حديقة الأنغام الغجريّة
18-07-2017

 

 

لا أذكرُ نفسي إلّا وأنا أرافق والدتي في زياراتها له، وأحظى بغنجِه ودلالِه وهداياه من المنحوتات الصغيرة المذهلة. لطالما ذكّرني بجَدّ "هايدي" (الشخصيّة الكرتونيّة الشهيرة). وكم كنتُ أتباهى أمام صديقاتي بأرانبي وأحصنتي وكلابي الخشبيّة، المنحوتةِ بدقّةٍ وإتقان.

عندما بلغتُ المراهقة، صرتُ أذهبُ إليه وحيدةً وأبقى عنده طوال اليوم. كان بيته دافئًا أليفًا، يحوي في أحد جدارنه السميكة مكتبةً غنيّةً منوّعة، تعرّفتُ من خلالها إلى مارغريت ميتشل(1) ونيكوس كازنتزاكِس وإيتماتوف ومكسيم غوركي وأرنست همنغواي ونجيب محفوظ وغيرهم. كانت صورةُ جدّتي تتربّع فوق "الشومينيه"(2) بالأسود والأبيض، يزيّن رأسَها تاجٌ من الأزهار البريّة، مع التفاتةٍ بسيطةٍ تُظهر شعرَها المعقوصَ بعفويّة، وخصلاتِه المتدرّجةَ الظلال، من الأسود إلى الرماديّ، وصولًا إلى خدّها المشبعِ بالضوء.

في ذلك اليوم، هطلتِ الأمطارُ بشكلٍ جنونيّ، ومنعتني من العودة إلى المدينة. لم أحزنْ؛ فقضاء الوقت مع هذا الرجل كان أمنيةً حقيقيّةً بالنسبة إليّ. وقد عبَّرَ، هو كذلك، عن سروره، ووعدني بعشاء فاخرٍ: جبن وعسل وتين مجفّف وخبز تنّور وشنكليش، ونار عظيمة وجمر، ونبيذ من صنع يديه. لذا اتّصلتُ بوالدتي وأخبرتها: "سأبقى مع جَدّي اليوم."

***

قضيتُ ليلةً ممتعةً بفضل النبيذ، وقصصِ الحبّ، وذكرياتِه المحمَّلةِ بالطرائف والأحزان. أسرّ لي بأنّه مارس الجنسَ، لأوّل مرّة، مع امرأةٍ فرنسيّةٍ جمعتْه المصادفاتُ بها. وعندما سألتُه ببراءة عن حبّه لتلك المرأة، قال:

ــــ لم يكن بيننا حبّ.

لم أستوعب الفكرة. فسألتُه:

ــــ هل كانت عاهرة؟

ــــ وهل يجب أن تكون المرأةُ عاهرةً حتّى تمارس الجنسَ مع شخصٍ ما؟

شعرتُ أنّه يُعنّفني. فأجبته بعصبيّة:

ــــ من دون حبّ؟! طبعًا تكون عاهرة.

بدا مصدومًا، فسألني بالأسلوب السابق نفسه:

ــــ من أين جئتِ بهذه الأفكار؟

ــــ من الحياة... من الناس... من المجتمع... من الكتب... من الأخلاق.

