رحلتي إلى ماساي مارا: "البدائيّة" ذريعةً للسياحة... على حساب السكّان الأصليين
15-02-2018

 

بعد السير بضعَ خطوات على أرض المخيَّم، أدركتُ أنّ محاولاتي لتجاوز روْث الأبقار لن تُجديَ نفعًا. وهذا، معطوفًا على قيظِ يومنا، وعلى تأفّفِ ويليام من أسراب الذباب، أشعرني بالإعياء.

في ذلك اليوم، فاضت بيوتُ القشِّ بأهلها استقبالًا للسائحين. ففي محميّة ماساي مارا الوطنيَّة في كينيا، تُدرَج زيارةُ مُخيَّم قبيلة الماساي، التي لا تزال تتّبع طرقَ عيشٍ بدائيَّةً، على لائحة النشاطات السياحيَّة في السافانا (وهي أراضٍ عشبيّةٌ استوائيّة أو شبه استوائيّة). وتلك أيّامٌ مناسبةٌ للأهالي كي يحصّلوا بعض "الشلنات" من بيع مصنوعاتهم اليدويّة.

الاستقبال كان رقصةً أدَّتها مجموعةٌ من مُحاربي الماساي، يتباروْن في القفز لإظهار قوَّةِ تحمّلهم، وذلك على أنغامٍ صادرةٍ عن قرون الحيوانات، وأهازيجَ تنطق بلغتهم السواحيليّة. هؤلاء المحاربون شبّانٌ يرتدون أزياءً أُرجوانيّةً، ويصبغون جلدةَ رؤوسهم، ويضفرون شعورَهم أو يحلقونها، ويتنكّبون مسؤوليّةَ حماية الأبقار المُقدّسة، وحمايةَ المُخيّمِ نفسِه. وهم يشربون الحليب ممزوجًا بالدم لاعتقادهم أنّه يمدُّهم بالصلابة.

صورةُ الشعوب "البدائيَّة" التي عرفناها في المرحلة الابتدائيّة بدت ماثلةً أمامي واقعًا يُغْري للتصوير. ولكنْ، حالما تركتْ عيناي أولئك الراقصين، وتركَّزتا على النساء الحليقات الفارعاتِ الطول، اللاتي بالغنَ في التزيُّن بالحلي، حتّى تجاوزتاهنّ إلى فتيانٍ يُشعلون النارَ عن طريق الأعشاب وروثِ الأبقار الجافّ وشفرة! تخلَّيتُ عن هاتفي المحمول، وتوقّفتُ أمام طفلٍ عارٍ، لا يتجاوز السنتين، يقفز باكيًا. حيّيتُه قائلةً "دجامبو،" فازداد فورانُه، كأنّه يقول: "دعوننا وشأنَنا! حالنا أفضلُ من دونكم!" وفكرتُ: لعلّ بكاءه أشار إلى المستور؛ ففي ماساي مارا، تُستغلّ "البدائيَّةُ" من قِبل شركات السياحة الغربيّة، ووزارةِ السياحة في كينيا. حدَّقتُ إلى الصبي طويلًا، حتّى تأخَّرتُ عن الفريق السياحيّ، فأسرعتُ للّحاق بأفراده.

كانوا يتعرّفون إلى بيوت القبيلة المبنيّة بسواعد النساء. في كلِّ بيتٍ أربعُ غرف: الأولى محجوزةٌ للعُجول الوليدة، والثانية للأطفال، والثالثة هي الرئيسة، والرابعة مطبخ. هناك، تُقاس ثروةُ كلّ فردٍ في القبيلة ومكانتُه بالأبقار التي يملكها.

تحدَّث ويليام فقال إنّ سبب وجود بوّابة الحديد على مدخل المخيَّم هو لدرء أخطار الحيوانات المفترسة، التي يَنْدر أن تُقتل. ويليام أحنى رأسَه عندما تفوَّه بتلك العبارة، مُشعِرًا المستمعين بأنّ الماساي ليسوا مجرمين كما قد يتوهّم بعضُنا.

