رأي في الوضع الفلسطينيّ الحاليّ *
14-09-2017

 

أيّها الأحبّة

تحيّة لكم منّي، ومن مجلة الآداب، ومن رفاقي في حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان.

سعيد جدًّا بأن التقيكم. سمعتُ كثيرًا عنكم، عن تفانيكم وجذريّتكم. ويبدو لي ممّا سمعتُه أنّكم اسمٌ على مسمًّى: نبضٌ شبابيّ من فلسطين.

سأسمح لنفسي بأن أخبرَكم رؤيتي ورؤيةَ بعض اللبنانيين والعرب للوضع الفلسطينيّ الحاليّ. وأتمنّى عليكم أن تصوّبوني في فترة النقاش عند نهاية كلمتي.

الوضع الفلسطينيّ الحاليّ، كما أراه، بلغ قعرَ هزيمته:

1) سلطة في الضفّة الغربيّة متعاملة، سرًّا وعلنًا، مع الاحتلال، وتعتقل الناشطين، وتُوقف الصحافيين، وهي غارقةٌ حتى أذنيْها في الفساد الماليّ والسياسيّ والعائليّ.

2) سلطة في غزّة، وافقتْ بشكلٍ واضح على "حلّ الدولتين"، مع أنّها ــــ ويا لَلغرابة ــــ نفت في الوقت نفسِه اعترافهَا بـ"إسرائيل"! وهي تمارس صنوفًا من القهر السياسيّ والاجتماعيّ، وغرقتْ حتى أذنيها في الصراعات العربيّة الداخليّة في غير قطرٍ عربيّ.

3) يسار فلسطينيّ شبه مستقيل، إلّا مَن عصم ربُّك، من مهامّه الطبقيّة والنضاليّة كافّةً، واستكان إلى ماضٍ مجيدٍ ورموزٍ شامخة، أو انضمّ إلى مؤسّسات السلطة بذريعة "الواقعيّة."

4) منظّمات غير حكوميّة تغزو المجتمعَ الفلسطينيّ طولًا وعرضًا، فتسدُّ الثَغَراتِ التي تخلّت عنها السلطةُ والفصائلُ الفلسطينية، وتستقطبُ المناضلين السابقين بالوظائف والرواتب، لكنّها تجزّئ القضيّةَ الوطنيّة وتختزلُها في مَلفّاتٍ معزولة (عدالة انتقاليّة، تمكين، محو أمّيّة، امرأة، أطفال،...)، نازعةً العَصَبَ السياسيَّ الثوريَ من كلّ ملفّ، وفاصلةً عُرى ارتباطه بالملفّات الأخرى.

لكنْ، في المقابل، هناك حالاتٌ شبهُ متمرّدة، ما زالت تحتفظ بشيء من النقاء، وبالكثير من المُثُل الثوريّة، داخل المجتمع، وداخل اليسار الذي لم يتكلّسْ بعد، وداخل حركات كحركة الجهاد الإسلاميّ مثلًا، وداخل حَراكات شبابية تمثّل مبادراتٍ شبهَ فرديةٍ على ما يبدو (أبرزُها نموذجُ الشهيد باسل الأعرج).

هذه هي الصورة العامّة التي أمتلكُها، أنا وبعضُ الآخرين، عن صورة الوضع الفلسطينيّ الحاليّ، ويمكن تلخيصُها بجملةٍ واحدة: تململٌ واضحٌ من كلّ الموجود بلا استثناء، ومحاولاتٌ جنينيةٌ لخلق مواجهةٍ فاعلةٍ ضمن الإمكانات المتاحة.

