حين أيقظت النُّفاياتُ حَراكًا شعبيًّا
15-10-2015

يُحكى أنّه في العام 1982 مرّت المدمِّرةُ الأميركيّة "نيو جيرسي" من أمام الساحل الجنوبيّ لبيروت. وما إنْ وصلتْ أمام شاطئ بلدة "الجيّة" حتى بدأ أهالي بلدة "برجا" بإطلاق الرصاص عليها من بنادق الكلاشنيكوف، وبقصفها بصواريخِ الهاون. كان هذا الردّ على جبروت سلاح البحريّة الأميركيّ كافيًا  لخلق جملةٍ، تفاخر بها البرجاويّون منذ ذلك الوقت، وكتبوها على جدران بلدتهم: "برجا تتحدّى واشنطن!"

لم تتعلّقْ "مقاومةُ" أهل برجا يومَها بما قد تغيّرُه تلك الطلقاتُ والصواريخُ من معادلةٍ في السياسة الإقليميّة، ولا بإمكانيّة تعطيل البارجة، بل ولا بإخافة طاقمها وعوْقِهم عن استكمال مهمّتهم. وإنّما هي بدأتْ من حيث يبدأ أيُّ مقاوم: من اللحظة التي يعي فيها المرءُ أنّ في إمكانه أن يرفضَ ما أُجبِر على فعله.

 

اليوم: من عاميّة برجا إلى عاميّاتٍ لبنانيّة

منذ شهرين تقريبًا بدأتْ في برجا ملامحُ ما أصبح يُعرف اليوم بـ "عاميّة برجا،" تبنّيًا لما أطلقه عليها وليد جنبلاط بسخريةٍ واستهزاء ـــ وكأنّ ذلك التبنّي حصل استنادًا إلى منطق اليسار اليونانيّ: "أرتدي سخريتَكم بفخرٍ واعتزاز." وما بدأ في برجا صيف العام 2015 هو، باختصار: مظاهراتٌ ومواجهاتٌ بين الأهالي/الشعب غير الموحّد منذ زمن، والسلطةِ الحاكمة/زعماءِ الطوائف/أمراءِالحرب الأهليّة، طلبًا لعيشٍ كريم. وكان المطلبُ الأساسُ الذي أطلق الحراكَ الشعبيّ هو غرق بيروت ومحيطِها بالنفايات بعد أن انتهى العقدُ (غيرُ الشرعيّ) الذي كانت الحكومةُ اللبنانيّة قد أبرمتْه مع "سوكلين" ـ وهي شركةٌ خاصّةٌ تجمع النفاياتِ وتتكفّل بتدويرها وطمرها بسعرٍ هو الأغلى في العالم، ووفق شروطٍ تجعل هذه الشركة أكثرَ سيطرةً على ما يجري من الدولة.

حين انتهى العقدُ وأقفل "مطمرُ" بلدة "الناعمة،" حيث كانت الشركة المذكورة ترمي النفايات، توجّهت الشاحناتُ لفتح مطمرٍ جديدٍ في برجا، متوهّمةً أنّ الأهالي سيرضخون، من جديد، لقوانينَ وصفقاتٍ يجبرهم زعماءُ المنطقة على تقبّلها. لكنّ أهالي برجا وأهالي "إقليم الخرّوب" أغلقوا المنطقة أمام  الشاحنات والمشروع. ونزل إلى الشارع أهالي "عاميّة برجا" معًا: الإسلاميّ، والشيوعيّ، وابن تيّار المستقبل (الحريري)، والاشتراكيّ (جنبلاط)، والخائف من السياسة منذ نهاية الحرب الأهليّة؛ ونزلتْ أيضًا نساؤها، المتحزّباتُ والمستقلّات، الصبايا والمتزوّجات والكبيرات في السنّ. جميعُهم، ذكورًا وإناثًا، راقبوا الطرقات وأقفلوها، وأسَروا الشاحنات واستعملوها ضدّ الجيش والدرك، ورشّوا عليها جملةً كانت قد اختفت من ذاكراتنا: "برجا تتحدّى واشنطن!"

هذه الجملة فعلتْ فعلها مجدّدًا، وذكّرتنا بأنّ المواجهة ممكنة، لا بل ضروريّة أيضًا، وأنّها ـــ بوجودها ـــ تخلق أكثرَ بكثير ممّا كنّا نؤمّل.

