حَراك الحقيقة الأرثوذكسيّة والاحتجاجات ضد البطرك ثيوفيلوس الثالث
14-02-2018

 

منذ نعومة أظفارنا ونحن نسمع قصصًا وإشاعاتٍ عن تسريبات، هنا وهناك، لأراضٍ وعقاراتٍ تابعةٍ للوقف الأرثوذكسيّ. ومنذ ذلك الحين ونحن نسمع قصصًا عن احتجاجاتٍ وصدامات ضدّ البطاركة اليونان المهيمنين المستعمِرين للكنيسة المقدسيّة الأرثوذكسيّة، أو كما تسمّى "البطركيّة الأورشاليميّة" منذ سنة 1543 . غير أنّ كلّ الاحتجاجات السابقة انتهت قبل أن يزدادَ الالتفافُ الشعبيُّ من حولها، وذلك لعدّة أسباب، أهمُّها: نجاحُ البطاركة في إسكاتها، وكونُ معظم التسريبات عبارةً عن تأجير طويل الأمد لـ99 سنة ــ ــ ما "طمأن" الناسَ إلى أنّ الأوقاف باقية.

 

نكبة فلسطين

منذ النكبة وسقوط فلسطين سنة 1948، دخل شعبُنا في صدمة الاحتلال والتشرّد واللجوء والتطهير العرقيّ والقتل، وبتنا تحت احتلال صهيونيّ وحكم عسكريّ على معظم مساحة فلسطين. شعبُنا مصدوم ومنهَك ومفتَّت ولا تواصل بين فئاته، وأبناءُ رعيّتنا مشتَّتون في الداخل والخارج، وطاقاتُ مَن بقي من أبناء شعبنا تركّزتْ على النضال من أجل البقاء ومحاولة التعرّف إلى الوضع الجديد الذي وجدنا أنفسَنا فيه بعد النكبة.

في ظلّ هذه الأجواء، وخلال السنوات الأولى من قيام دولة إسرائيل، تمّت أغلبُ صفقات التسريب أو التأجير الطويلِ الأمد، لعقاراتٍ استراتيجيّةٍ مهمّة جدًّا، ولأراضٍ شاسعة، بُنيتْ عليها مقرّاتُ الدولة الغاصبة الحديثة ومؤسّساتُها. وتلتها صفقاتُ تأجير أعدادٍ هائلةٍ من العقارات الوقفيّة، والأراضي، إلى الدولة وأذرعها، من دون السؤال عن مصير هذه العقود مع اقتراب نهايتها.

حتى نهاية فترة البطرك المعزول ايرينيوس، لم نسمع ببيعٍ نهائيّ للأوقاف؛ ذلك لأنّ معظم هذه الصفقات تجري بسرّيّة تامّة بين البائع والمشتري، والأخير غالبًا ما يكون يهوديًّا أو مؤسّسةً استيطانيّةً أو الدولةَ نفسَها. وتجري السرّيّة، في اعتقادي، من منطلق الحفاظ على مصالح الطرفين المشتركين، وعدم استفزاز الرعيّة  المحليّة.

على مرّ السنين، سلك غالبيّةُ البطاركةُ سياسة "فرِّقْ تسدْ" الاستعماريّة. وبموجبها تعرّفوا إلى الشخصيّات الفاعلة في كلّ بلدةٍ وقرية، ومدى تأثيرها في الطائفة. كما تعرّفوا إلى تركيبة الطائفة الديموغرافيّ والعائليّ من خلال المندوب المحلّيّ للكاهن اليونانيّ. وبهذه الطريقة استُدرج بعضُ الأشخاص (بشتى الطرق الماديّة والمعنويّة) لإسكات أيّ صوت يعلو ضدّ البطرك بشكل عامّ، وضدّ سياسة التفريط بالأملاك والأوقاف بشكل خاصّ، وضدّ الاستهتار بالرعيّة وبمتطلّباتها الحياتيّة، وضدّ منع الكهنة العرب من التدرّج في سلك الكهنوت.

وبسبب قلّة التواصل بين أبناء الرعيّة من كلّ القرى والمدن، وجهلِ كيفيّة الحصول على المستندات الرسميّة، وعوامل أخرى، لم تتفجّر أيّةُ احتجاجات شعبيّة ضدّ البطرك. ولكنّ الغضب الشعبيّ من نهج البطاركة كان يزداد ببطء، غير أنّ الرعيّة كانت تخشى من ردّة فعل الحكومة الإسرائيليّة ومؤسّسات الدولة الإسرائيليّة في حال حصول احتجاجات ضدّ من يسهِّل لها السيطرةَ على الأوقاف الأرثوذكسيّة.

