جورج حبش: عنوان للنضال أبدَ الدهر! (ملفّ)
26-01-2017

 

بدأت الثورةُ الفلسطينيّة على عصابات الاحتلال الصهيونيّ من تلك الأيام التي كان فيها الحلمُ صنوًا للمقاومة، حين كانت الجبهةُ الشعبيّة لتحرير فلسطين ملتقى ثوّار العالم: من أدنى الكوكب في اليابان حتى أقصاه في فنزويلا، من كوزو أوكاموتو إلى كارلوس ومئاتٍ غيرِهما، مع آلافِ الفلسطينيين، يحملون السلاحَ دفاعًا عن القيم الإنسانيّة المهدورة على عتبات الكيان الصهيونيّ. تلك الأيّام الكبيرة كانت زمنَ جورج حبش، الطبيبِ العربيِّ الجَسور، محرِّضِ المستضعَفين، بحكمتِه الثوريّة، على ما فاتهم من فروض الكفاح ونوافلِ الحريّة.

 

وجهُ فلسطين المقاتل

كان جورج حبش على موعد دقيق مع القدر. فبقدر ما تمثّله النكبةُ من آلامٍ مبرِّحةٍ على معاصريها، كانت القضيّة الفلسطينيّة في تلك الفترة الزمنيّة بالتحديد في حاجةٍ مُلحِّةٍ إلى قائد بمواصفات "الحكيم" النضاليّة الفذّة؛ قائدٍ يُرسي قواعدَ كفاحيّةً مؤسِّسةً لنضالٍ فلسطينيّ سيطول في مواجهة: آلةِ قمع عسكريّةٍ إسرائيليّةٍ متطوّرة، ودعمٍ غربيٍّ لامحدود، و"دورٍ" عربيّ في أغلب الأحيان متخاذلٍ عن نصرة الأشقّاء. دورُ الحكيم ربّما تختصره مقولتُه الشهيرة "السلطة السياسيّة تنبع من فوهات البنادق"؛ فإنْ لم تكن البندقيّة خيارَ شعبٍ يرزح تحت وطأة احتلال سرطانيّ يلتهم الأرضَ ويزيّف التاريخ، فما الحاجة إليها إذن؟

بدا الحكيم، منذ بداياته النضاليّة أثناء دراسته الطبَّ في الجامعة الأمريكيّة في بيروت، منذورًا لدور كبير في الثورة الفلسطينيّة. وقد بدأ هذا الدور عقب نكبة العام 1948 بالمساهمة في تأسيس "كتائب الفداء العربيّ،" والانتماءِ إلى "جمعيّة العروة الوثقى،" والإسهامِ مع بعض رفاقه في تأسيس "حركة القوميين العرب." ثمّ تجاوز الحكيمُ ذلك إلى آفاقٍ أكثر جذريّةً في مسألة مقاومة الاحتلال الصهيونيّ، فكانت النقلة العبقريّة ـــ إثر هزيمة العام 1967 ــــ المتمثّلة في تأسيس تنظيم ثوريّ، هو الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، يَربط حتميّةَ تحرير الأرض المحتلّة بعدالة كفاح الإنسان من الاستعباد الرأسماليّ. وقد جسّدت "الجبهة" هذا النموذجَ الكفاحيّ، وغيّرتْ من آليّات النضال الفلسطينيّ بعمليّات عنف ثوريّ نوعيّة؛ ما جعل دولةَ الاحتلال وداعميها من قوى الاستعمار القديم يرتعدون هلعًا من تلك القدرة الفائقة على تحويل قضيّة شعبٍ كان منسيًّا آنذاك إلى قضيّة عالميّة.

 

"مانيفستو" التحرير

آمن جورج حبش بـ"الثورة" بمعناها الأبقى في عمق الفكرة وجذريّة النضال. وأدرك مبكّرًا أنّ فلسطين لن تتحرّر عن طريق الحكومات العربيّة، بل إنّ ذلك مرهون بوجود حركات كفاح شعبيّة مسلّحة مستقلّة في قرارها عن العواصم العربيّة. والحقّ أنّ عمقَ تلك الفكرة يظهر جليًّا في وقتنا الراهن، بسبب التطبيع المعلن أو الخفيّ الذي تمارسه حكوماتٌ عربيّةٌ عديدةٌ مع دولة الاحتلال، فيما يُدْمي القلبَ أنّ حركات الكفاح الشعبيّة المخوّلةَ الاضطلاعَ بعمليّة تحرير الأرض تكاد تندثر؛ وإنْ وُجدتْ فهي بلا فاعليّة تُذكر في زمن عربيّ بالغ التردّي والانحطاط.