 

أكثر من مشكلة نفايات

إذن، من برجا أقفل الناسُ الطرقَ لمنع استحداث مطمرٍغيرِ مراقب، وغيرِ منفّذ بشكلٍ علميّ، ويشكّل خطرًا صحّيًّا على أهل المنطقة والأراضي الزراعيّة المحيطة به وعلى المياه الجوفيّة في البلدة. وتزامنتْ مع تظاهرة برجا مظاهراتٌ في بيروت تطالب بحلّ مشكلة النفايات المنتشرة في العاصمة. وكان أهمَّ ما في هذه المظاهرات رفضُ المتظاهرين أن تكون الأطرافُ ضحيّةً للعاصمة؛ وفي هذا السياق انتشرتْ في الشوارع شعاراتٌ مثل: "من بيروت، هنا برجا" و"من برجا لبيروت شعبٌ واحد ما بيموت!"

 جميعُهم [أهل برجا]، ذكورًا وإناثًا، راقبوا الطرقات وأقفلوها، وأسَروا الشاحنات واستعملوها ضدّ الجيش والدرك، ورشّوا عليها جملةً كانت قد اختفت من ذاكراتنا: "برجا تتحدّى واشنطن!"

هنا بدأ ما يمكن أن نسمّيه "حراكًا شعبيًّا" جامعًا. ولم يتحقّقْ ما تخوّف الكثيراتُ والكثيرون من حصوله ــ وأعني وضعَ أهالي بيروت والمناطقِ المتأذّيةِ من مشكلة النفايات في مواجهةِ أهل برجا، وكأنّ هؤلاء الأخيرين هم العائقُ أمام حلّ مشكلة النفايات. ففي حين علت أصواتٌ خلال الأيّام الأولى من المظاهرات تنادي برجا بوجوب "شكر" بيروت لتأمينها العملَ لأهلها، وتطالبها بالاستجابة لقرارات الحكومة ردًّا لهذا "الجميل"؛ وفي حين تدخّلت النائبُ الممدّدُ لها بهيّة الحريري(أختُ رئيس الوزراء الراحل ورجلِ الأعمال الذي رسم السياساتِ الاقتصاديّةَ للبنان ما بعد الحرب الأهليّة) لـ "تعتذر" إلى بيروت عمّا فعله أهلُ برجا في حقّ المدينة؛ في مقابل هذين الأمريْن علت أصواتٌ فوق هذا النشاز ووجّهت الأمورَ في الاتجاه الصحيح.  وفي مقابل بروباغندا سلطويّةٍ تفْصل "أهلَ المدينة" عن "أهل الأطراف"، بلورت الأصواتُ الجديدةُ ثنائيّة "الشعب (مدنًا وأطرافًا من مختلف الطوائف) مقابل السلطة." وللتذكير، فإنّ "هيئة التنسيق النقابيّة،" وهي الجسمُ النقابيُّ المستقلُّ الوحيدُ في لبنان، هي التي عملتْ خلال السنوات الثلاث الماضية على تظهير هذه الثنائيّة.

الآن، ربّما، نستطيع البدءُ في الحديث عن "شعب" كوحدةٍ سياسيّةٍ قادرةٍ على الاتحاد تحت مظلّة مطالبَ متشابهة. فما جرى بعد ذلك من تحرّكاتٍ ومظاهراتِ واعتصاماتٍ في بيروت والمناطق، ومن مواجهاتٍ عنيفةٍ مع الجيش والقوى الأمنيّة، لم يكن سوى نتيجةٍ لمسألتيْن ذكرناهما تباعًا: التحدّي والوحدة. ولقد بات واضحًا أنّ النظام، بزعاماته وقواه العسكريّة، لا يقبل هذيْن اللاعبيْن أمامه.

هكذا أطلقتْ "عاميّة برجا" الصرخةَ ضدّ النظام السياسيّ برمّته (فالقضيّة منذ انطلاقها لم تكن قضيّة نفاياتٍ وفرزٍ فقط)، وأضاءت على كلّ ما نعانيه جرّاءَ نظامٍ جرّدَنا شيئًا فشيئًا من حقوقنا؛ إلى أن استفقنا ذات لحظة، فنظرنا من حولنا، ورأينا أننا سكتنا طويلًا عن  قضم حقوقنا، حتى وجدْنا أنفسَنا بلا حقوق. وفي الدقيقة التي رفضنا فيها هذا الواقع، استنفر النظامُ واستذأب.

