جورج حبش: السياسيّ الذي مات واقفًا مع حلمه (ملفّ)
26-01-2017

 

 

انطوت شخصيّةُ جورج حبش على صورة السياسيّ الإيمانيّ الذي يتمسّك بالقضيّة التي آمن بها، رافضًا المداورةَ والمناورةَ وأنصافَ الحلول. وتوزّع ما يؤمن به على بعدين:

ــــ الدفاع عن الحقّ الفلسطينيّ، الذي لا يَقْبل التقسيطَ والتجزئة.

ــــ والالتزام بالقوميّة العربيّة؛ إذ لا أفقَ لفلسطين بلا قوميّين عرب ينصرونها، ولا معنى لـ"قوميّ عربيّ" لا يدرك دلالاتِ الدفاع عن فلسطين.

كان حبش فلسطينيًّا بقدْرِ ما كان عربيًّا، ثابتًا في إخلاصه الإيمانيّ لفلسطينيّته وعروبته معًا. ولهذا بدأ قوميًّا عربيًّا، مراجعُه: ساطع الحصري، وقسطنطين زريق، والتاريخُ العربيّ الذي صحا غيرَ مرة وسقط في السبات مراتٍ كثيرة.

في سنواته الأخيرة راح يتطلّع إلى"عمل ثقافيّ عربيّ موحّد"؛ عملٍ يقرأ الحاضرَ والماضي وينظر إلى المستقبل، ويُسهم فيه لبنانيون ومصريون وأردنيون ومغاربة وفلسطينيون وغيرُهم. ولم يكن ذلك الطموحُ ليثير استغرابَه، وإنْ أثار استغرابَ كثيرين (لكون القوى القادرة على إيقاظ الوعي القوميّ كانت تحتاج ــــ هي نفسُها ــــ إلى مَن يوقظها ويدفعها!). فإيمانُه المتفائل أخذ شكلَ العادة، وغدا جزءًا لا يتجزّأ من كيانه. كما أنّه آمن إيمانًا عميقًا بدور الثقافة والمثقفين (كان يردّد أنّ "كلّ شيء سقط ولم تبقَ إلّا الثقافة العربيّة"). وإذا كان في إيمانه الأوّل يستأنف تقليدًا فلسطينيًّا جسّده أناسٌ أمثالُ جبرا إبراهيم جبرا وعزّة دروزة وعزّ الدين القسّام، فإنّ ما كان يبدو قريبًا من الأحجية هو إيمانُه بدور الثقافة والمثقفين. ولعلّ إيمانَه بدور المثقّفين هو ما جعله يعتقد، بجدّيّةٍ عاليةٍ، أنّ الحوارَ معهم واجبٌ نضاليّ، وأنّ التعاملَ معهم باحترامٍ وتقديرٍ بداهةٌ لا تختلف كثيرًا عن "بداهة الحقّ المنتصر" ما دامت المسافةُ بين الثقافة الحقّة والفعل السياسيّ الصائب صغيرةً... بل قابلةً للإلغاء.

كان في احتفال جورج حبش بالثقافة فعلٌ رومانسيٌّ، وهو الذي مارس السياسةَ أيضًا بشكلٍ "رومانسيّ" نوعًا ما: يساوي بين الحاضر والمستقبل، ويستولد من "أسطورة الأمل" انتصارَ الحاضر والمستقبل معًا، ويختصر الفعلَ السياسيّ في إرادة الإنسان المقاتلة. ولعلّ هذه "الفلسفة العفويّة،" القائمة على ثنائيّة الشر المهزوم/والخير المنتصر، هي التي أقنعتْه بالإيمان بدور المثقفين كما لو كانوا كيانًا متجانسًا متشبّعًا بالخير والجمال وبعيدًا عن الحسابات اليوميّة.

وإذا كان في الفلسفة الرومانسيّة ما يقول إنّ اندفاع الإنسان وراء الجميل يجعله جميلًا بدوره، فقد كان في فلسفة جورج حبش ــــ وهو المثقف النزيه الذي لا يحسن المناورات ــــ ما يقول إنّ إيمانَ الإنسان العميق بالحقّ والقيم الفاضلة يجعله قادرًا على نقلها إلى جميع البشر... باستثناء مَن يتساهل بالحق الفلسطينيّ ولا يرى في القوميّة العربيّة بداهةً منتصرة.

وواقع الأمر أنّ حبش، وهو السياسيّ الذي عهد إلى ذاته الدفاعَ عن المضطهَدين، كان مشدودًا إلى أمرين: الأول يقول إنّ على الإنسان المضطهَد ألّا يتخلّى عن التفاؤل، وإلّا سار إلى موته؛ ويرتبط الثاني بمبدأ "الرهان" الذي لا فعلَ كفاحيًّا من دونه، على اعتبار أنّ الذي يراهن ــــ مقاتلًا ــــ على انتصار قضيّته ينتصر في النهاية أو بعد حين.

الجديرُ ذكرُه، هنا، أنّ "الحكيم،" الذي كان يقدِّر غسّان كنفاني تقديرًا لا مزيد عليه، كان يأخذ بتصورٍ للرهان مغايرٍ لتصوّره. فإذا كان غسّان يقول إنّ الحق فينا ولا نذهب إليه، فقد كان في سلوك "الحكيم" ما يقول إنّ الإنسان يذهب إلى الحقّ ليدافع عنه، لا فرق أكان ماثلًا في معركة قريبة أمْ في أرض فلسطينيّة وراء الخنادق والحدود.

