حُلم سلطانة (قصّة من الهند)
04-04-2016

تأليف رقيّة السخوات حسين

ترجمة د. لينا إبراهيم

ذات مساء كنتُ مستلقيةً على كرسيّ مريح في غرفة نومي أفكّر، بتكاسل، في وضع المرأة في الهند. لستُ متأكّدةً إنْ كنتُ قد غفوت أم لا. لكنّي، على ما أذكر، كنت مستيقظة تمامًا، ورأيتُ بجلاءٍ واضحٍ السماءَ المضاءةَ بنور القمر وبآلاف النجوم المتلألئة كحجارة الألماس.

وعلى حين غرّة وقفتْ سيّدة أمامي، لا أعرفُ من أين أتت. اعتقدتُ أنّها صديقتي الأخت سارة. "صباح الخير،" قالت الأخت سارة! تبسّمتُ في سرّي لأنّ الوقت لم يكن صباحًا بل ليلة مرصّعة بالنجوم. ومع ذلك أجبتُها قائلة: "كيف حالك؟"

"أنا بخير، شكرًا. هلّا خرجتِ معي وألقيتِ نظرةً على حديقتنا؟"

رنوتُ مرّةً أخرى إلى القمر من النافذة المفتوحة، وفكّرتُ في أنْ لا مشكلة في الخروج في هذه الساعة لأنّ الخدم الذكور كانوا نيامًا، وبإمكاني التمتّع بنزهة لطيفة مع الأخت سارة.

اعتدتُ التنزّه مع الأخت سارة عندما كنّا في دارجيلينغ. كثيرًا ما مشينا متشابكتَي اليدين وتحدّثنا بجذلٍ في الحدائق النباتيّة. تهيّأ لي أنّ الأخت سارة ربّما تكون قد أتت لتأخذني إلى حديقة كهذه. وافقتُ بلا تردّد وخرجتُ معها.

لشدّة دهشتي وجدتُ أنَّ صباحًا جميلًا قد حلّ عندما خرجنا. كانت المدينة بأكملها مستيقظةً، والشوارع تنبض بجموع صاخبة. شعرتُ بخجل كبيرٍ وأنا أفكّر في أنّني أمشي في الشارع في وضح النهار، ولكنْ لم يكن هناك أثرٌ لأيّ رجل.

كنتُ موضوعَ تندّرِ بعض المارّة. ورغم أنّني لم أفهم شيئًا من لغتهم، فإنّني كنت واثقةً بأنّهم يهزأون منّي. سألتُ صديقتي: "ماذا يقولون؟"

"النساء يقلْنَ إنّك تبدين كالرجال."

"كالرجال؟ ماذا يقصدون بذلك؟"

"قصدوا أنّكِ خجولة وخائفة تمامًا كالرجال."

"خجولة وخائفة كالرجال؟" لا بدّ من أنّها نكتة. أصبحتُ عصبيّةً جدًّا آنذاك، واكتشفتُ أنّ مرافقتي لم تكن إلّا شخصًا غريبًا. لم تكن الأخت سارة. آهٍ، كم كنت حمقاء لأخطئ بين هذه السيّدة وصديقتي العزيزة الأخت سارة.

شعرتُ بأنّ أصابعي ترتعش في يدها؛ فقد كنّا نمشي متشابكتي اليدين.

سألتني بحنان: "ما الأمر يا عزيزتي؟" أجبتُها بنبرة اعتذار: "أشعر أنّ هناك خطأً ما. فأنا امرأة محجّبة، ولم أعتدِ التجوّلَ سافرة."

"لا داعي للخوف من مصادفة أيّ رجلٍ هنا. هذه أرض النساء، الأرض المنعتقة من كلّ إثمٍ وسوء. الفضيلة هي ما يَحكم هنا."

شيئًا فشيئًا بدأتُ أستمتع بجمال المشهد. لقد كان رائعًا حقًا. تَراءَتْ لي قطعةٌ من العشب الأخضر وكأنّها وسادةٌ مخمليّة. شعرتُ وكأنّني أمشي على سجّادة طريّة. نظرتُ إلى الأسفل ووجدتُ الطريق مغطّى بالطحالب والأزهار.

عندها قلتُ: "ما أجملَ هذا!"

"هل أعجبك؟" سألت الأخت سارة. (كنت ما أزال أدعوها الأخت سارة، واستمرّت هي في مناداتي باسمي).

"أجل، أعجبني جدًّا، ولكنّني لا أريد أن أطأَ هذه الأزهار النَّضرةَ الخلّابة."