 

المظاهرات بين التضامن والتشكيك

بدأت المظاهراتُ في بيروت سلميّةً، إلى أن أطلق الجيشُ وقوى مكافحة الشغب، في 22 آب، الغازَ المسيِّلَ للدموع على مظاهرةٍ كانت تجمع عائلاتٍ وأطفالًا. وجاءت المفاجأة تلك الليلة حين عاد المتظاهرون والمتظاهراتُ العزّلُ إلى الشارع بتحدٍّ أكبر وزخمٍ أعظم وشعارات ٍأقوى بعد أوّل جولةٍ من إطلاق الغاز، وبدأتْ عندها سلسلةٌ من المواجهات العنيفة مع قوى الأمن بكامل عتادها. فاستُقدمتْ شاحناتُ الإطفاء لرشّنا بالمياه، واشتدّ ضربُ الغاز والرصاص المطّاطيّ والحيّ. ولثلاث ساعاتٍ متواصلة استمرّ الكرّ والفرّ بين القوى الأمنيّة ومواطناتٍ ومواطنين يشْبهون ملايينَ اللبنانيين الآخرين في بقيّة أرجاء لبنان، كما يشْبهون اللاجئين الفلسطينيين والسوريين الممنوعين أصلًا من المشاركة في الحياة السياسيّة في بلدنا.

 

وكان المتظاهرون، ذكورًا وإناثًا، يشاهدون إلى جانبهم مَن يشْبهُهم في مطالبهم، وفي قرفهم من الانقسامات التي أُجبِروا في الكثير من الأحيان على تصديقها؛ مَن يشْبههم بطريقةٍ أو بأخرى ولو لم يحسّوا مثلهم بالمشكلة. فلقد كان الجميعُ يطالبون بما هو أقلُّ من أساسيّ: مناطقَ خاليةٍ من التلوّث، دولةٍ لا تتعامل معهم كأنّهم لصوصٌ وقطّاعُ طرق، بل تؤمّن أقلّ مستلزمات الحياة من ماءٍ وكهرباء وبيئةٍ نظيفةٍ لا تسمّمُهم. وقد أدّى ذلك إلى زيادة التلاحم بين المتظاهرات والمتظاهرين، وإلى المزيد من تضامن الناس خارج المظاهرة معهم.

وفيما تزايدت الأصواتُ الداعمةُ للحراك، تزايد زعيقُ السلطة متّهمًا المتظاهرين والمتظاهرات بالخيانة الوطنيّة والشغب والارتباط بأجنداتٍ خارجيّة. وكان "أفضلَ" ما نتج عن هذا الزعيق اتّهامُ كلٍّ من الطرفيْن الأساسييْن في السلطة (8 و14 آذار) للحراك الشعبيّ بأنّه مع الطرف الآخر: فبرز من جمهور 8 آذار مَن يقول إنّ الحراك مرتبطٌ بالسفارة الأميركيّة، لا بل إنّها خطّطتْ له؛ واتّهمه مسؤولون من 14 آذار بأنّه من "سرايا المقاومة" التابعة بشكلٍ مباشرٍ لحزب الله. وهذه المواقف المتضاربة أفادت الحراكَ بشكل كبير، إذ أكّدتْ ما تقوله منظِّماته ومنظِّموه منذ بدئه، وهو استقلاليتُه عن أيّ طرفٍ سياسيّ، بل رفضُه أيضًا لما يطرحه طرفا المواجهة الأساسيّان في لبنان.