***

 

ما ينبغي قولُه بعد ذلك كلّه هو أنّ الوضعَ الفلسطينيّ المنهار، على الرغم من حالات الضوء القليلة، ينعكس سلبًا، وبشكل مباشر، على الوضع التحرريّ العربيّ برمّتِه. فاليوم، مَن يستطيع أن يتجاهلَ تكاثرَ الأصوات التي تقول داخل كلّ قطر عربي: "لماذا نكون ضدّ إسرائيل إذا كان الفلسطينيون قد تصالحوا معها؟" و"لماذا نكون مَلَكيين أكثرَ من الملك؟" "ولماذا نثور على إسرائيل إذا كان الفلسطينيون قد رضخوا لها؟"

هذه الأقوال تعكس أمريْن: الأول أنّ كثيرين من العرب ما زالوا يعتبرون فلسطين قضيّةً خارجيّة، تستوجب في أقصى الأحوال "التضامنَ" معها؛ ومفهومُ "التضامن" لا يليق بنا، كتقدّميين وقوميين عرب، لأنّ العدوانيّة الإسرائيليّة لا تقتصر على شعب فلسطين وحده. والأمر الثاني، وهو الأهمّ، أنّ ابتعاد فلسطين عن كونها "قضيّةً مركزيّة" يبرِّر الانهزامَ أمام "إسرائيل" والتطبيعَ معها.

لا مبالغةَ في القول، إذن، إنّ تغييرَ الوضع الفلسطينيّ الحاليّ ليس من وظيفة الفلسطينيين وحدهم، بل ينبغي أن يكونَ ضمن المهامّ الرئيسة لايّ مناضل عربيّ خارج فلسطين... بالتوازي، طبعًا، مع مهامّ الدقرطة وحقوق المهمَّشين والتعليم المجّاني وإصلاح البيئة والجهاز الصحّيّ (الخ) لا على حسابها. بكلامٍ آخر: أنا مع التدخّل في الشؤون الداخليّة الفلسطينيّة، ولو من أجل مصلحةِ لبنان أو مصر أو سوريا وحدها في وجه التطبيع والأسرلة والانسحاق الكامل أمام الولايات المتحدة.

ولأكنْ أكثرَ تحديدًا فأقول: إنّ الإسهامَ في إسقاط أوسلو، وشبيهاتِ أوسلو (التي نرى نُذُرَها "المجمّلةَ" والمنمّقة في وثيقة حركة "حماس" الجديدة)، ينبغي أن يكونَ، بلا أدنى حرج، من الوظائف الأولى لأيِّ مثقفٍ حرّ أو مناضلٍ حرّ داخل أيّ بلدٍ عربيّ.

إنّ اوسلو وشبيهاتِها لم تعزِّز المنحى الانعزاليَّ والقُطْري داخل البلدان العربيّة والأحزابِ العربيّة فحسب، بل قدّمتْ أيضًا ذرائعَ إضافيةً للتوجّهات المحافظة داخل الحركاتِ "التقدميّة" نفسها، وقوّت اليمينَ العربيَّ بشكلٍ عامّ، ورسّختْ منطقَ التطبيع مع الصهيونيّة داخل بلادنا العربيّة. لذا، فإنّ مقاطعة الكيان الصهيونيّ ينبغي، بالضرورة، أن يعني القطعَ مع منطق أوسلو، والقطيعةَ العربيّةَ الشعبيّةَ والتقدميّة مع كلّ إفرازات أوسلو، وعلى رأسها مؤسّساتُ السلطة.