"لا عليكِ عزيزتي سلطانة. وطؤكِ لن يؤذيها؛ فهي أزهارُ طرقات."

"يبدو المكان برمّته أشبهَ بحديقة!" قلتُ بإعجاب. "لقد نظّمتنَّ كلّ نبتةٍ بإتقانٍ بديع."

"إنّ كالكوتا بأكملها يمكن أن تغدو حديقةً أجملَ من هذه، فقط لو أراد أهلُها جعلَها كذلك."

رقية سخوات حسين:

ولدت  في عام 1880 في البنغال التي كانت مستعمرة انكليزية. اقتصر تعليمها على اللغة العربية، الأوردو، والدراسات الإسلامية. ولم تتعلّم الإنكليزيّة إلّا سرًّا على يد أخيها. أسَّست مدرسة ثانوية للفتيات المسلمات لا تزال موجودة، كما أسَّست أيضا رابطة المرأة المسلمة. من مؤلّفاتها: عطش (1902)، وجوهر اللوتس (1924)، وأفكار تربويّة للفتاة الهنديّة الحديثة (1931). توفيت سنة 1932.

"سيعتقدون أنّ الاهتمام بالبستنة أمرٌ عديمُ الجدوى لأنّ لديهم أشياءَ أخرى كثيرة لفعلها."

"لم يتمكّنوا من إيجاد عذرٍ أفضل من هذا،" قالت مبتسمة.

كاد فضولي أن يبلغ حدّه لأعرف أين الرجالُ في هذا المكان. فلقد صادفتُ ما ينوف عن المئة امرأة وأنا أتنزّه هناك، ولكنّي لم أصادف رجلًا واحدًا.

سألتها: "أين الرجال في هذا المكان؟"

" في أماكنهم المناسبة، حيث ينبغي أن يكونوا."

"أرجوكِ أوضحي معنى أماكنهم المناسبة."      

"آه، حسنًا الخطأ خطئي. كيف لك أن تعرفي عاداتنا وأنتِ لم تأتي إلى هنا من قبل؟ نحن نبقيهم داخل المنازل."

"تقصدين كما يبقوننا هم في الحرملك؟"

"هو كذلك."

"ما أغرب ذلك!" انفجرتُ ضاحكةً. وكذلك فعلت الأخت سارة.

"ولكنْ، عزيزتي سلطانة، أيّ ظلمٍ في أن تغلقي الأبوابَ على النساء المسالمات، وتطلقي عنان الحرّيّة للرجال!"

"لماذا؟ إنّ خروجنا من الحرملك خَطِرٌ لأنّنا بحكم طبيعتنا ضعيفات."

"نعم، هذا غيرُ آمن ما دام هناك رجال يتجوّلون في الشوارع، تمامًا كالوضع حين يدخل حيوان مفترس إحدى الأسواق."       

"بالطبع لا."

"لنفترضْ أنّ بعض المجانين فرّوا من مأواهم، وشرعوا في إيقاع كلّ أنواع الأذى بمن حولهم من الرجال والخيول وبقيّة المخلوقات، ماذا سيفعل أبناءُ بلدك؟"

"سيحاولون اعتقالهم وإعادتهم إلى مأواهم."

"شكرًا لك! إذًا أنتِ لا تعتقدين أنّ من الحكمة إبقاءَ العقلاء داخل المأوى وإطلاقَ المجانين أحرارًا؟"

أجبتُ وقد تبسّمتُ برفق: "بالتأكيد لا."

"أتريدين الحقيقة؟ إنّ هذا هو ما يحدث بالضبط في بلدك. الرجال الذين يرتكبون، أو على الأقلّ القادرون على ان يرتكبوا، كمًّا لامتناهيًا من الأذى يُطلق لهم عنانُ الحرّيّة، بينما تسجن النساءُ البريئات في الحرملك! كيف لكِ أن تثقي بأولئك الرجال غيرِ المؤهَّلين خارج الأبواب؟"

"ولكنّنا عديمات الحيلة، ولا رأيَ لنا في ما يتعلّق بإدارة شؤوننا الاجتماعيّة. الرجل في الهند هو الرّبُّ والسّيد؛ ولقد أعطى لنفسه ما شاء من الجبروت والامتيازات، وسَجَنَ النساءَ في الحرملك."

"لماذا تسمحنَ لهم بسجنكنَّ؟"

"لا مفرَّ من ذلك، فهم أقوى منّا."