***

توقّفَ عن الكلام. وبدا أنّه اتّخذ قرارًا بالصمت. كانت هذه المرَّة الأولى التي أخوض معه فيها نقاشًا من هذا النوع. كنتُ، سابقًا، آتي إلى هنا برفقة والدتي، فنقضي الوقت بمساعدته في صناعة صابون الغار أو جني الزيتون أو جمع الحطب. وفي أوقات الفراغ، اعتدتُ تمضية الوقت بالقراءة والاستمتاع بدفء المكان. كنتُ صغيرةً، وكانت الحياة بالنسبة إليّ مجموعةً من المراحل الواضحةِ المعالمِ والحدود. كذلك الأفكار ــــ من قيم ومبادئ وعلاقات ونظريّات ــــ كانت مرتّبةً في رأسي، ولكلٍّ منها لونٌ وطعمٌ ورائحة. كنتُ أكتفي بمدّ يدي، وأنا مغمضةُ العينين، وأسحب أيّة فكرةٍ لأواجِهَ بها من يناقشني. وهكذا، في تلك الليلة، فسّرتُ صمتَ جدّي على أنّه هزيمة. وكي أهوّنَ عليه الأمر، قمتُ بحركةٍ استعراضيّة، فشغّلتُ جهاز التسجيل. صدحتْ منه موسيقى جميلة. وبدأتُ أرقص حافيةَ القدمين، وألسنةُ النار تحاورني وترمي بظلالها عليّ. بقي يراقبني بصمت، إلى أن مددتُ له يدي. فنهض بسنواته السبعين وشاركني الرقص. شيئًا فشيئًا، عدنا كما كنّا: جدًّا لطيفًا وحفيدتَه التي تحبّه حتّى الموت. ومع ابتسامته التي عادت لتنير وجهَه، أرخيتُ العنانَ لروحي، وبدأتُ أحلّق وأدور، حتّى نال منّي التعب. ارتميتُ على صدره، فضمّني بقوّة لتتسرّب رائحة "الكلان"(3) إلى رئتيّ، حاملةً معها الكثيرَ من الذكريات التي تربطني بهذا المكان، وبهذا الرجل الغرائبيّ.

***

عندما أقول لصديقاتي إنّ جدّي يعيش في بيتٍ ريفيٍّ ترابيّ، كنّ يظنّنه شخصًا بسيطًا، أمّيًّا، يرعى الأغنام، ويقضي لياليه في البحث عن البراغيث التي تستوطن فراشَه ولحافَه الصوفيّين. أمّا في الواقع فجدّي فنّان، ومثقّف، ورجل دولة، عمل سنواتٍ دبلوماسيًّا في العديد من سفارات البلاد حول العالم، وكان من أصغر الموظّفين الدبلوماسيين سنًّا. وعندما استقرّ في البلاد، شغل عدّةَ مناصب إداريّة مهمّة. وفي أواسط الخمسين من عمره، اختار الانزواءَ في بيته الجبليّ الذي بناه على طريقة البيوت الطينيّة القديمة، مع كامل الخدمات الحضاريّة من ماءٍ وكهرباء وهاتف ومنتفعات. وعاش مع جدّتي، التي توفّيتْ بعد سنوات قليلة، نتيجةً لخطأ طبّيّ سخيف، فأكمل حياته متفرّغًا لممارسة هوايته في النحت والقراءة والعمل في الأرض.

يقول جدّي إنّ أجمل النساء اللواتي قابلهنّ كانت سيلفا، جدّتي الغجريّة، ذاتَ الأصل المولدافيّ. ومولدافيا هي موطن الممثّلة الفاتنة سفيتلانا توما، بطلة الفيلم الشهير: الغجر يصعدون إلى السماء. وكانت جدّتي تشبهها فعلًا، حتّى لتكاد تكون نسخةً عنها. وأحسد نفسي اليوم، إذ ورثتُ عنها طبيعةَ شعرها وقوامها وتقاسيم وجهها الغجريّ. كانت سيلفا صغيرةً، لم تتجاوز العشرين، عندما التقيا في مهرجان للموسيقى الشعبيّة في بوخارست. قال لي: "عندما التقتْ عينايَ بعينيها، شعرتُ أنّ سهام كيوبيد(4) قد فعلتْ فعلها." ثمّ أضاف بحزن: "كانت في مثل سنّك تقريبًا عندما التقينا." فضممتُه، وقبّلتُ يديه.

