حينما وجد قلبه
31-07-2016

 

قذفه الباصُ تحت جسر الثورة. حاول عبثًا تجاوزَ مستنقعات مياه الصرف الصحّيّ، وقِطَعِ الخضراوات المهترئة الزلِقة التي امتزجتْ بزفت الطريق. الرائحة هناك خانقة. شعر بالاسترخاء حينما أخذ الطريقَ المرصوفَ المحاذي لسور قلعة دمشق. رائحة النهر بشعة في هذا الوقت من العام، لكنّه يستطيع التنفّس بصورةٍ أفضل إذا حاول عزلَ خليط الروائح، وتنشُّقَ رائحة الورود والأعشاب النديّة المنبعثة من الحديقة البيئيّة. التفّ حول العصرونيّة متجنّبًا الدخول في ازدحام الحميديّة، وأخذ الطريق المؤدّي إلى المسجد الأمويّ. كان يسرع الخطى باتّجاه ورشة النجارة في سوق مدحت باشا، حيث كلّف نجّارًا هناك بصنع قطعٍ خشبيّةٍ سيحتاج إليها في تصميم أحد مشاريع الديكور التي سيقدّمها إلى الجامعة. وبعد ذلك، سيكمل الطريق إلى أحد المقاهي الدمشقيّة ليقابل أصدقاءه.

يحبُّ المشيَ السريع؛ يضع على أذنيه سمّاعاتِ هاتفه المحمول، ويغرق في موسيقى صاخبةٍ تفصله تمامًا عن أصوات العالم الخارجيّ. لكنه يُضطرّ الآن إلى انتزاع السمّاعات تجنّبًا لإغضاب الجنود على الحاجز المتاخم لحائط المسجد الأمويّ. لم يكن يفهم السبب، لكنْ بدا أنّ شيئًا ما فيه يستفّز الجنودَ: ربّما لحيتُه غير المشذّبة، وشعرُه المسترسل المربوط، يستفزّان الجنودَ ذوي القَصّة العسكريّة "على الصفر." وربّما يستفزّهم مظهرُه العامّ، الذي يشي بشخصيّة مستهترة تتسكّع على هواها في أزقّة دمشق، مع دفتر خدمة عسكريّة كُتب عليه: "وحيد."*

سار الآن في الطريق الصاعد باتّجاه البزُورِيّة، كي يصل إلى المنجرة الواقعة آخرَ السوق الشعبيّة. هناك رآها، وسط الزقاق المُكتظّ بمئات العابرين، تمشي على إيقاعها الخاصّ، متجاهلةً السوق التي تضجّ بالحركة. في يومٍ آخر، كان سيشيح بوجهه، ويكمل المشيَ إلى وجهته. لكنّه لم يستطع فعلَ ذلك اليوم؛ فمشاهدتها تمشي وحيدةً هكذا، بطيئةً هكذا، آلمَتْه، وبدَت كأنّها ضيّعتْ طريقها. "كيف لأجسادٍ أن تنكمش هكذا بفعل السنّ؟"

اتّجه نحوها كي يسألها إنْ أضلّت طريقها. وإذ اقترب تخيّل ــــ ساخرًا من نفسه ــــ موسيقى المراسم تعزف له احتفالًا بنُبل عمله. بطاقات الباص تذّكر بضرورة فسْح المكان لجلوس المسنّين؛ برامجُ التلفزيون تتحدّث عن لزوم الاهتمام بهم. ومع أنّه اعتاد أن يَسْخر من برتوكولات المجتمع، فإنّه لم يعرف لماذا اتّجه نحو العجوز. اقترب منها وخفض رأسه كي تتمكّن من سماعه، وسألها عن وجهتها. مدحت باشا، قالت. حسنًا، المسافة إلى هناك قريبة، أو هكذا ظنّ لأنّه لم يجرّب قبلًا أن يقطعَها بخطواتِ امرأةٍ ثمانينيّة. أمسك بيدها وأحنى قامته المرتفعة كي يسمعَ ما تقول. مشى وهو يرفع قدمَه الكبيرة وينزلها على الأرض بتؤدة، كأنّه يمثّل مشهدَ مشيٍ بطيء في فيلمٍ صامتٍ بالأبيض والأسود.

يبدو الطريق إلى مدحت باشا لانهائيًّا. احتفظت السوق بالإيقاع السريع ذاته، لكنّ اهتمام الشابّ كان منصبًّا على العجوز الصغيرة إلى جانبه. انتبه إلى أنّ الناس كانوا ينظرون نحوهما باستغراب: هو بشعره الطويل، وهي بجسدها المتمهّل. أحسّ برغبةٍ في حمايتها من فضول الناس. استمرّ في محادثتها، مثرثرًا وطارحًا الأسئلة عليها. وكانت تجيبه بصورة غير مترابطة، كما لو أنّها تكمل حديثًا أزليًّا بدأتْه معه. لم تسأل نفسها عن الشابّ الغريب الذي أخذ بيدها دونما استئذان؛ فهي مذ فقدت القدرةَ على تمييز الأشخاص وتذكُّرِهم، باتت تُصبغ الصفة التي تريد على مَن تريد. الناس من حولها يكتسبون هويّات متناقضة، سرعان ما تتبدّل وفق ذاكرتها النسّاءة.

يصل الاثنان بشقّ النفس إلى مدحت باشا. يترك يدها ويدلّها على الطريق الذي يجب أن تسلكه. بدا أنّها استعادت صحوتها للحظات، فإذا بها تنظر إليه وتقول بلهجةٍ آمرة: "ليش تركت شعرَك يطول هيك؟! قصّه وزبّط لحيتك." ثمّ تستدرك حزينة كما لو أنّها تودّعه: "حتّى أصحاب الشعور الطويلة عندهم قلوب طيّبة." يبتسم الشابّ لها ويمشي مبتعدًا. تستعيد خطواتُه خفّتَها. يضع يده على صدره، ويشعر بسعادةٍ غامضة، بعد أن اطمأنّ أنّ له قلبًا.

دمشق

* الابن الوحيد لأهله يُعفى من الخدمة العسكريّة.

 

نور أبو فرّاج

 صحفيّة سورية من دمشق. لها مقالات في صحيفة السفيراللبنانيّة وعدد من الجرائد والمجلّات السوريّة.