"لم يتمكّن الأسدُ من السيطرة على الجنس البشريّ رغم أنّه أقوى من الإنسان. أنتنّ أهملتنّ واجباتكنّ تجاه أنفسكنّ، وأضعتن حقوقكنّ الطبيعيّة بتجاهلكنّ مصالحَكنّ الشخصيّة."

"ولكنْ، يا عزيزتي الأخت سارة، لو قمنا بكلّ شيء بأنفسنا، فماذا سيفعل الرجالُ عندها؟"

"اعذريني، لا يتوجّب عليهم عملُ أيّ شيء لأنّهم لا يَصْلحون لشيء. فقط أمسِكْنَ بهم وارموهم داخل الحرملك."

قلت: "وهل من السهل أن نمسك بهم ونضعهم بين أربعة جدران؟ ولنفترضْ أنّ هذا قد تمَّ، فهل سيأخذون معهم كلَّ أعمالهم السياسيّة والتجاريّة إلى داخل الحرملك؟"

لم تنبس الأخت سارة ببنت شفة، ولكنّها ابتسمتْ بعذوبة. لعلّها اعتقدتْ أنْ لا جدوى من النقاش مع شخصٍ محدودِ الأفق مثلي.

كنّا آنذاك قد وصلنا إلى منزل الأخت سارة الذي يقع في حديقةٍ على شكل قلب. كان بناءً من طابقٍ واحد، وذا سقفٍ حديديٍّ مموّج. لقد كان أجمل من أيّ بناءٍ فارِهٍ في بلدي؛ جميلًا إلى درجةٍ يصعب عليَّ وصفَ أناقته، وشدّةَ تأثيثه وتزيينه بعنايةٍ وذوق.

جلسنا متجاورتيْن، ثم أحضرتْ من الردهة قطعةَ تطريز، وباشرتْ في وضع تصميمٍ حديثٍ عليها.

سألتني: "هل تعرفين الحياكة بالإبرة؟"

"بالتأكيد، وهل هناك شيءٌ آخر لنفعله غير ذلك في الحرملك؟"

أجابت ضاحكةً: "ولكنّنا لا نثق بأعضاء الحرملك هنا في ما يخصّ التطريز. فليس للرجل ما يكفي من الصبر ولو لإدخال خيطٍ في خرم إبرة."

"هل فعلتِ كلّ هذا بمفردك؟" سألتُها وأنا أشير إلى الأغطية المختلفة المطرّزة لطاولات الشاي.

أجابتني: "نعم."

"وكيف تجدين الوقتَ الكافي لتقومي بكلّ هذه الأمور؟ ثمّ إنّ عليك القيامَ بالأعمال المكتبيّة أيضًا، أليس كذلك؟"

"أجل، ولكنّني لا أبقى في المختبر طوال النهار. أنا أنجز عملي خلال ساعتين."

"ساعتين! وكيف ذلك؟ إنّ الموظفين والقضاة في بلدي ــــــــ على سبيل المثال ـــــــ يعملون سبع ساعات في اليوم."

"لقد رأيت العديد منهم يقوم بعمله. هل تعتقدين أنّهم يعملون الساعات السبعَ بأكملها؟"

"بالطبع يعملون."

"لا يا عزيزتي سلطانة، أنتِ مخطئة. إنهم يبدِّدون وقتهم في التدخين؛ ومنهم من يدخّن سيجارتين "شوروت" أو ثلاثًا خلال أوقات الدوام. يتحدّثون كثيرًا عن عملهم، ولكنّهم لا يعملون إلّا قليلًا. لنقلْ إنّ كلّ سيجارة تستغرق نصفَ ساعة، وإنّ أحدهم يدخن اثنتيْ عشرة سيجارةً في اليوم الواحد، عندها سيتبيّن لنا أنّه يضيّع ستّ ساعات من وقته في التدخين فقط."

تحدّثنا في مواضيع عدّة، وعلمتُ أنَهم لم يتعرّضوا لأيّ وباء، أو يعانوا لسعاتِ الناموس كما نعاني نحن. وما أشدّ دهشتي حين علمتُ أنّ أحدًا لم يمت في "أرض السيّدة" في سنّ الشباب إلّا فيما ندر.

سألتني: "أَمُهتمّةٌ أنتِ بمشاهدة مطبخنا؟"

أجبتها: "يشرّفني ذلك." ذهبنا إلى هناك. وقبل أن أصل كان قد طُلب من الرجال مغادرة المكان. كان المطبخ يتوسّط حديقةَ خُضرٍ غنّاء، كلُّ عريشةٍ وكلُّ حبّةٍ من الطماطم كانت زخرفةً في حدّ ذاتها. لم أجد أيّ دخان أو مدخنة فيه. أمّا النوافذ فكانت مزيّنةً بزهور الجنائن، ولم يكن هناك أيُّ أثر للنار أو الفحم.