كما حاولتْ بعضُ الفئات، من داخل الحراك هذه المرّة، التركيزَ على مَن أسمتهم "المندسّين." فقد ظهر خلال مظاهرات 23-25 آب شبابٌ من الأحياء الفقيرة المحيطة بوسط بيروت السياحيّ، فروّج بعضُ منظّمي الحراك (وهم نتاجُ الخطاب النيوليبراليّ والجمعيّات الأجنبيّة)، وساعدهم في ذلك الإعلامُ اليمينيُّ بشكلٍ خاصّ، أنّ هؤلاء الشبّان "مندّسون" من قبل السلطة من أجل "تشويه صورة الحَراك السلميّ الحضاريّ" ونشرِ العنف والفوضى. إلّا أنّ المشاركات والمشاركين في الحراك، وبخاصّةٍ المجموعاتُ اليساريّة، تقرّبوا من هؤلاء الشبّان ووجدوا أنّهم من أحياء الخندق الغميق وحيّ اللجى والطريق الجديدة والضاحية، ومن الهرمل والجنوب؛ أيْ إنّهم ينتمون إلى فقراء المدن وعمّالها الذين لا يعرفون هويّة لهم غيرَ الهويّة الدينيّة، فحملوها في هذه المظاهرات مرجعًا وحيدًا لهم، مسْقطين بذلك عن زعماء الطوائف "شرعيّةً" جعلتهم يتحكّمون بهم سنواتٍ طويلة.  لقد نزل هؤلاء الشبّان إلى الشارع من دون أن يدعوهم أحدٌ إلى ذلك؛ نزلوا لأنّ المطالب التي طرحها الكثيراتُ والكثيرون في الحَراك حرّكتْ فيهم الأسئلة. وبذلك يكون الحَراك، بسقفه العالي ومطالبه الاقتصاديّة ـ الاجتماعيّة، قد بدأ يفعل ما يحلم به اليسارُ في لبنان منذ ما قبل الحرب الأهليّة: البدء بفصل الطبقة العاملة عن ولائها للزعيم الطائفيّ. ونقول "بدأ" من دون الوقوع في رومانسيّةِ ما يجري؛ إذ من الضروريّ استكمالُ ما حصل، وتكرارُه، وتعميمُه عبر التواصل مع المجموعات والأهالي الذين لا يشْبهوننا ولا يستسيغون خطابنا لكّنهم يعانون وطأة السياسات الاقتصاديّة النيوليبراليّة.

وتتالت التحرّكاتُ وتنوّعتْ: بين احتلالِ وزارة، وتعطيلِ ماكيناتِ الدفع المسبّق لركْن السيّارات، وتنظيمِ نزهةٍ إلى مرفأ "الزيتونة"، وفتح أرض "الدالية" (الروشة) واسترجاعها.

وفي ظلّ تزايد هذه التحرّكات، كانت رقعةُ المطالب والحقوق المكتشف فقدانها، تتوسّع. وفجأةً، اكتشفنا أنّنا لا نملك قرارًا في مدننا؛ وأنّ أملاكَنا العامّة منهوبة؛ وأنّ مطالبتنا بها، في المقابل، ليست ترفاً.

 

الإعلام: مهرّجُ الملك

مع تزايد المظاهرات وتعدّدها، برز دورُ الإعلام، أو بالأحرى برزت الأدوارُ التي يتّخذها الإعلامُ أو يوزّعها. ولا يخفى أنّ للتعتيم الإعلاميّ دلالاتِه؛ وأنّ للتركيز الإعلاميّ، و"للإخراج" الذي يتّبعه، دلالاتِه أيضًا، بما في ذلك استعمالُ المصطلحات التي تثبّتُ طبيعةَ الحَراك في وعي الناس أو تربطُه بمفاهيمَ معيّنة وأشخاصٍ معيّنين.

 لم يكن الإعلامُ هنا بريئًا، ولم يدخل اللعبة مرغمًا، بل اختارها بدقّة، حتّى إنّه كتب قوانينها، فأدّى بذلك دورَ خادم السلطة بامتياز.

منذ بدء الحراك، عكفت المؤسّساتُ الإعلاميّة اللبنانيّة كافّةً على نقل الأحداث والمقابلات وتحليلها واستقبال الضيوف وإدارتهم كيفما شاءت. فأصبح المتابعون لمحطّةٍ ما يعرّفون الحَراكَ، بتبعيّته أو استقلاليّته، بيمينيّته أو يساريّته، تبعًا للمحطّة التي يتابعونها. لم يكن الإعلامُ هنا بريئًا، ولم يدخل اللعبة مرغمًا، بل اختارها بدقّة، حتّى إنّه كتب قوانينها، فأدّى بذلك دورَ خادم السلطة بامتياز.