أخذتْ قضيّة الأوقاف الأرثوذكسيّة منحًى خطيرًا ومفاجئًا للرعيّة وللرأي العامّ، وذلك إثر الإطاحة بالبطرك ايرينيوس، المتَّهَم ببيع باب الخليل للمستوطنين، وإحلالِ البطرك "المقبول" ثيوفيلوس الثالث محلَّه.

فثيوفيلوس الثالث، صديقُ السفير الأمريكيّ في قطر، خَدم رعيّةً صغيرةً جدًّا هناك (لا تتعدّى أصابع اليدين على ما أعتقد). وقد أُحضر من قطر بدرجة ارشمندريت، ليَخلع ايرينيوس بعد سنة، وليجلسَ مكانه على كرسيّ البطركيّة المقدسيّة، في انقلابٍ أثار الكثيرَ من الشبهات والشكوك والإشاعات عن سببه، وعن انخراط البطرك الجديد بصفقاتٍ عقاريّة ومقايضات تفوح منها رائحةُ فسادٍ كريهة؛ ذلك أنّ إسرائيل اشترطتْ، لقبول البطرك الجديد، أن يوقِّعَ على اتفاقيّات عقاريّة مهولة، منها صفقاتُ باب الخليل في القدس وجبل القفزة في الناصرة (على ما نُشر في وسائل الإعلام).

منذ تلقّي ثيوفيلوس الموافقة على التعيين، رحنا نسمع، أكثر فأكثر، بعمليّات تسريب وتأجير. بل بلغَنا، من عدة مصادر رسميّة وموثوقة، أنّ البطرك باع أوقافًا أرثوذكسيّة، بأثمان زهيدة، إلى شركاتٍ لا تُعرف تبعيّتُها.

مع انتشار شبكات التواصل الاجتماعيّ، وازدياد التسريب والتفريط، بدأ الأمر يثير الصحافةَ الإسرائيليّة، التي نجحتْ في الكشف عن عدة صفقات كبيرة جدًّا، مثل بيع 1000 دونم في فيساريا التاريخيّة، تشمل المدرجَ الرومانيّ وآثارًا تاريخيّة، وبأسعار مضحكة، وإلى الشركات المشبوهة ذاتها. كما عملنا على الحصول على مستندات رسميّة، وعلى بروتوكولات المحاكم، فتكشّفتْ أمامنا صورةٌ قاتمةٌ عمّا يحصل خلف أسوار البطركيّة، من تفريط بالأوقاف والعقارات الأرثوذكسيّة. ومن هنا بدأت الاحتجاجات.

 

حَراك الحقيقة

"حَراكُ الحقيقة الأرثوذكسيّة" نشأ في الداخل الفلسطينيّ (أراضي 48)، وهو حَراك وطنيّ، سلميّ، تطوّعيّ، غير حزبيّ، ولا يتبع أيَّ جهة سوى أبناء الكنيسة، ولا يعمل إلّا لمصلحة الكنيسة.

بدأ الحَراك من حوارٍ جرى بين أشخاص حول ضرورة معرفة حقيقةِ ما يحصل، وما يمكن فعلُه لوقف التفريط بالعقارات الوقفيّة والأراضي. ثمّ جرت دعوةُ أشخاص إلى دائرة هذا الحوار، من أراضي 48، وتواصلْنا مع إخوتنا في الأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 ــ ــ ولهؤلاء أيضًا تاريخٌ في معارضة التفريط في الأملاك ومعارضة نهج البطركيّة العنصريّ والإقصائيّ تجاه أبناء الطائفة العربيّة الأرثوذكسيّة والكهنة العرب.

يضمّ الحَراك بعضَ المخضرمين من مناهضي عمليات البيع والتفريط في الأملاك. كما يشمل ممثّلين عن مجالس ملّيّة أرثوذكسية سئموا من استهتار البطرك بالرعيّة، في الوقت الذي كان يسرّب فيه الأوقافَ إلى اليهود غالبًا، وإلى مؤسّسات استيطانيّة. ويشمل أيضًا ناشطين سياسيين ومحلّيّين من أبناء الطائفة الأرثوذكسيّة، شكّلوا أوّلَ نواة لمجموعة منظّمة شاملة من مختلف البلدات، وبدأت بالتنظيم للبدء في الاحتجاجات ضدّ عمليّات البيع والتسريب والهيمنة اليونانيّة على البطركيّة المقدسيّة. وهي تعمل كذلك على التنسيق مع إخوتنا في كامل الأراضي الفلسطينيّة والأردن، لنكون قادرين على العمل بمهنيّة ونجاعة ولمدة طويلة في وجه البطركيّة والبطرك المستعمِر والمتّهَمين بالفساد والاستهتار بأبناء الشعب.