سألتها: "كيف تطبخون؟"

"بحرارة الشمس،" أجابتني وهي تريني الأنبوبَ الذي يمرُّ منه ضوءُ الشمس المُركّز وحرارته. ثمّ قامت بطهي الطعام لتوضح لي كيف تتمّ العملية.

سألتُها بذهول: "كيف أمكنكم أن تجمعوا حرارةَ الشمس وتخزّنوها؟"

"دعيني إذنْ أخبرك قليلًا عن تاريخنا. منذ ثلاثين عامًا ورثتْ ملكتُنا الحاليّة الحكمَ، وكانت تبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا. لكنَّها كانت ملكةً بالاسم فقط. أمّا الحاكم الفعليّ للبلاد فكان رئيسَ الوزراء. أحبّت ملكتُنا الطيّبة العلمَ كثيرًا، وأصدرتْ أوامرَها بوجوب تعليم جميع النساء في دولتها. وبناءً عليه أُنشئ العديدُ من مدارس الفتيات مدعومةً من قِبل الحكومة، وانتشر العلمُ بين كلّ النساء. مُنعَ الزواجُ المبكّر، ولم يكن يُسمح لأيّ امرأةٍ بالزواج قبل بلوغها الحادية والعشرين. يتوجّب عليّ إخبارك أنّنا قبل هذا التحوّل كنّا محتجزاتٍ خلف الحجاب."

"وكيف قلبْتُنّ الطاولة على ذاك الوضع إذن؟" قاطعتها وأنا أضحك.

أجابت: "العزلة بقيتْ على حالها." وأردفتْ: "خلال بضع سنوات أصبحتْ لنا جامعاتٌ منفصلة لا يُقبَل أيُّ رجلٍ فيها. في العاصمة، حيث تعيش الملكة، جامعتان، ابتكرتْ إحداهما منطادًا رائعًا وصلتْ به مجموعةً من الأنابيب، ومن خلال ذلك المنطاد الرائع الذي نجحوا في إبقائه عاليًا فوق الغيوم، تمكّنوا من استجرار كمّيّة الماء التي يريدونها من الجوّ. وعندما ازداد استجرارُ المياه من قبل الجامعة لم تعد الغيوم تتجمّع. وبهذا أوقفتْ رئيسةُ الجامعة الذكيّة المطرَ والعواصف."

"حقًّا! الآن عرفتُ لماذا لا يوجد طينٌ هنا،" قلتُ، "لكنني لم أفهم كيف أمْكن تجميعُ الماء في الأنابيب؟"

شرحتْ لي العمليّة، ولكنّني لم أكن قادرةً على الاستيعاب لأنّ معرفتي العلميّة محدودة جدًّا. على أيّ حال تابعتْ: "لحظةَ عرفت الجامعةُ الثانيةُ بهذا الأمر انتابتها غيرةٌ شديدة، وحاولت القيامَ بعملٍ أكثر استثنائيّة، فابتكرتْ جهازًا من شأنه أن يجمع الكمّيّة المطلوبة من حرارة الشمس، واحتفظت بالحرارة مخزّنة لتُوزّعها فيما بعد على الآخرين بحسب الحاجة. وفيما انشغلت النساءُ بالأبحاث العلميّة، كان رجالُ هذا البلد منهمكين بزيادة قوّتهم العسكريّة. وحينما عرفوا بأنّ الجامعتين النسائيّتين استطاعتا أن تستجرّا المياهَ من الجوّ، وأن تجمعا حرارةَ الشمس وتخزِّناها، ضحكوا على نساء تلك الجامعات، ووصفوا الأمرَ بأنّه مجرّدُ  كابوسٍ عاطفيّ."

"إنَّ إنجازاتكنّ رائعة بالفعل. ولكنْ، أخبريني: كيف تمكّنتنَّ من وضع رجال بلادكن في الحرملك؟ هل خدعتنّهم في البداية؟"

"لا..."

"من غير المرجّح أن يسلِّم الرجالُ حرّيتهم، ويتخلّوْا عن حياتهم الطليقة بمحض إرادتهم، ليُحْتَجَزوا بين جدران الحرملك الأربعة! لا بدّ من أنّه قد تمّ التغلّبُ عليهم."

"نعم، لقد تمّ ذلك."

"مِن قِبل مَن؟ أفترضُ أنّ ذلك حدث بواسطة بعض النساء المحاربات؟"

" أبدًا. ليس بقوّة السلاح."