***

أيّها الأحبّة،

ثمة مجتمعٌ دوليّ جديد، مؤيّدٌ لفلسطين، يتنامى يومًا بعد يوم، ولكنّه لا يستند إلى الدوائر التقليديّة في العالم (من حكوماتٍ ومجموعات ضغط محافظة مثلًا..)، بل إلى الجامعات والفنّانين والفرق الموسيقيّة والمثقفين والجمعيّات الأكاديميّة والنقابات والكنائس والجماهير الرياضيّة. هذه المقاطعة الاقتصاديّة والفنيّة والثقافيّة والأكاديميّة والرياضيّة... بدأتْ منذ تأسيس حركة المقاطعة العالميّة (بي. دي. أس) سنة 2005 تَحفر عميقًا في وجدان الناس، وخصوصًا في دول الغرب الرأسماليّ، حيث ضاق كثيرون ذرعًا باتهامات "معاداة الساميّة" التي يقذفها الصهاينةُ في وجوههم كلّما دانوا ممارساتِ إسرائيل الوحشيةَ المخالفةَ للقانون الدوليّ نفسِه، وتحديدًا لجهة احتلال الأراضي العربيّة في العام 1967 ومنعِ حقِّ عودةِ النازحين الفلسطينيين إلى ديارهم بموجب القرار 194 وبناءِ جدار الفصل العنصريّ الصهيونيّ وممارسة الأبارتهايد داخل فلسطين 48. وقد أدّت هذه المقاطعة المتنامية إلى تراجع الاستثمارات داخل الكيان الصهيونيّ (مثلًا تراجعتْ سنة 2014 بنسبة 46 بالمئة بحسب تقرير للأمم المتحدة)، وإلى رفض الآلاف من الناس في العالم العزفَ أو الغناءَ أو حضورَ وِرَش تدريبٍ أو مؤتمرات داخل الكيان لأنّ ذلك يُسهم في تلميع صورته الدمويّة وإكسائها حلّةً قشيبةً من الفنّ والحضارة والعلم والانفتاح والتسامح.

هذا المجتمع الدوليّ الجديد، الذي يتنامى في الغرب بشكل خاصّ، هو قوةٌ مؤازرةٌ كبرى لنا. لكنّه لن ينمو بشكل كامل ما لم نحطّمْ أوسلو هنا أيضًا. لقد بات تحطيمُ أوسلو وتحطيمُ إفرازاته حاجة دوليّة تقدميّة وإنسانيّة، لا عربيّة فقط.  فلا يُعقل أن نطالب العالمَ بأن يقفَ معنا حين يكون "ممثِّلونا" الرسميّون الفلسطينيون ضدّ أحرار العالم الواقفين معنا؟ هل تذْكرون مثلًا أنّ جبريل الرجوب، رئيسَ الاتحاد الفلسطينيّ لكرة القدم، سحب في ربيع العام 2015 الطلبَ المقدَّمَ إلى الجمعيّة العموميّة للاتحاد الدوليّ (فيفا) بتعليق عضويّة "إسرائيل" في الاتحاد، وراح يستجدي مقابلَ ذلك السحب أن "تمنحنا إسرائيلُ حرّيّةَ التنقّل داخل فلسطين وخارجها والسماح بدخول معدّات الرياضة"؟(1) 

وهل تذْكرون أنّ محمود عباس، رئيسَ السلطة الفلسطينيّة، قال سنة 2013 في جنوب أفريقيا إنّه لا يدعو إلى مقاطعة إسرائيل بل إلى مقاطعة المستوطنات وحدها؛ وهو تصريح خطير دفع عمر البرغوثي، أحدَ مؤسِّسي بي. دي. أس إلى القول "إنّ أيّ مسؤول فلسطينيّ يتحدث علنًا اليوم ضدّ مقاطعة إسرائيل - لا سيّما في دولة كجنوب إفريقيا، حيث الحزبُ الحاكم، والاتّحاداتُ التجاريّة الرئيسة، والكنائسُ، ومجموعاتُ المجتمع المدنيّ الأخرى قد صادقتْ بقوّة على حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات - يُظهر فقط كم هو لامبالٍ بطموحات شعبه للحريّة والعدالة والمساواة، وكم هو غافلٌ عن صراعنا من أجل الحقوق غير القابلة للتأويل"؟(2)