عدنا وجلسنا قرب النار. أعاد إشعالَ غليونه، ومضى مستغرقًا في مراقبة الجمر. قلتُ: "حدّثْني عن جدّتي أكثر." فتمتم كمن يخاطب نفسَه: "أحببتُها بجنون!" وددتُ الخروجَ من مزاج الحديث السابق فسألتُه:

ــــ كيف طلبتَ يدَها للزواج؟

ــــ لم أفعل! بدأ كلّ شيء من تلك النظرة. كنتُ مأخوذًا بها. وتبيّن أنّها قد لاحظتْ نظراتي. وبعد انتهاء الفقرة الغنائيّة التي كانت تشارك فيها، توجّهتْ نحوي، ومدّتْ يدَها قائلةً بكلّ بساطة: "سيلفا. مغنّية، وعازفة غيتار." صافحتُها مرتبكًا وعرّفتُها إلى نفسي. وتبيّن أنّها بانتظار منحةٍ من إحدى الجامعات التركيّة لمتابعة دراستها في علم الاجتماع. عندما عرفتْ أنّني من سوريا، أخذتْ تسألني عن مواقعَ أثريّة، وأقوامٍ وعاداتٍ وتقاليدَ لم أسمع بالكثير منها. شعرتُ بالخجل بسبب جهلي، وتذرّعتُ بدراستي الجامعيّة، وباختصاصي في الاقتصاد والسياسة. لكنّ الفنّ ردم الهوّةَ بيننا، فتحدّثنا عن النحت والموسيقى والرسم...

قاطعته: "جدّو، حكيلي عن الحبّ والغرام اللي صار بينك وبين التيتا. أيمتى بستها أوّل بوسة؟ أيمتى ضمّيتها أوّل ضمّة؟ يعني من هيدا الكلام اللي بيجي منّو بالفحص." انفجر ضاحكًا. وخلال ثوانٍ، تغيّر مزاجُه تمامًا وتابع الحديث:

ــــ لم أفهم رمزيَّة الوردة إلى أن رأيتُها وهي تداعب بَتلاتِها بلطف. لم أقع تحت سطوة العطر إلى أن شممتُ رائحةَ شعرها الغجريّ. لم أعِ معنى الرجولة إلى أن بكيتُ في حضنها. ولم أقابل الأنوثةَ إلّا حين راقبتُها وهي تمشي عاريةً في غرفتي، كأنْ لا أحد يراها.

ــــ متى قلتَ لها أحبّكِ؟

سألتُه عندما شعرتُ أنّه سيتوقّف عن الكلام. فقال:

ــــ لا أذكر. لكنّني لم أكفَّ عن قولها مذ قلتُها أوّلَ مرّة. واليوم، عندما أزور قبرها، أتمتم بها كأنّها كلمةٌ من القرآن!

ثمّ حدّثني عن السنوات التي افترقا فيها، حين ذهبتْ لمتابعة دراستها في تركيا. ثمّ كيف التقيا، ذاتَ مرّة، في سوريا؛ وكيف تنقّلا بين المدن والمواقع الأثريّة التي خلبتْ لبَّها:

ــــ في تلك الزيارة قرّرتْ سيلفا أن تعيش في هذه البلاد. كانت تحدّق في الأفق البعيد شاردةً، حين سألتني إن كنتُ أقبلُ بها زوجةً.

لم يكن جدّي شرقيَّ التفكير، أو رجلًا معقّدًا، لكنّ سؤالها جعله يتعرّق كما قال لي. وعندما سألتُه بلهفة: "وماذا حصل بعد ذلك؟" أشار إلى الصورة فوق الشومينيه قائلًا: "صنعتُ لها تاجًا وخاتمًا من سُويقات الوزّال(5) وزهرِهِ. ثمّ التقطتُ لها هذه الصورة. وهكذا، تزوجنا بعد أيّام." سألتُه: "ألم تلبس التيتا فستانًا أبيض؟ ألم تكن هناك حفلةً؟" فأجابني بجملةٍ لا تزال ترنّ في أذنيّ كالجرس:

ــــ لم يكن حُبّنا ضعيفًا إلى هذه الدرجة!

***

توفيّتْ جدّتي وأنا صغيرة. أذكرها كحلم مشوّشٍ لا ترابطَ بين أحداثه. في تلك الليلة، عرفتُ أنّها هي مَن اقترح بناءَ البيت في هذا الموقع، وهي مَن اختار أسلوبَ بنائه منسجمًا مع البيئة المحيطة به. كنتُ أعرف معظم هذه الأحداث، لكن بخطوطها العريضة فقط. لذا استمتعتُ بالتفاصيل.

كانت سيلفا تملك صوتًا رائعًا، وموهبةً استثنائيّةً في العزف على الغيتار. وكانت شخصيّةً هادئةً، ومُحبّةً للأطفال. أخبرتني أمّي أنّني، حين كنتُ في الثالثة، حطّمتُ غيتارَها الذي ورثتْه عن أبيها، عندما كنتُ أعبثُ به في غفلةٍ عن أعين الجميع: فقد سقطتُ فوقه، ودستُه عدّة مرّات وأنا أحاول النهوض، ما أدّى إلى تحطّم صدره بشكل غير قابل للإصلاح. وكان ردّ فعلها أنْ ضحكتْ من قلبها وهي تراني أتخبّط بين أوتاره وأخشابِه التي جرّحتْ قدميّ. وفي اليوم التالي، حوّلتْه إلى حوضٍ لزراعة الأزهار، وأطلقتْ عليه اسم "حديقة الأنغام الغجريّة." وقد رأيتُ اليوم هذه الحديقة عند مدخل البيت، بعد أن ملأها جدّي اللطيف بالتراب، وزرع فيها عدّة شتلات من الحبق، الذي أحبّ.

لم تُرزقْ سوى بابنة وحيدة ــــ أمّي ــــ ربتها مع جدّي على تقديس الحريّة وحبّ الفنّ والعلم واحترام العقل. وقد درستْ أمّي الموسيقى، متأثّرةً بموهبة أمّها، وتميّزتْ في العزف على آلة الكمان. وهي اليومَ عضوٌ في الفرقة السيمفونيّة الوطنيّة. وتقوم، إلى جانب العزف، بتأليف بعض المقطوعات الموسيقيّة ذات الروح الغجريّة، فتعتمدها الفرقةُ ذاتها في أعظم المسارح، وتنال عليها الكثيرَ من الاستحسان والثناء.

لم تستمرّ علاقةُ والدتي بأبي (المايسترو الذي يقود الفرقة) سوى عامين؛ فقد افترقا وهي حاملٌ بي، وجئتُ إلى هذا العالم لأعيدَ سيرةَ جدّتي وأمّي، وأدرسَ الموسيقى، وأعشقَ كلَّ ما هو غجريّ، ولأتشبّهَ بالغجر في كلّ شيء: من ألوان ثيابي واكسسواراتي، إلى ضحكتي، فإلى حبّي للحياة والفرح وكلِّ ما يُبهج النفس.

***

كنتُ أراقب وجه جدّي، المصطبغ بلون النار، وأنا أستعيد في ذاكرتي هذه الأحداثَ، حين سألني فجأةً:

ــــ وأنتِ، ألن تحكي لي شيئًا عن الحب؟

ــــ لا يوجد ما أحكيه.

ــــ إذًا لستِ حفيدتي التي أظنّ.

ــــ !

ــــ هيّا قولي. لمن يدقّ هذا القلب؟

ــــ ألا يكفي أنّه يدقّ؟

ــــ بلا لفّ ودوران.

ــــ الشباب تافهون سخفاء. لا أريد أن أحبَّ أحدًا منهم. أريد رجلًا كبيرًا مثلك: رومانسيًّا، مثقّفًا، جميلًا، محترمًا، موهوبًا، يحبّ الموسيقى، ويعشق الفنّ.

ــــ إذًا ستبقين بلا حبّ، لا لندرةِ هذا النموذج، بل لوضعك الشروطَ المسبَّقة. ثمّ، مَن قال لكِ إنّني أملك هذه المواصفات؟ اعلمي أنّ كلّ شيء في هذه الدنيا نسبيّ؛ فما تجدينه أنتِ رومانسيًّا قد يعتبره غيرُكِ تفاهةً وقلّةَ رجولة. كما أنّ معايير الجمال متبدّلة متغيّرة عند الناس. ومثل ذلك الكثير من الأحكام، وحتّى المبادئ والمعتقدات. والصواب اليوم، بالنسبة إليكِ، قد لا يكون كذلك في الغد.

شعرتُ بالضياع فسألته: "إذًا ما فائدة المبادئ؟ وبماذا سنؤمن؟ وفي سبيل ماذا سنموت أو نعيش؟"

أخذ مجّةً طويلةً من غليونه، ونفث دخانَه. فاختفى وجهُه للحظات، ثمّ ظهر وقد أغمض عينيه. شعرتُ بالغضب. فقاطعتُ تأمّلاته: "لماذ لا تجيب؟" قال:

ــــ أحاول تذكّر مَنْ صاحب هذا القول: "لن أموت في سبيل مبادئي لأنّني، ببساطةٍ، قد أكون على خطأ."

وأضاف: "علّمتني الحياةُ أنْ لا شيء يستحقّ الموت. الحياة معجزة، ومن الغباء التفريطُ بها من أجل أيّ شيء." توقّف لبرهة، ثمّ استدرك: "أتعلمين... هذا الحديث صعب علينا كليْنا. لنعدْ إلى حديث الحبّ؛ فهو الوحيد الجدير بالاهتمام والعيش."

ارتحتُ لتوقّفه عن الكلام في هذا الموضوع. وخوفًا من العودة إلى المزاج السابق، سارعتُ إلى سؤاله عن قصة الشجرة التي زَرَعَتْها جدّتي ودفُنتْ قربها في ما بعد.

تقول الحكاية إنّ جدّتي كانت تحبّ شجرَ الحور. لذا، عندما وجدتْ ــــ في زيارتها الأولى إلى هذا المكان ـــ إحدى هاته الشجيْرات، عند ضفّة الساقية في أسفل الوادي، اقتلعتْها من جذورها وحملتْها إلى أعلى الجبل، حيث نبعُ ماءٍ يعتبره أهالي القريّة مقدّسًا بسبب تفجّره فوق قمّة الجبل قرب أحد المزارات. زرعتْ جدّتي الشجيرةَ قرب النبع، وعادت بعد ثلاث سنوات لتجدها قد عانقت السماء، فاعتبرتْها ـــ كما أخبرَت جدّي ـــ إشارةً تؤكّد صحّةَ خيارها بالعيش في هذا المكان. بعد انتهائها من الدراسة ونيلها ماجستيرًا في علم الاجتماع، عاشت مع جدّي متنقّلةً بين مدن العالم؛ تعمل وتدرّس وتكتب الأبحاث والمقالات في الصحف والمجلّات، وتشارك في الغناء والعزف مع بعض الفرق الموسيقيّة الصغيرة. إلى أن رُزقا بأمّي، فانتقلوا، بعد سنوات قليلة، إلى دمشق بناءً على رغبة جدّي، وبعدها، إلى مسقط رأسه هنا، بعد استقالته من العمل، حيث عاشوا أجمل سنوات حياتهم كما تؤكّد والدتي طوال الوقت.

***

سمعتُ قصّة شجرة الحور سابقًا عدّة مرّات. وعندما سألتُه عن مصير تلك الشجرة، قال مشيرًا إلى الغرفة الأخرى: "إنّها هناك." ثمّ سألني: "ألا تتذكّرين الصندوق الخشبيّ الكبير الذي كنتِ تختبئين فيه؟" شعرتُ كأنّ أحدَهم سلّط بقعةَ ضوءٍ على جزء من حياتي الماضية. وتذكّرتُ كيف كنتُ أسأله، وأنا صغيرة، عن جدّتي التي اختفت من حياتنا فجأةً، فيقول: "صارت شجرة!" وتذكّرتُ أيضًا كيف كنتُ أهربُ وأختبئ داخل ذلك الصندوق وأُحكم غطاءه عليّ، وكيف كان يجدني، ويَطْرق فوق غطائه عدّةَ طرقات، فأخرج صارخةً ملء صوتي، فيضحك، ثمّ ينصحني همسًا، بتواطئه المعهود: "لا تخرجي فورًا. هكذا تصبح اللعبة أحلى."

"وما علاقة الصندوق بالشجرة؟" سألتُه باستغراب. فأجابني: "الصندوق هو الشجرة. كذلك سريري الذي ستنامين عليه هذه الليلة!"