"هذا صحيح. من الصعب حدوث ذلك؛ فأسلحة الرجال أقوى من أسلحة النساء. إذن بماذا؟"

"بالعقل."

"ولكن، حتّى عقول الرجال أكبر وأثقل من مثيلاتها عند النساء. أليس كذلك؟"

"بالتأكيد. ولكن، ما شأنُ هذا بذاك؟ الفيل أيضًا لديه عقلٌ أكبر وأثقل من عقل الرجل، ورغم هذا لطالما قيّدَ الرجالُ الفِيَلةَ، وجعلوها تعمل وفق رغباتهم."

"ونِعْمَ القول. ولكنْ أرجوكِ قُصّي عليّ كيف حدث ذلك؟ أنا أتحرّقُ شوقًا لكي أعرف."

"إنّ عقول النساء أسرعُ بعضَ الشيء من عقول الرجال. قبل عشر سنوات، عندما وَصَفَ ضبّاطُ الجيش اكتشافاتِنا العلميّة بأنّها محضُ كابوسٍ عاطفيّ، أرادت بعضُ الشابّات أن يعلّقن. لكنّ رئيستَي الجامعتين كبحتا جماحهنّ، وقالتا لهنّ إنّ الجواب يجب أن يكون بالأفعال لا بالأقوال، وذلك حين تسنح الفرصة. ويبدو أنّهما لم تنتظرا طويلًا حلولَ هذه الفرصة."

صَفّقتُ بحماسةٍ شديدة: "هذا حقًّا شيءٌ مدهش. والآن هؤلاء المتفاخرون هم الذين يحلمون أحلامًا عاطفيّة."

"حدث بعد فترة أن التجأ إلينا أشخاصٌ من دولةٍ مجاورة، بعد أن تعرّضوا لمشاكلَ في بلدهم نتيجةً لتورّطِهم في جُنحٍ سياسيّة. طلب الملكُ المهتمُّ بالسلطة أكثر من اهتماهه بالحكم الصالح من ملكتنا الطيّبة القلب أن تسلّم أولئك الأشخاص إلى ضبّاط جيشه. رفضت الملكة لأنّ تسليمَ اللاجئين كان ضدّ مبادئها. هذا الرفض حدا بالملك إلى إعلان الحرب على بلادنا. هبّ ضبّاطُ جيشنا دفعةً واحدة، وتقدّموا للقاء العدو الذي كان أقوى منهم. لا شكّ في أنّ ضبّاطنا قد واجهوا العدو ببسالة، ولكن بالرغم من كلّ شجاعتهم تقدّم الجيشُ الغازي شيئًا فشيئًا لاحتلال بلادنا. كان كلّ الرجال تقريبًا قد خرجوا للقتال، حتّى ابن الستّة عشر عامًا لم يبقَ في بيته. معظمُ محاربينا قُتلوا، والباقون دُفعوا إلى الخلف، وأصبح جيشُ العدوّ قاب خمسةٍ وعشرين مِيلًا من العاصمة."

وتابعتْ:

"اجتمعتْ عاقلاتُ النساء في قصر الملكة للنّصح حول ما يجب فعلُه لإنقاذ البلاد. بعضهنّ اقترح القتالَ كما فعل الرجال. اعترضتْ أُخريات، وقُلن إنّ النساء لسن مدرّباتٍ على القتال بالسيوف والأسلحة الناريّة، بل هنّ لم يعتدن القتالَ بأيّ سلاح كان. مجموعة ثالثة صرّحن بكلّ أسى أنّهن ضعيفات البُنية. تدخّلت الملكة: ‘إذا كنتنّ غيرَ قادراتٍ على إنقاذ بلادكن لحاجتكنّ إلى القوّة البدنيّة، فحاولن ذلك بقوّة العقل.’ خيّم صمتٌ مطبقٌ على المكان بضعَ دقائق، ثمّ تابعتْ جلالتُها قائلةً: ‘يجب أن أنتحر إذا ضاعت الأرضُ وضاع معها شرفي.’ عندها تكلّمتْ رئيسةُ الجامعة الثانية (التي جمعتْ حرارةَ الشمس)، وكانت قد بقيتْ صامتةً تفكّر طوال فترة المشاورات، فقالت إنّهنّ ضائعات، ولم يتبقّ لهنَّ سوى بريقٍ ضئيلٍ من الأمل، لكنّ لديها على أيّة حال خطّةً تريد تجربتَها، وستكون تلك محاولتَها الأولى والأخيرة؛ فإنْ فشلتْ فلن يبقى أمامهنّ سوى الانتحار. أقسمت الحاضراتُ جميعُهنّ على أنّهنّ لن يسمحن باستعبادهنَّ مهما حدث."