كان جورج حبش يتّكئ على تصوّر "الحقّ" الذي استولد منه ثباتَه في سنواته الأخيرة، واعتكز عليه حين خانتْه "عافيتُه،" واستمدّ منه تفاؤلَه ورهانَه الكريمَ على الأقدار والبشر. في سنواته الأخيرة كان إذا تحدّث عن الجامعة الأمريكيّة في بيروت، وعن "حركة القوميين العرب،" ونشرة الثأر، وغير ذلك، يبدو تاريخًا تجسّد في رجل، "مكتبةً" كثيرةَ الكتب واسعةَ الصفحات، تريد أن ترشد وتقدّمَ النصيحة، وأن تبوحَ بأشياء كثيرةٍ لا توجد في الكتب.

وكان في بوحه واسعَ المرارة، مختنقَ الكلمات. قال وهو يبوح مرّةً:

"حين كنتُ شابًّا اعتقدتُ أنّني على أسوار النصر. أمّا في زمن الشيخوخة فاضطرب كلُّ شيء وامتدّت أمامنا صحراءُ واسعةٌ قاسية. ولكنّنا، رغم ذلك، سننتصر!"

لا أدري إنْ جاءت جملتُه الأخيرة من إيمانه الذي لا يميد، أمْ من "ضرورات القيادة" التي تخصِّص للحقيقة زمنًا وتترك في ثنايا الروح بوحًا مقتصدًا له طعمُ الملح.

"حين يُدفن عجوز تُدفن معه مكتبةٌ،" يقول بعضُ الأفارقة. وما يُدفن في التراب تتآكل صفحاتُه، وتذوب حروفُه، وتنطوي معه أسرارٌ بقيتْ في ضمير الغيب. ولهذا بَدَتْ مذكّراتُ جورج حبش، العصيّةُ على الكتابة والنشر معًا، حكايةً بين حكايات، صدرتْ عن اقتراحات متعدّدة، وأخذتْ صيغًا مختلفةً، وظهرتْ مبتورةً، أو لم تظهر كلُّها بعد؛ فلم يكن لدى "الحكيم" مجالٌ يتيح له حريّةَ الحركة أو القول الكامليْن.

ربما كان حبش من السياسيين الحالمين الذين أرادوا الجمعَ بين السياسة والثقافة والأخلاق والثورةِ الشاملة. والمأساة، أو مأساتُه، أنّه لم يكن ينطلق من "السياق" الذي يتحرّك فيه، بل من إرادته الذاتيّة التي لا تأتلف مع السياق. بقي ما أراده "داخلَه،" وبقي "النصُّ" الذي أراد أن يعيشَه مغتربًا عن السياق، بقدر ما كان حبش غريبًا عن غيره من قادة التنظيمات.

ولئن كان حبش في "تنظيمه" ومع تنظيمه، فإنّ هذا التنظيم نفسَه لم يكن منه أو معه تمامًا.

ولم يكن ذلك "التنظيم" قابلًا للتحقّق على أيّة حال؛ ذلك أنّه كان "جبهةً" تَحتمل اجتهاداتٍ واقتراحاتٍ وممارساتٍ متنوّعة. وكانت "الجبهة" قوميّةَ المنظور، دفعتْها المصادفةُ إلى منظورٍ اقترب من الماركسيّة وابتعد عنها في آن. وواقع الأمر أنّ ما أراده حبش كان "حلمًا سياسيًّا" متنقّلًا، علمًا أنّ الأحلام تستدعي الاستقرار، في حين كان حبش "لاجئًا" مشاكسًا في فترة عربيّة مضطربة تضيق باللاجئين، وتضيق أكثر بمن لا يلبّون معاييرَ الانصياع.

عاش حبش مع مشروعه وقاتل من أجله، ورضي أحيانًا بالمساومة، ثم حمل مشروعَه ومضى، مذكِّرًا بفلسطينيين وبمقاتلين عرب حلموا بمشاريع كبيرة ورحلوا، حال جمال عبد الناصر وساطع الحصري وقسطنطين زريق ووديع حدّاد وغسان كنفاني.

يَذكر المرءُ من جورج حبش، في مرحلته الأخيرة، إنسانًا بشوشًا بطيءَ الحركة، يرهق نفسَه بالكلام والوقوف حين يستقبل مَن يزوره وحين يودّعُه. ذلك أنّ "الحكيم" تعلّم منذ طفولته أنّ احترامَ البشر واجبٌ أخلاقيّ، وتعلّم لاحقًا أنّ من سمات القيادة الحقيقيّة أن يكون القائدُ من الناس ومعهم.

عمّان

فيصل درّاج

ناقد وكاتب وباحث من فلسطين. حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من فرنسا 1974. وعمل في عدة منشورات ومجلّات ثقافيّة فكريّة. نشر عددًا من الكتب، منها: ذاكرة المغلوبين، دلالات العلاقة الروائية، الرواية وتأويل التاريخ، نظرية الرواية والرواية العربيّة، الحداثة المتقهقرة. بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينيّة.