حوار مع شادي روحانا: عن متعة الترجمة من الإسبانيّة إلى العربيّة وتحدّياتها
19-06-2016

 

أجرت الحوار: نورا لستر مراد

شاركتْ فيه: بدور حسن

ترجمة: محمد منصور

         

في 15 أيّار/ مايو، يوم النكبة، اجتذب شادي روحانا، المترجمُ الأدبيُّ المقيم في المكسيك، جمعًا من المهتمّين بالأدب إلى مركز خليل سكاكيني الثقافيّ في رام الله. جاءوا لمناقشة رواية خوسيه إميليو باتشيكو، معارك الصحراء (Las batallas en el desierto). وكان شادي قد قدّم عددًا من كتّاب أميركا اللاتينيّة، وترجم أعمالَهم من الإسبانيّة إلى العربيّة، بمن فيهم: رودولفو والش، ويولاندا أوريلمونو، ودافيد ويرتا، وإدواردو غاليانو، وخوسيه إميليو باتشيكو. كما ترجم خطابات "جيش الزاباتيستا للتحرّر الوطنيّ" في مقاطعة تشياباس EZLN (Ejercito Zapatista de Liberacion National) وتصريحاته. لكنّ معارك الصحراء هي أوّل ترجماته لعمل روائيّ.  

وللأمانة، فلئن كنتُ دومًا أدرك أهمّيّة ترجمة الأدب العربيّ إلى لغاتٍ أخرى من أجل إيصال المقاربات العربيّة إلى الوعي العالميّ، إلّا أنّي لم أصرف الكثير من الوقت في التفكير في أهمّيّة ـــــــ وفي سياسات ـــــــ عمليّة الترجمة من اللغات الأخرى إلى العربيّة.

بداعي الفضول، تحدّثتُ إلى شادي، المترجم، وإلى بدور حسن، مديرة ورشة العمل [التي انعقدتْ على هامش معرض فلسطين الدوليّ للكتاب]، وهي معلِّقة سياسيّة ذات معرفة واسعة في الآداب ومدوِّنة بلغات عدّة.

***

نورا لستر مراد:  ما الذي جذبكَ إلى الإسبانيّة، لغتِكَ الرابعة بعد العربيّة والعبريّة والإنكليزيّة؟

شادي روحانا:  بدأتُ بتعلم الإسبانيّة حين كنتُ طالبًا في الجامعة في الولايات المتّحدة. كنتُ أعرف أنّ إحدى حسنات الدراسة في جامعات الولايات المتّحدة هي فرصةُ الدراسة في بلدٍ أجنبيّ. وكنتُ أرغب في زيارة كوبا. لكنّ ذلك كان في عهد بوش الابن، الذي شدّد الحصارَ عليها، فلم أتمكّن من الذهاب عن طريق الجامعة. غير أنّني، في تلك الأثناء، كنتُ أدرس الإسبانيّة على أساتذة من المكسيك وفنزويلا والسالفادور، واكتشفتُ أنّ هناك قارّةً كاملةً كنتُ أجهلها فعلًا؛ لذا فإنّني أثناء دراستي للّغة الجديدة كنتُ أنفتح أيضًا على منطقة أميركا اللاتينيّة، وكان ذلك وقتها أمرًا جديدًا تمامًا بالنسبة إليّ، ومثيرًا للفضول، وجذّابًا. كما لو أنّني عدتُ طفلا بدأ ينمو من جديد.

نورا: هل لتجربة الترجمة، أو انجذابكَ إليها، علاقةٌ بكونك فلسطينيًّا؟

شادي: لست متأكّدًا. صحيح أنّ كثيرًا من الفلسطينيين يتكلّمون عدّةَ لغات؛ يصعب أن تجد فلسطينيًّا يتحدّث العربيّة فقط. جميع معارفي كانوا قد عملوا في الترجمة في وقتٍ من الأوقات، لدى منظّمةٍ غير حكوميّة أو وكالةٍ ما، حين يحتاجون إلى المال. أيضًا، ونظرًا إلى وضع إسرائيل في العالم، فإنّه يُتوقّع منّا دائمًا أن نشرح "الوضع" للآخرين، سواء داخل الوطن أو خارجه ــــ وهذا ما يمكن اعتبارُه نوعًا من "الترجمة." لكنّ ترجمة الأدب شيءٌ آخر، ويتطلّب أوّلًا، وقبل أيّ شيء: مبادرةً ذاتيّة، وتعلّمًا، وحبًّا للأدب، وليس فقط القدرة على شرح عالَمٍ ما لأناسٍ من عالم آخر.

