفتر: "ثوروا فلن تخسروا سوى القيدِ والخيمة!"

وبقدر عناية حبش بتجديد وظائف الدولة العربيّة، فإنه كان يرى ــــ كغيره من القوميين العرب ــــ أنّ ذلك لن يتحقّق قبل تحرير الأرض من العصابات الصهيونيّة.

لقد امتلكت الدولةُ الريعيّة، تحديدًا، فوائضَ ماليّةً شديدةَ السخاء. لكنّ تلك الفوائض لم تمثّل أدواتِ حمايةٍ بقدر تحوّلها إلى أداة من أدوات القضاء على الثورة العربيّة وتقليمِ أظفارها. وربما بسبّبٍ من تلك الصورة السوداويّة التي انتهت إليها الدولةُ العربيّة، لم يعد هناك من يملك رفاهيّةَ الاختلاف مع عشرات المفكّرين الذين وصفوا المسوِّغات التي وضعها زكي الأرسوزي ورفاقُه للدولة القوميّة بالكثير من الإقصائية والانغلاق، ولاسيّما في فهمها للآخر؛ وهذا ما يتجلّى في تكريس فكرة "الرحِمانيّة" (المنتهية إلى الرحِم الواحدة)، ثم فكرة قبْليّة الأمّة (أو أسبقيّة خلقِها) على الأفراد أنفسهم، ثم تحوُّلها إلى معنًى مطلق يتجاوز فكرة الزمن، الأمرُ الذي يدفعها في النهاية إلى أن ترسف تحت أغلال المثاليّة. وفي المقابل فإنّ الحركات الثوريّة، وعلى رأسها الجبهةُ الشعبيّة لتحرير فلسطين، لم تولِ تلك الخلافاتِ النظريّةَ أدنى اهتماماتها.

 لقد صدق هؤلاء الثوار قائدهم الحكيم عندما ردد مقولة ماوتسي تونج: "الثورة في فوهة بندقيّة."

القاهرة

محمود قرني

كاتب وشاعر مصريّ. من إصداراته: حمامات الإنشاد (1996) - خيول علي قطيفة البيت (1998) - الشيطان في حقل التوت (2003) - لعنات مشرقيّة (2012).