وأكملتْ:

"شكرت الملكةُ الحاضرات بحرارة، وطلبتْ إلى رئيسة الجامعة تجربةَ خطّتها. وقفتْ رئيسةُ الجامعة مرّةً أخرى قائلةً: ‘يجب على الرجال دخولُ الحرملك، وأنا أطلب هذا من أجل الحجاب.’ فردّتْ جلالتها: أجل بالطبع." وفي اليوم التالي دَعَت الملكةُ جميعَ الرجال إلى دخول الحرملك لأجل الشرف والحرّيّة. ولأنّهم كانوا جرحى ومنهكين من الحرب فقد تقبّلوا الأمرَ وكأنّه هِبةٌ. انحنوْا، ودخلوا الحرملك من دون أن يتلفّظوا بكلمة اعتراض. لقد كانوا على يقين من أنْ لا أملَ يُرتجى في خلاص البلاد. إذّاك تقدّمتْ رئيسةُ الجامعة، وبرفقتها طالباتُها الألفانِ، إلى ساحة المعركة. ومع وصولهنّ هناك وجّهنَ كلّ أشعّة الشمس المركّزة وحرارتِها باتّجاه العدو."

وتابعتْ:

"كانت كمّيّةُ الحرارة والضوء أكبرَ من أن يحتملها الجنود. لذلك ولّوْا أدبارَهم مذعورين، غيرَ مدركين من شدّة حيرتهم كيف يواجهون تلك الحرارةَ اللاذعة. لقد كانوا يحترقون من حرارة الشمس عندما هربوا مخلّفين وراءهم أسلحتَهم وذخائرَهم. ومنذ ذلك الحين لم يفكّر أحدٌ في غزو بلادنا."

"ألم يحاول الرجال الخروج من الحرملك بعد ذلك؟"

"بلى، فلقد أرادوا حرّيّتهم. بعضُ مفوّضي الشرطة والقضاة أرسلوا إلى الملكة أنّ الضبّاط العسكريين يستحقّون بالتأكيد السجنَ لإخفاقهم، ولكنّهم لم يهملوا واجبَهم أبدًا، ولهذا يجب ألّا يُعاقبوا. ورَجَوْا من الملكة أن تعيدهم إلى مناصبهم. فأرسلتْ جلالةُ الملكة إليهم تعميمًا بأنّهم سيُستدعَوْن إن اقتضت الحاجة إلى الاستعانة بخدماتهم، ولكنّهم في الوقت الحالي سيبقون حيث هم. والآن، بعد اعتيادهم نظامَ الحجاب، وتوقّفِهم عن التذمّر من عزلتهم، أصبحنا نطلق على هذا النظام اسم السلملك بدلًا من الحرملك."

"لكن كيف تتمكّنّ من الاستمرار من دون رجال شرطة أو قضاة في حال وقوع سرقةٍ أو جريمة؟" سألتُ الأخت سارة.

"منذ أن أسّسنا نظامَ السلملك لم تحدث أيّة جريمةٍ أو خطيئة. لذلك لا نحتاج إلى شرطيّ كي يَعثرَ على مجرم، ولا إلى قاضٍ ليحكّم في قضيّةٍ جنائيّة."

"هذا بالفعل رائعٌ جدًّا. أنا أفترض أنَّه لو وُجدت امرأةٌ غير شريفة فأنتنّ قادراتٌ على عقابها بسهولة. فكما ربحتنّ نصرًا حاسمًا من دون إراقة قطرة دمٍ واحدة، بإمكانكنّ محاربةُ الجريمة والمجرمين من دون صعوبةٍ تُذكر."

"والآن يا عزيزتي سلطانة، أتفضّلين الجلوسَ هنا أمْ نذهب إلى غرفة الاستقبال؟"

"إنّ مطبخك لا يقلّ شأنًا عن مخدع الملكة نفسها،" أجبتُ بابتسامةٍ لطيفة. "ولكنْ يتوجّب علينا المغادرة في الحال، لأنّ الرجال لا بدّ من أن يلعنوني الآن لأنّني أبقيتُهم بعيدين عن واجباتهم في المطبخ كلَّ هذه الفترة." وضحكنا من أعماق القلب.