من النكبة حتى الخروج من بيروت في أوائل الثمانينيات، مرورًا بهزيمة 1967 والخروجِ من الأردن في العام 1970، عاصر "الحكيم" العديدَ من الأحداث والانكسارات الجسام، واستطاع التعاملَ مع الانعطافات السياسيّة الحادّة بمرونة قائدٍ محنّك، من دون التخلّي عن الثوابت الفلسطينيّة، التي تقضي بحتميّة تحرير فلسطين "من النهر إلى البحر." وهذا ما تبدّى في اختياره الذهابَ إلى دمشق لا تونس، عقب الخروج من بيروت سنة 1982، وذلك بسبب إيمانه بوجوب انطلاق قوى المقاومة من "دول الطوق" ضدّ العدوّ الصهيونيّ.

يُحسب للحكيم ترسيخُ الإطار النظريّ، الذي تكلّل سياسيًّا وتنظيميًّا في الجبهة الشعبيّة. وتمثّل هذا الإطارُ النظريّ في: 1) اعتبار الاحتلال جزءًا من مخطَّطٍ للهيمنة على الأراضي العربيّة؛ 2) اعتبار النُّظُم الرجعيّة العربيّة الحاكمة حجرَ عثرةٍ في طريق تحرير الأرض السليبة؛ 3) الربط بين الماركسيّة والعروبة ضمن برنامج حركة تحرر وطنيّ فلسطينيّة ذاتِ أبعادٍ أمميّة.

إرث الحكيم الباقي

كان الدرس الأخير للحكيم ديمقراطيًّا بامتياز، وذلك عبر التخلّي عن منصبه في قيادة الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين طواعيةً، فاسحًا الطريقَ أمام جيل جديد في قيادة اليسار الفلسطينيّ، مفارقًا الفكرةَ العربيّةَ المقيتة في التمسّك بالمناصب حتى آخر العمر، وفي رفض تداول المناصب... إلّا بالاغتيال أو العزل!

تفتّح وعيُ جيلي منتصفَ التسعينيّات على سقوط مدوٍّ للمقولات الكبرى في عالم تتسيّده أمريكا راعيةُ "إسرائيل" الأولى في عالمٍ أعرج تتمدد فيها الإمبريالياتُ كالطاعون، وتجرح كبرياءنا القوميَّ اتفاقيّةُ أوسلو، عقب انتفاضةٍ مجيدةٍ سلاحُها الحجر في مواجهة المجنزرات. كان تراثُ الجبهة الشعبيّة حينها، وسيرةُ الحكيم ورفيقِه الشهيد وديع حدّاد، وكتاباتُ الشهيد غسّان كنفاني، ملاذَنا ضدّ السقوط في هوّة عميقة من اليأس، إثر خذلان ممتدّ من حينها إلى الوقت الراهن. وربما كان هذا التأثير، الذي يبدو لي عميقًا الآن، سببًا جوهريًّا في انتمائي اللامحدود وإيماني بحتميّة تحرير الأرض المحتلّة برغم التنازلات الفادحة والتراجع الكبير الذي شهدته القضيّة على مدى العقود الأخيرة. وربّما لذلك سيظلّ جورج حبش عنوانًا للنضال الفلسطينيّ أبدَ الدهر، ونموذجًا لنضال الإنسان في كلّ مكان.

شكرًا أيّها الحكيم على ما منحتنا إيّاه من حلم كبير نحيا في سبيله!

القاهرة

حسين البدري

كاتب وروائيّ من مصر. صدر له: حزن البلاد (2010)، ورهانات خاسرة (2013)، وصلوات سبع إلى روح صديقي الميّت (2014)