أولًا، جعلت المحطاتُ الإعلاميّة، على اختلاف تبعيّتها السياسيّة، من هذا الحَراك لقمة سائغة أمام السلطة. فقد عرّت المشاركين والمنظّمين أمام الرأي العامّ منذ أوّل أيّام هذا الحراك، قبل تبلور مطالبه أو مكوّناته، وجعلتهم يواجهون بعضهم بعضًا كأنّهم أعداء.

ثانيًا، ركّزتْ على الاختلافات في توجّهات المشاركين والمنظّمين لإظهارها كخلافات.

ثالثًا، انتقلتْ إلى تخويف الناس من الحَراك، وإلى الإيغال في خطابٍ غير علميّ أساسُه أنّ "تسييس الحَراك خطر." وهنا مكمنُ الجهل: إذ كيف يمكننا أن نكوّن حَراكًا شعبيًّا، ولو كان مطلبيًّا في أساسه، من دون سياسة؟ وإذا كانت "السياسة" مفهومًا معيبًا، فلماذا لا يعطينا أيٌّ من "إعلاميّينا" تعريفًا لها لكي نفهم ـ ولو لمرّة ـ لِمَ علينا أن نخاف منها؟ إنّ "السياسة،" كما نفهمها بالممارسة، هي العملُ على تغيير موازين القوى بما نراه مناسبًا. ومن المنظور اليساريّ، فإنّ المناسب هو مصلحة الطبقة العاملة والفئات المستضعَفة. فأين العيبُ في ذلك؟

رابعًا، انتقلت المحطّاتُ الإعلاميّة بعد ذلك إلى نقد طريقة الاحتجاجات، فطبعتْها بطابع "المقبول" و"غير المقبول،" فارزةً الناسَ ـــ وبعنصريّةٍ وطبقيّةٍ وطائفيّةٍ مقزّزة ـــ  إلى فريقيْن: "مندسّين" "غوغائيّين" "فوضويّين يحبّون العنف،" مقابل "مثقّفين" "أولاد بيوت" "سلميّين." هنا تظهر الحاجةُ إلى التذكير بأنّ السلطة هي التي بادرتْ إلى العنف أصلًا. فعلاوةً على أنها سرقتْ أموالَ الشعب، فإنّه لا يمكننا أن ننسى أنها عبارةٌ عن مجموعاتٍ وأحزابٍ وأفرادٍ أسهموا في إشعال الحرب الأهليّة وأجّجوها واغتنوْا منها، ومازالوا حتى اليوم يقبضون على مصائرنا. ولا بدّ أن نقول إنّ السلميّة أو عدمَها ليسا سوى جزءٍ من تكتيكاتٍ لا مقدّس فيها ولا مدنّس، بل تُستعمل بحسب الحاجة والفعّالية ومتطلّباتِ المرحلة.

خامسًا، أنهت المحطّاتُ رقصتها أمام أمراء الحرب بأن نصّبتْ "زعماءَ" جددًا و"أبطالًا" ادّعتْ أنّهم يمثّلون قادة الشعب وقِبْلتَه. أمّا حقيقة الأمر فهي أنّ غالبيّة مَن اختارتهم لهذه المرتبة السامية لا يبحثون عن بدائلَ لهذه السلطة بل عن محض "تجميلٍ" لتشوّهاته الفاقعة، معيدين بذلك  إنتاجَ  النظام نفسِه بالشعاراتِ نفسِها.

 

الحاجة إلى التنظيم

وهنا نصل إلى مسألة "تنظيم" الحراك. فهو لم يكن في أيّ يومٍ عفويًّا، وإنْ بدأه "أهالي" بلدة برجا، الذين كانوا قد باشروا  بتنظيم أنفسهم منذ حوالى سنة، أيْ منذ ظهرتْ ملامحُ "المشروع" في منطقتهم. كما أنّ المظاهرات في بيروت والمناطق لم تبدأ بأفرادٍ لم يعرفوا بعضُهم بعضًا يومًا، بل بمجموعاتٍ يساريّةٍ وشبابيّةٍ وطلّابيّة، وبأعضاء نوادٍ بيئيّةٍ وعلمانيّة، وبأفرادٍ تواصلوا واجتمعوا على أسسٍ سياسيّةٍ ومطلبيّة.