"آه، ما أشدَّ فرحةَ أصدقائي ودهشتهم حين أعود إلى بلادي وأخبرهم أنّ النساء في ‘أرض النساء’ البعيدة هنّ حاكماتُ البلاد، وأنهنّ يتحكّمن في الشؤون الاجتماعيّة، بينما يقبع الرجالُ في السلملك للعناية بالأطفال والطبخ وما شابه ذلك من الأمور المنزليّة، وأنّ الطبخ تحديدًا أمرٌ يسيرٌ إلى درجة الاستمتاع بالقيام به."

"أجل. أخبريهم بكلّ ما رأيتِه هنا."

"من فضلكِ، أخبريني كيف تزرعن الأراضي وتحرثنها وتؤدّين بقيّة الأعمال اليدويّة المجهدة؟"

"حقولُنا تُحرَثْ بواسطة الكهرباء التي تَمدّ بالطاقة أيضًا جميعَ الأشغال المجهِدة الأخرى. كما نستخدمها في النقل الجوّيّ لأنْ لا سككَ حديديّةً أو طرقاتٍ معبّدةً هنا."

أضفتُ: "ومن ثمّ فلا حوادث سير أو اصطدام على السكك الحديديّة!" ثمّ سألتُها: "ألم يحدث أن عانيتم (عانيتنّ) شحًّا في مياه الأمطار؟"

"أبدًا. منذ أن أطلقنا ‘المنطاد المائيّ’. انظري إلى المنطاد الكبير والأنابيب المعلّقة به، يمكننا بمساعدتها الحصولُ على كمّيّة المطر التي نحتاج إليها. كما أنّنا لم نعد نعاني الفيضاناتِ أو العواصفَ الرعديّة. نعمل جميعُنا الآن على جعل الطبيعة مدرّةً قدر الإمكان. ولا وقت لدينا للخصام لأننا نعمل دائمًا. إنَّ ملكتنا النيبلة مولعةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ بالزراعة، وطموحُها هو أن تحوّل البلدَ بأكمله إلى حديقة كبيرة."

"فكرة رائعة. وما هو طعامكم الأساسيّ؟"

"الفاكهة."

"كيف تحافظون على اعتدال الطقس في الأيّام الحارّة؟ نحن نعتبر هطولَ المطر في الصيف نعمةً من السماء."

"عندما يصبح الطقس حارًّا إلى درجةٍ لا تُحْتَمل، نرشّ الأراضي بزخّاتٍ وفيرةٍ من الماء نجلبها من النوافير الاصطناعيّة. أمّا في الأيّام الباردة فتكون غرفنا دافئة بفضل حرارة الشمس."

ثمّ أرتني حمّامها ذا السقف المتحرّك، حيث بإمكانها التمتّعُ بالاستحمام متى شاءت، وذلك بمجرّد إزاحة السقف (الذي يبدو كغطاء صندوق) وفتح صنبور المياه.

"إنّكم أناسٌ محظوظون،" هتفتُ، وتابعتُ: "أنتم لا تعرفون الحاجة. هل لي أن أسألك عن ديانتك؟"

"إنّ ديننا مبنيٌّ على المحبّة والحقيقة. وواجبنا الدينيّ هو أن نحبّ بعضنا البعض، وأن نبقى صادقين مخلصين. وإن كذب أحدُنا، هو أو هي، فســ..."

"سيُعاقب بالموت؟"

"كلّا، ليس بالموت. نحن لا نستمتع حين نقتل أحدَ مخلوقات الله، خصوصًا إذا كان إنسانًا. على الكاذب أن يغادر هذه البلادَ بشكل نهائيّ وبلا رجعة."

"ألا تمْكن مسامحةُ المعتدي؟"

"بلى، يُسامح إن تاب توبةً صادقة."

"هل تُمنعون من رؤية أيّ رجل باستثناء أقاربكم؟"

"لا أحد باستثناء المحارم."

"دائرة الأقرباء المحارم محدودةٌ جدًّا عندنا. حتى ابنُ العم ليس كذلك."

"أمّاعندنا فهي كبيرةٌ جدًّا؛ فابن العم البعيد يُعتبر أخًا لنا."

"جميل جدًّا. إنّني أرى أنّ النقاء هو ما يَحكم أرضكم. أتمنّى رؤية هذه الملكة الطيّبة التي تمتلك بُعدَ النظر والحكمة اللذين مكّناها من صياغة كلّ هذه القوانين."

"حسنًا،" قالت الأخت سارة.