***

أيّها الرفاق الأحبّة،

إنّ من أهمّ العوائق أمام تحرّرنا من الصهيونيّة، فلسطينيين وعربًا وأنصارًا دوليين لفلسطين، هو السلطة الفلسطينيّة، فكرًا ورموزًا ومؤسَّسات: تلك السلطة التي تنسِّق أمنيًّا مع الاحتلال، وتعتقل المناضلين، وتؤجّل القضايا الأهمّ إلى ما لا نهاية، وتتنازل عن صفد، وتشتري الولاءات، وتقف ضدّ أحرار المقاطعة في العالم. لكنّ التحرر من السلطة هو واجبُ العرب وأحرار العالم جميعًا كما ذكرت، لا واجبُ الشعب الفلسطينيّ وحده. ومن هنا فإنّ علينا، كناشطين ومثقّفين وفنّانين عرب بشكل خاصّ، أن نَعزل السلطةَ ومؤسّساتِها كما نعزل الاحتلالَ ومؤسَّساتِه؛ فالأولى بنتُ الثانية. وهذا يعني أن نَرفض، كعرب على الأقلّ، المشاركةَ في أيّ مؤتمر أو مهرجان برعاية السلطة وتمويلها. الضفّة الغربيّة محتلّة، ولا سيادة فيها ولا استقلال، بل حكمُ مخاتير ونواطير عاجزين إلّا عن قمع المواطنين ومساعدةِ الاحتلال.

 وعلينا، كعرب على الأقلّ، ألّا نقبل التمييزَ بين "تأشيرة" دخول من الاحتلال و"تصريح" من السلطة لأنّ التصريح تمويهٌ للتأشيرة لا أكثر.

هنا قد نقع في خلافٍ مع معايير "اللجنة الوطنيّة للمقاطعة" في فلسطين التي لا تمانع في مشاركة الفنّانين والمثقّفين العرب في نشاطات داخل الضفّة بـ"تصريح" شرطَ الإعلان عن دعم المقاطعة. شخصيًّا لن أقف بشدّة ضد معيار الإخوة والرفاق في "اللجنة" شرط ألّا تتمّ النشاطاتُ تحت رعاية السلطة (ربيبة الاحتلال)، وإنْ كنتُ أفضّل أن يأتي التواصلُ مع العرب عكسيًّا، أيْ عبر تسهيل زيارة فلسطينيّي الضفّة إلى البلدان العربيّة، وأن يأتي عبر التواصل الإلكترونيّ كما يحدث بيني وبينكم الآن.

***

في النهاية، ليس كافيًا أن نلطمَ صدورَنا أسًى على انهيار المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ. فما دمنا قد حدّدنا أنّ عدوَّنا ما زال "إسرائيل،" وأنّ دربَ التسوية لم يُفضِ إلّا إلى المزيد من التهويد والاستيطان والتهجير، وأنّ "أبا الخيزران" في رواية كنفاني الشهيرة (رجال في الشمس) يزداد تجبّرًا وصلفًا على الرغم من زوال شرعيّته القانونيّة، وأنّ البديلَ "الإسلامويّ" يزداد شبهًا بالخيار الأوسلويّ، وأنّ "الأنجزة" لم تؤدِّ إلّا إلى إلحاق المجتمع بقضايا جزئيّة؛... فلا مجال أمامنا، فلسطينيين وعربًا وأنصارًا دوليين، إلا طريق المقاومة بكافّة السبل الممكنة والمجترحة.

وشكرًا

بيروت

* كلمة عبر السكايب إلى مجموعة "نبض شبابيّ" في رام الله المحتلّة.

(1) http://www.alghad.com/articles/873167-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AC%D9%88%D8%...

(2)http://www.al-masdar.net/%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%B3-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D9...

 

سماح إدريس

رئيس تحرير مجلة الآداب الورقيّة (1992 ـ 2012) والإلكترونيّة (2015 ـ...). له كتابان في النقد الأدبيّ، وأربعُ رواياتٍ للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال، وعشراتُ الدراسات والمقالات والكتب المترجمة. عضوٌ مؤسِّسٌ في "حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان" (2002 ـ ...). ينتهي خلال أعوام من إنجاز معجم عربيّ  ضخم صادر عن دار الآداب.