عرفتُ أنّه قطع الشجرةَ بعد وفاة جدّتي بسنوات، وطلب من النجّار أن يصنع له من خشبها سريرًا وصندوقًا كبيرًا بغطاء، وما تبقّى منها استخدمه في صناعة أحواضٍ لزراعة الأزهار والنعناع والبقدونس وشتول البندورة وغيرها من الخضار.

كانت تلك آخرَ سهرةٍ جمعتْني بجدّي قبل سفري إلى فرنسا لمتابعة دراسة الموسيقى، سيرًا على خُطى جدّتي وأمّي، وأبي "المايسترو" الذي ساعدني كثيرًا في هذه المسألة.

***

أخذتني الحياةُ والدراسةُ في بلاد الغرب. وفهمتُ وجهات نظر جَدّي بطريقة أفضل. وتذكّرتُه في الكثير من المواقف. وعرفتُ أنّ الحياة ليست بتلك المحدوديّة التي كنتُ أراها فيها. لكنّها، بالنسبة إلى المرأة، ليست بتلك البساطة التي كان يتحدّث عنها أيضًا. اختلفتُ معه في الكثير من الأمور، وتعلّمتُ معنى النقاش والاختلاف وقيمتهما. وكان له الفضلُ في فتح نوافذ عقلي على الآخَر المختلِف عنّي، كي أعرف نفسي أكثر بالدرجة الأولى، وكي أقدّر أفكارَ الآخرين وأفهمها أيضًا.

وبقيتُ على تواصلٍ مع أمّي عبر الهاتف. وكنتُ أستضيفها حين تأتي إلى أوروبا من أجل الحفلات الموسيقيّة والأنشطة الفنّيّة المختلفة. وقد استفدتُ من خبراتها وعلاقاتها الاجتماعيّة، كما استفدتُ من علاقات جدّي، الذي أذهلتني محبّةُ أصدقائه واحترامُهم له. ومن بين هؤلاء تعرّفتُ إلى موسيقيٍّ جميل يكبرني بخمسة عشر عامًا، ويتقن العزفَ على آلة الفلوت. أعجبتُ به من النظرة الأولى، ووقع في غرامي ــــ كما قال لاحقًا ــــ "من أوّل ضربة وتر." وكنتُ قد اخترتُ الغيتار آلةً أساسيّةً في دراستي، تأثّرًا بجدّتي، على الرغم من إتقاني العزفَ على عدّة آلات أخرى. بقينا صديقين فترةً من الزمن على الرغم من مشاعرنا التي كنّا نكتمها واحدُنا عن الآخر. إلى أن ذكر في حديثٍ عرضيٍّ أصلَه "الغجريّ،" فشعرتُ بقلبي يهوي بين قدميّ. ومن دون مقدّمات، وجدتُني أطوّقه بذراعيّ، وأطبع قبلةً طويلةً فوق شفتيه جعلته يرتبك لبرهة، قبل أن يستوعب الأمر، ويشاركَني مشاعري بقبلةٍ أخرى أطولَ وأعمقَ وأحنّ.

عندما نقلتُ الخبرَ إلى أمّي، قالت ضاحكةً: "إنّها لعنةُ الدم." وعرفتُ أنّ جدّي فرح للخبر، وقال: "كنت واثقًا بأنّ قلبها لن يرقص إلّا على نغمات الغجر."

زرتُ سوريا عدّة مرّات بصحبة حبيبي. وقضينا الكثير من الوقت مع جدّي في بيته الجميل. وشربنا نخبَ سيلفا والغجر، وموسيقاهم ودمِهم الذي يسري في عروقي. وفي كلّ زيارة، كنتُ أحزن لأنّني أجدُه في حالٍ أسوأ؛ فجسدُه كان يضعف، وأمراضُ الشيخوخة لا ترحم. مضتِ الأيّام، وتزوّجتُ حبيبي الغجريّ. وصارت زياراتي إلى بلادي أقلَّ عددًا وأقصرَ زمنًا، وصرتُ أسمع أخبارَ مَن أحبّ عبر الهاتف، أو من خلال والدتي التي استمرّت تزورني. وما أسعدَها حين أخبرتُها أنّها ستصبح جدّة، إذ أخذتْ تضحك كالأطفال، وتضمّني وتقبّلني فوق عينيّ. ومن فورها اتّصلت بجدّي ونقلت إليه الخبر السعيد. وأظنّه بكى، لأنها كانت ترجو منه أن يهدأ طوال الحديث.