ثمّ ثبّتتْ كرسييّن ببراغٍ على مربعٍّ خشبيّ، وعلّقتْ عليه كُرتين مصقولتيْن لامعتيْن. عندما سألتُها عن الكُرتيْن، أجابتني أنّهما مملوءتان بالهيدروجين، وتُستعملان للتغلّب على مفعول الجاذبيّة الأرضيّة. كانت الكرتان بسَعَتيْن مختلفتيْن لتتلائما مع الأوزان المختلفة المبتغى التحكّم بها. بعد ذلك ثبّتتْ بالسيّارة الهوائيّة مجذافيْن يشبهان الأجنحة، وقالت إنَّهما يعملان بالكهرباء. بعدما تمكّنا من الجلوس في السيّارة مرتاحيتْن، ضغطتْ على أحد الأزرار، وبدأ المجذافان بالدوران بتسارعٍ مطّرد. في البداية ارتفعنا ستَّ أقدام أو سبعًا، وبعدها شرعنا بالطيران. وقبل أن أدرك أنّنا بدأنا فعلًا بالحركة كنّا قد وصلنا إلى حديقة الملكة.

أنزلتْ صديقتي السيّارة الهوائيّة، وذلك عبر عكس عمل الآلة التي توقّفتْ بالكامل حالما لامست السيارةُ الأرضَ، فترجّلنا منها.

كنت قد رأيتُ الملكة، من السيّارة الهوائيّة، تتنزّه مع ابنتها ذات الأعوام الأربعة ووصيفتِها في أحد ممرّات الحديقة.

"مرحبًا، يا أنتِ، "صاحت الملكةُ محدِّثةً الأخت سارة، التي قدّمتني إلى جلالتها. استقبلتني الملكة بشكل ودّي من دون أيّة مراسم.

كنت غايةً في السعادة للتعرّف إليها. وفي خِضَمِّ الحديث الذي دار بيننا، صرّحتْ لي بأنّها لا تمانع في أن يتاجر مواطنوها مع البلدان الأخرى. ثمّ أضافت: "ولكنْ من المستحيل أن يتمّ هذا مع البلدان التي تُجبر النساءَ على البقاء في الحرملك، لأنّ هذا يمنعهنَّ من المجيء للمتاجرة معنا. نحن نعتبر الرجال أصحابَ أخلاقٍ وضيعةٍ، ولهذا لا نحبّ التعامل معهم.  ليست لدينا أطماعٌ في أرض الآخرين، ولا نحارب من أجل قطعةٍ من الألماس مع أنّها قد تكون أكثرَ بريقًا بألف مرّةٍ من الكوهينور.(1) وكذلك لا نحسد أيّ ملك على عرشه، ولو كان عرشَ الطاووس.(2) نحن نغوص في محيط المعرفة، ونحاول أن نكتشف الجواهرَ الثمينةَ التي خبّأتها الطبيعةُ من أجلنا، ونستمتع بهِبات الطبيعة قدر المستطاع."

بعد أن استودعتُ الملكة، زرتُ الجامعتين الشهيرتين وأُريتُ بعضَ منتجاتهما ومختبراتهما ومراصدهما. عند الانتهاء من زيارة تلك الأماكن الممتعة عدنا من جديد إلى السيّارة الهوائيّة. ولكن، حالما بدأتْ بالتحرّك انزلقتُ قليلًا. هذه الانزلاقة أيقظتني من حلمي، لأفتح عينَيَّ فأجدَ نفسي في غرفة نومي مستلقيةً على الكرسيّ ذاته.

الهند، 1905

 

(1) الكوهينور (بالفارسيّة: کوهِ نور): جبل النور. ألماسة 105 قيراط (21.6 غرام). كانت أكبر ألماسةٍ في العالم، وقد تملّكها الكثيرُ من الحكّام، إلى أن استحوذتْ عليها "شركةُ الهند الشرقيّة،" وأصبحتْ جزءًا من جواهر التاج البريطانيّ عندما أُهديت للملكة فيكتوريا حين تُوّجتْ إمبراطورةً على الهند عام 1877.

(2) عرش الطاووس: عرشٌ ذهبيّ أمر بصنعه الإمبراطور شاه جهان في القرن السابع عشر. ويُعتبر من أفخم العروش التي جلس عليها الأباطرةُ والملوك. استولى عليه الفرس، وفُقد أثناء حربهم مع الكرد، ولم يُعثر عليه منذ ذلك الحين.

 

لينا إبراهيم
من سوريا، حائزة شهادة الدكتوراة في الأدب الإنكليزيّ من جواهر آل نهرو / نيودلهي. تعمل حاليًّا رئيسة قسم الأدب الإنكليزيّ في كليّة البيان / مسقط في سلطنة عُمان.