نورا:  كيف تؤثّر معرفتك لهذا العدد من الللغات في عملك في الترجمة من الإسبانيّة إلى العربيّة؟ هل تتوسّط لغاتٍ أخرى؟

شادي: عندما أترجم بين الإسبانيّة والعربيّة أحرص كثيرًا على تجنّب قراءة ترجماتٍ أخرى أو استشارتها (إنكليزيّةً كانت أو عبريّة). إحدى مصائب العوالم الإدبيّة العربيّة والإسبانيّة هي أنّنا ما زلنا نجد ترجماتٍ غير مباشرة، أي تلك التي تمرّ عبر لغةٍ ثالثةٍ أوّلًا (في العادة إنكليزيّة أو فرنسيّة). هذا لم يعد مقبولًا اليوم، إذ هنالك أناس قادرون على العمل بين العربيّة والإسبانيّة من دون الحاجة إلى لغة "وسيطة."

شادي روحانا وبدور حسن

بدور حسن: شادي هو حتمًا واحد من القلائل الذين يترجمون مباشرةً من الإسبانيّة إلى العربيّة. وذلك نادر، ليس فقط بين الفلسطينيين، بل بين العرب بشكل عامّ. لسوء الحظ، فإنّ معظم الروايات المكتوبة باللغة الإسبانيّة والمتوفّرة باللغة العربيّة قد تمّت ترجمتُها عن الإنكليزيّة، أي هي ترجمة عن ترجمة. من المحزن أنّ المعاييرَ الأساسيّة لاختيار الترجمات إلى العربيّة اليوم مرتبطة بالسوق أكثر منها بالنوعيّة؛ وهكذا، فإنّ أيّ كاتبٍ بلغة غير الإنكليزيّة يحقّق مبيعاتٍ عالية، ويحصل على جائزةٍ ما وشهرةٍ في العالم الناطق بالإنكليزيّة، سوف تَسهل ترجمة أعماله إلى العربيّة. لهذا، فإنّ ما نحصلُ عليه بالعربيّة هو انعكاسٌ لما يقرّر ناشرو الولايات المتّحدة وأوروبا، ضمن التيّار السائد، أنّه عملٌ مربح و"ناجح" بما يكفي لترجمته إلى الإنكليزيّة. حتّى أنّ كتّابًا مُبالغًا في أهمّيتهم، وليسوا متميّزين في المشهد الأدبيّ الناطق بالإسبانيّة، ولكنّهم اشتُهروا في الولايات المتّحدة عبر ترجمة (ونشر) أعمالهم هناك، يحظوْن بفرصٍ أكبر للترجمة إلى العربيّة. إيزابيل الليندي، مثلًا، تُعتبر من مشاهير الأدب في الولايات المتّحدة وهي ليست كذلك في موطنها، التشيلي؛ إنّ أعمال الليندي لم تترجمْ إلى العربيّة فحسب، بل تحوّلتْ إلى أعمال دراما في تلفزيونات عربيّة أيضًا. في نهاية المطاف، فإنّ النزر القليل الذي تتوفّر لنا قراءتُه بالعربيّة مرهونٌ باختيارات ناشرين أجانب. أناس مثل شادي يمتلكون مشروعًا لكسر هذه القيود. لكنْ إنْ لم يتوفّر ناشرون عربٌ شجعان مستعدّون لدعمهم، فإنّنا سنبقى في هذا الوضع اليائس، حيث الأدب المتوفّرة لنا قراءتُه بالعربيّة سيبقى رهينةً لخيارات السوق العالميّة.