قامت المجموعة بتنظيم أوّل وقفة احتجاجيّة ضدّ البطرك في جبل الطابور. ومع الاستمرار بالفعاليّات، زاد الالتفافُ الشعبيّ من حولنا، فازددنا قوّةً وثقةً بالنفس وبالهدف والنهج. وقمنا بأول مظاهرة أمام البطركيّة، وأمام المباني التي جرى تسريبُها في باب الخليل في القدس. ثم تظاهرنا في الرينة، وحيفا، واللدّ، وبيت لحم، والمغطس في غور الأردن.

فعّاليّاتنا تلقى دعمَ الرعية، ودعمَ شعبنا. وخلالها، كشفنا العديدَ من البيوعات، والتأجير، وتسريب العقارات المهمّة والأوقاف، لجهات استيطانيّة وشركات إسرائيليّة، من دون رقابة أو محاسبة. وكشفنا صفقاتٍ وعقودَ بيعٍ نهائيّةً إلى شركات وهميّة مسجّلة في جزر العذراء وجزر البهاما (وهي ملاذٌ ضريبيّ)، وإلى شركات سرّيّة يمتلكها يهودٌ أجانب داعمون للاستيطان. وحصلنا على مستندات وأدلّة دامغة لعمليات البيع والتفريط بالأملاك، وعرضناها على الناس عبر الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي بغية الضغط على البطرك لوقف البيع وتحشيدِ أبناء الرعية للاحتجاج.

ومع تقدّم الاحتجاجات بدأنا نسمع ردودَ فعل البطرك، الذي استأجر شركةً يهوديّةً للعلاقات العامّة. وهذه الشركة تحاول ــــ عبر داعمي البطرك من المنتفعين المحلّيّين ومن المستفيدين من البطركيّة أو المتعلِّمين على حسابها ــــ نفيَ عمليّات البيع من دون أن تعطي الدليل؛ وهي لم تحاول التقدّم إلى المحاكم الإسرائيليّة بدعوى التزوير لأنّ البطركية تعي أنّ هذا التقدم سيعني كشفَ المزيد من العقود الموقّعة من قِبل البطرك.

 

مطالبنا ونشاطنا

حراكنا، كما ذكرتُ، شعبيّ، سلميّ، تطوّعيّ. وهو يستند إلى أناس مهنيين مثقفين وغيورين على كنيستنا ووجودنا، كمسيحيين عرب فلسطينيين، في فلسطين والمشرق. ونحن نسعى إلى نشر الوعي في خصوص مخالفات البطركيّة، وفساد البطرك ومجموعته في ما ما يتعلقّ بالتفريط بالأوقاف. ولهذا نعمل بجدّ لاستخراج أوراق ومستندات من دائرة الطابو، ومن بروتوكولات المحاكم، لكشف عمليّات الفساد والبيع، ولفت نظر شعبنا إلى قضيّتنا وإقناعهم بأنّها قضيّة وطنيّة وليست محصورةً في أبناء الرعيّة الأرثوذكسيّة، وبأنّ أحد أهداف التسريب والتفريط بالأوقاف في القدس هو محاولة التأثير السلبيّ على وضعها الديموغرافيّ بهدف تهويدها. كما أننا نعتبر أنّ التفريط بالأملاك الوقفية تُضعف من صمودنا كمسيحيين في أرضنا وبلادنا وتسهِّل هجرةَ الشباب.

إنّ الأوقاف والعقارات الأرثوذكسيّة ملْكُ الكنيسة. ولأنّ الكنيسة هي جماعةُ المؤمنين، أيْ أبناءُ الرعيّة، فعلى هذه الأوقاف أن تُستثمَر لصالح أبناء الرعيّة، ومن أجل تعزيز بقائهم في فلسطين، ومساعدتهم على مواجهة مشاكل الإسكان والتعليم وغيرها.

نحن نرفض البيع والتفريط بالأملاك، وندعو الى عزل البطرك المستعمِر اليونانيّ، وإلى تحرير كنيستنا من هيمنة الطغمة اليونانيّة المتَّهمة بالفساد .

اللد (فلسطين الداخل)

غسان اسبير منيّر

من مواليد مدينة اللد الفلسطينية، وابن لعائلة لديّة أصيلة صمدتْ في مدينتها على الرغم من النكبة والتطهير العرقيّ سنة ١٩٤٨. ناشط في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وناشط مجتمعيّ في اللد والرملة ضدّ العنف وهدم البيوت والتمييز العنصري الذي يمارَس ضدّ المواطنين العرب الأصلانيين في كلّ مجالات الحياة. عضو مؤسِّس وفعّال في "حراك الحقيقة الأرثوذكسية."