اليوم يصل الحَراكُ إلى مرحلة التنظيم، أيْ إلى الحاجة إلى توزيع المهامّ والمسؤوليّات، والنزول من برج الأهداف الشخصيّة والفئويّة الضيّقة إلى تحقيق أهداف الحَراك ذاتِه. وإذا كنّا قد بدأنا الحَراكَ من فكرتيْن بسيطتيْن، هما الوحدة والتحدّي، فيجدر أن تأخذنا هاتان الفكرتان إلى أبعدَ ممّا وصلنا إليه، لكنْ بشرطٍ أساسٍ وأوّل، هو عدمُ السعي إلى خلق "رأسٍ" للحراك، وإنّما العملُ بشكلٍ جماعيّ. فلئن كان عملُنا يحتوي على مقوّماتٍ "ثوريّةٍ" في المضمون، فعلى الشكل أن يكون "ثوريًّا" هو أيضًا، بما يعنيه ذلك من التخلّي عن الهرميّة المغلقة، ونبذِ الحاجة إلى "رئيس" (وهذا هو الشكلُ البطريركيّ للتنظيم والإدارة) يصبح بطلًا وطنيًّا/قوميًّا/إعلاميًّا/جماهيريًّا. لا تحتاج "الجماهيرُ" الآن إلى "قائد،" بل ما نحتاج إليه جميعنا هو خطابٌ جامعٌ عابرٌ للطبقات والمناطق والجنسيّات، يكوّنُ سلسلةَ مطالب تَكون فيها الأولويّةُ للمهمّشين والمهمّشات في هذا البلد.

ويظهر جليًّا أنّ تأسيس "مجموعات" مستقلّةٍ ومختلفةٍ سياسيًّا، ولكنّها تنسّقُ فيما بينها، هو من أهمّ مقوّمات قوّة الحَراك؛ فذلك يساعد على ألّا يستطيعَ أيُّ توجّه سياسيّ معيّن أن يفرضَ أهدافَه أو أولويّاتِه أو توجّهاته. وإذ تتّفق المجموعاتُ على الحاجة إلى تغيير الفئات الحاكمة ومحاربةِ الفساد وإدارةِ الملفّ البيئيّ وتأمينِ الحقوق الأساسيّة للمواطنات والمواطنين،  فإنّ كلّ مجموعة منها تتفرّد بأولويّاتها ومشروعها السياسيّ وتوجّهها.

ويأتي الشرطُ الثاني، وهو فتحُ الحَراك على العناصر والمجموعات الأكثر حاجةً، ليصبحَ حراكًا شعبيًّا بكلّ ما تعنيه الكلمة. والأكثرُ حاجةً، من الذكور والإناث، قد لا يشْبهون بالضرورة منظّمي الحراك من طلّابٍ و"مثقّفين" ويساريين وبورجوازيين. قد نكون، معشرَ المنظّمين والمنظِّمات، الأكثرَ تمتّعًا بالامتيازات من بين المتضرّرين الآخرين من هذا النظام؛ لكنّ المكانَ، والمَطالبَ، والحَراك نفسه؛ هذه كلّها هي  للأكثر تضرّرًا   في الأساس. فهم "أهلُ القضيّة"؛ وإذا منعناهم، ذكورًا وإناثًا، من الدخول والمشاركة، فلا مستقبل حقيقيًّا لما نطالبُ به.

والشرط الثالث يكون بتقبّل تنوّع مكوّنات المجموعات المنظّمة والمشارِكة، وبتقبّل اختلافها. ويأتي، نتيجةً لذلك، أن نتقبّل تنوّعَ المطالب وتوسُّعَها.

من المهمّ ألّا ننسى من أين بدأنا، كي لا ننسى الغاية، ألا وهي: قيام حركة مطلبيّة جامعة، تطالب بحقوقنا ـــ نحن القادرات والقادرين على المطالبة بها ـــ كما بحقوقِ غيرنا مِن غير القادرين أو القادرات على المطالبة بها؛ حركة لا تقبل بالوعود أو التجاهل المتمادي، ولا تتقزّم بفعل محاربة السياسيين أو ذوي القربى.

بيروت

 

جنى نخّال

باحثة وناشطة يساريّة من بيروت والجنوب. تعمل في مجال التنظيم المدنيّ في العشوائيّات ومخيّمات اللجوء، كما تنشط في التنظيم الطلاّبيّ في الجامعات.