نورا: لماذا اخترتَ هذه الرواية بالذات؟

شادي: إنّها أوّل رواية تمكّنتُ من قراءتها كاملةً بالإسبانيّة. عندما قرأتُها وأنا طالب في الجامعة، قبل أن أبدأ أسفاري إلى أميركا اللاتينيّة، كان أكثرَ ما أثّر فيّ هو أنّها قصّةٌ "عاديّة." فهي تروي قصّة كارلوس، وهو طفل من الطبقة الوسطى المكسيكيّة الصاعدة، يقطن حيّ روما في المكسيك العاصمة، وما يحدث حين يقع في الحبّ. الرواية مكتوبة بلغة بسيطة تمكّنتُ من قراءتها حتّى حين كنتُ أتعلّم اللغة. استطعتُ التماهي كثيرًا مع الحكاية لأنّني كنتُ أشعر أيضّا، إثر تعرفي إلى الإسبانيّة، بأنّني طفل حقًّا.

بعد ذلك بسنوات، وجدتُ نفسي في المكسيك العاصمة، وأسكن في حيّ روما، حيث تدور أحداثُ الرواية. وهذا دفعني طبعًا إلى إعادة قراءة الرواية. إعادة قراءة الرواية من خلال ترجمتها جعلني أدرك عمق الحكاية التي ترويها وما يقبع تحت بساطة لغتها الظاهرة؛ وجعلني أدرك أنّ الراوي يؤرّخ لحظةً في تاريخ المكسيك، ليس فقط من خلال سياقَي الحكاية الاجتماعيِّ والسياسيّ، بل من خلال اللغة نفسها وكيفيّة سرد الأمور أيضًا.

تلقيت الكثير من الدعم لمشروع الترجمة هذا، سواء في المكسيك أو في فلسطين. وبسبب هذا الكرم يتوفّر هذا الكتاب الآن عن طريق دار "كتب قديتا" في فلسطين، و دار"الأهليّة للنشر" في عمّان التي سوف تقوم بالترويج للكتاب عن طريق معارض الكتاب والمكتبات في الدول العربيّة.

بدور: أعتقد أنّ ترجمة شادي للرواية عمل مهمّ، ليس فقط للفلسطينيين، بل لكلّ عشّاق الأدب كذلك. إنّ خوسيه إيميليو باتشيكو، بحسب معرفتي، لم يُترجَم إلى العربيّة، مع أنّه واحدٌ من أهمّ كتّاب أميركا اللاتينيّة في النصف الثاني من القرن العشرين. إنّ توفّر هذه الرواية مترجمةً إلى العربيّة سوف يقدم للقرّاء العرب كتابات باتشيكو على ما آمل.

نورا: هل كانت مناقشتك للكتاب مع فلسطينيين في رام الله مثمرة؟ في مركز خليل سكاكيني الثقافيّ؟ ولماذا؟

شادي: بالتأكيد. لقد استطعتُ أيضًا مناقشة الكتاب في مدينتي، حيفا. وبالرغم من عدم تمكّن الحاضرين في النشاطيْن من قراءة الرواية مسبّقًا، فقد تمكّنا من مناقشة قضايا مرتبطةٍ بالأدب والترجمة، وقضايا تتعلّق بسياسات المكسيك وفلسطين وتاريخهما، وذلك من خلال قراءتي لمقاطع من الرواية أمامهم. إنّ العرب اليوم، بشكل عامّ، يقومون بعمليّة تأمّل ذاتيّ للوصول إلى أجوبة عن أسئلة من قبيل: "من نحن؟" و"من كنّا؟". لذا، وعلى الرغم من أوضاعنا المرعبة سياسيًّا، فإنّ هناك الكثير من المناقشات المثيرة للاهتمام، وأنا ممتنّ لفرصة مشاركتي في نقاشات كهذه، وخصوصًا باللغة العربيّة.

بدور: هنالك بالتأكيد اهتمام كبير بين الفلسطينيين بشِعر أميركا اللاتينيّة، بالرغم من أنّ الروايات التي تعكس الواقعيّة السحريّة تحظى بشعبيّة أكبر؛ وبهذا المعنى فإنّ Las Batallas en el desierto تختلف كليًّا. بالطبع، كنّا نودّ التشرّف باستضافة الروائيّ باتشيكو في فلسطين (أظنّ أنّه كان سيسعد كثيرًا بترجمة روايته إلى العربيّة، بهذه الجودة العالية)، لكنّ لحديث شادي عن خبرته كمترجم قيمةً مضافة. لم نناقش الرواية فحسب، بل تطرّقنا إلى عدد كبير من القضايا كذلك، بما في ذلك أزمةُ الترجمات في العالم العربيّ، وندرة الترجمة المباشرة من الإسبانيّة إلى العربيّة، والتحدّيات التي واجهها شادي كمترجم، وبخاصةٍ صعوبة إيجاد الناشر.