***

في الأسبوع الأخير من الشهر التاسع من حملي، استيقظتُ فجرًا على رنين الهاتف وعلى صوت أمي تبكي وهي تخبرني أنّ جدّي قد توفّي. كنتُ أتوقّع سماعَ هذا الخبر السيّئ كلَّ يوم بسبب سوء صحّته في الفترة الأخيرة، ولكنني صُدمتُ مع ذلك. وخلال ساعات، كنتُ وزوجي على متن إحدى الطائرات متوجّهيْن إلى سوريا والحزنُ يفطر قلبي. وصلنا عصرًا، وكان الجميع في انتظارنا. ومن فوري دخلتُ البيت لأرى في منتصف الصالون طاولةً كبيرةً، يتمدّد فوقها صندوقٌ خشبيٌّ كبير عرفتُه من النظرة الأوّلى. كنتُ أشهق وأبكي وأنا أتحرّك بخطواتٍ بطيئة: زوجي يسندني من جهة، وأمّي تمسِّد ظهري بحبٍّ طالبةً منّي الهدوء. وبصعوبةٍ اقتربتُ من الصندوق ووضعتُ يدي فوقه، ثمّ انحنيتُ وقبّلتُه، فاجتاحتني رائحةُ الخشب الذي خبِرتُه في طفولتي.

خلال لحظات، صرتُ خارج هذا العالم. كانت حواسّي ومشاعري وقلبي وعقلي وجسدي ملتصقةً بهذا الصندوق العتيق. وعدتُ تلك الطفلة التي كانت تختبئ داخله بانتظار أن يأتي جدُّها ويفتّشَ عنها. وسمعتُ صوتَ أصابعه وهي تطرق الغطاءَ بلطف، وصوتَ ضحكاتي وصرخاتي تتردّد في جنبات المكان، يرافقها صوتُه وهو يقول لي: "... هكذا تصبح اللعبة أحلى."

دون تفكيرٍ وجدتُني أطرق غطاءَ التابوت وسط ذهول الجميع. واختلط بكائي بضحكي فجأةً، حين شعرتُ بالجنين في رحمي يركل هو الآخر طالبًا الخروج.

اللاذقيّة

1- مارغريت ميتشل: كاتبة أمريكيّة (1900 – 1949)، صاحبة رواية ذهب مع الريح التي صدرت عام 1936، وهي الرواية الوحيدة للكاتبة.

2- الشومينيه: تسمّى باللهجة العاميّة في الساحل السوري "الدّفيْ" أو "الدفيّة،" مع تخفيف الدال حتّى تكاد تصبح تاءً.

3- الكلان (Clan): نوع من التبغ الخاصّ بالغليون، له رائحة عطرة يستحبّها الكثيرون.

4- كيوبيد: ابن فينوس، آلهة الحبّ والجمال في الميثيولوجيا الرومانيّة. اشتُهر بحمله للسهم والقوس. كان طفلًا شديد الجمال، وكان سهمُه يصيب البشرَ فيتسبّب في وقوعهم في الحبّ. وكان غالبًا يُصوَّر على هيئة ملاكٍ بجناحيْن.

5- الوزّال: نبات له زهر أصفر ذو رائحة زكيّة. ويسمّى في بعض المناطق باللهجة العاميّة "الحيصل" أو "الحيصد" أو "الشمبوط."

عصام حسن

رسّام كاريكاتير، وكاتب من اللاذقيّة، سوريا. أقام العديد من المعرض في سوريا وشارك في معارض خارجها، له مؤلّفات عديدة، منها: ما قلّ ودلّ وهيك وهيك  (رسوم كاريكاتيريّة)، غيمة الشعر الوردية، وأكره اللون الأحمر (نصوص ورسومات للأطفال)،الحرب ومربّى الفريز،  وحدثينا يا شهرزاد، وعن الحب وفأر الطحين (نصوص وحكايات مختلفة).