وعدا عن غوصنا في الرواية عبر السياقين الاجتماعيّ والسياسيّ، فقد ناقشنا أدبَ أميركا اللاتينيّة بشكل عامّ، متحدّين بعضَ التمظهرات الشائعة عن مجتمعات أميركا اللاتينيّة، وكذلك ندرة الأدب العربيّ المترجم إلى الإسبانيّة (مجدّدًا، باستثناء الكتّاب الحائزي الجوائز).

نورا: عندما ذكرتَ لي أنّك ستقوم بترويج الكتاب في معرض فلسطين الدوليّ للكتاب، ذكرتَ أنّك "مجرّد" مترجم. هل تشعر أنّ مساهمات المترجمين مفهومة ومقدَّرة من قِبل الجمهور العامّ؟ من قبل الناشرين؟

شادي: من خلال تجربتي الشخصيّة مع Las Batallas، أشعر أنّ عملي كان مقدّرًا في المكسيك وفلسطين؛ ليس عملي كمترجم وحسب، بل أيضًا جهودي من أجل إتمام المشروع (على سبيل المثال: تأمين الدعم الماديّ، إصراري على إصدار الكتاب من فلسطين، العمل مباشرةً من الإسبانيّة إلى العربيّة). كان شيئًا عظيمًا أيضًا وجودُ صالح علماني، المترجم المخضرم من الإسبانيّة إلى العربيّة من سوريا (وسليل قرية ترشيحا في الجليل)، في معرض الكتاب؛ فهو معروف لدى القرّاء نظرًا إلى إنجازاته في ترجمة أدباء مثل غارسيّا ماركيز.

أمّا بالنسبة إلى موضوع النشر، فبصراحة، أنا وافدٌ جديدٌ إلى هذا العالم، وما زلت أحاول فهم صناعة النشر. تجربتي مع الناشرين في "قديتا" و"الأهليّة" إيجابيّة جدًّا.

لكنْ ما أعتقد أنّه مفقودٌ في عالم النشر العربيّ، ولدى جمهور قرّاء العربيّة عمومًا، هو فهمُ مصمّمي الكتب ورسّاميها وتقديرُهم. أشعر أنّ معظم الكتب العربيّة تُنشر بقليل من الاهتمام بمظهرها. ومهما حاولنا ألاّ نحكم على كتابٍ ما من خلال غلافه الخارجيّ، فإنّنا أحيانًا لا نستطيع مقاومة ذلك.

بالنسبة إلى طبعة Las Batallas  العربيّة، تلقينا مساهمة الفنّانة المكسيكيّة أدريانا رونكيو، التي صنعت قالب طبعٍ مشمّع خصيصًا من أجل الطبعة العربيّة، وقامت بتصميم الغلاف والرسوم التوضيحيّة لكلّ فصل من الرواية. كما أنّ الطباعة الفنيّة للغلاف، الذي يُظهر مكسيكو المدينة، جذّاب جدًّا في رأيي.

نورا: ماذا تأمل أن تحقّق من خلال عملك كمترجم للأدب المكسيكيّ إلى العربيّة؟ ما المشاريع التي تعمل عليها حاليًّا؟

شادي: لقد قدّمتُ الكتاب وناقشتُه هنا في فلسطين مع أصدقاء قدامى وجدد؛ فلا يمكنني أن أطلب أكثر من ذلك الآن! وسواء أحبّ الناس الكتاب أم لم يحبّوه، فإنّني آمل أن يشكّل دعوةً إلى قرّاء العربيّة لأن يقرأوا أكثر وأن يغوصوا أكثر في أميركا اللاتينيّة وفي أدب اللغة الإسبانيّة. بالنسبة إليّ، الكتب الجيّدة هي تلك التي تدعوك إلى قراءة كتبٍ أخرى، وتأخذك إلى أماكن لم تفكّر فيها قطّ ولم تتخيّلْها من قبل.

رام الله

محمد منصور

كاتب ومترجم فلسطينيّ، يقيم في لبنان.