المحطَّة الأخيرة من الزيارة كانت في السوق التي يبيع فيها الأهالي مصنوعاتِهم، ويُبالغون في رفعِ أثمانها، بل "يستبسلون" في إقناع السائحين بشرائها، إلى حدِّ الانفراد بهم في جيوب المخيَّم ليفاوضوهم على قيمتها.

السياحة في ماساي مارا تُسمّى "سياحةً بيئيَّة،" غير أنَّها تحجب مشهدًا قاتمًا. فالأجانب يتملَّكون كلَّ الأراضي التي ترتفع عليها مخيَّماتُ مبيت السائحين، بما في ذلك الفندقُ الطينيّ الوحيد الفخم الواقع ضمن المحميّة، وهم الذين يديرونها؛ فيما أصحابُ الأرض الأصليّون، وهم من الماساي، يعملون لديهم. أماكنُ المبيت تُشْغَل بنسبةٍ تامّة، خصوصًا خلال أكتوبر (تشرين الأوَّل)، وهو موسمُ هجرة الحيوانات المفترسة من الحدود التنزانيّة إلى كينيا، بحثًا عن الدفء. والماساي يخدمون السائحين بأشفار عيونهم: يقفون حرّاسًا على أبواب غرفهم في الليل لمهاجمة أيّ حيوانٍ مُفترسٍ يقترب من الفندق أو من المُخيَّمات المرتمية في الغابة، والبسمةُ لا تُفارق ثغورَهم، كاشفةً عن ثقةٍ بالنفس سرعان ما تُعقد مع السائحين؛ ما يجعلهم يأمنون التجوُّلَ برفقتهم، في رحلات السفاري لمُعاينة الحيوانات المُفترسة في سياراتٍ رباعيّةِ الدفع، وللاستماع إلى ما يملكونه من معلوماتٍ غزيرةٍ عن طبيعة السافانا ومخلوقاتِها ونباتاتِها العلاجيّة.

لقد اقتُلع الماساي من أراضيه منذ الاستعمار الإنجليزيّ، فأمست ساحًا خاصًّا بالأثرياء البيض، هواةِ صيدِ الحيوانات المفترسة، أو مُستغلَّةً في تجارة العاج. وبعده، زادت الحكوماتُ المحلّيّةُ همومَ الماساي: فلم تشملْهم بمُساعداتها الاجتماعيَة، أو تنتشلْهم من أُميّتهم، بل هي قلَّصتْ حضورَهم، وقضمتْ أراضيَهم لصالح المحميّات الطبيعيّة. بمعنًى آخر: لا مانع لدى القيّمين على المحميّات أن يَطردوا السكّانَ الأصليّين من أراضيهم كي تبقى الحيواناتُ فيها. ويجري ذلك بذريعةٍ تحظى بدعمٍ دوليّ ذي "واجهةٍ بيئيّة،" ألا وهي: الحفاظ على الحياة البريَّة. لكنّ خلف هذه الذريعة هدفًا مبيّتًا يرمي إلى تمدّد المشاريع السياحيَّة الخاصَّة بالغربيين.

كما أنّ تلك الحكومات غرَّمت الماساي أيضًا بحجَّة "إيذاء الطبيعة نتيجةً للرعي الجائر" ــــ وهذا هو نشاطُهم الرئيس ــــ و"تطفيشِ" الحيوانات المُفترسة. فأبعدتهم إلى أراضٍ محدودة، أرسلتْ موظّفين حكوميّين لتوزيعها عليهم. فما كان من هؤلاء الموظّفين (الفاسدين) إلّا أن أشركوا أناسًا من خارج القبيلة في مِلْكيّتها، فتحوّلتْ مُخيّماتٍ لمبيت السائحين!

وهكذا عاش الماساي الفقرَ المُدقع، بحيث أصبحت السياحة نشاطَ شبابهم الأوحدَ.

***

حين رجعنا إلى الفندق، أفرغتُ كلَّ حنقي على الاستغلال الذي عاينتُه بأن انكببتُ على تنظيف حذائي حتّى خارت قواي! وأثناء الاستحمام، راقبتُ مجموعةً من الأفيال، وتذكَّرتُ المعلومات الوافرة التي حصَّلتُها عنها أثناء الجولة في المحميّة؛ فقد كان واضحًا أنّ الحفاظ على هذه المخلوقات يتجاوز حقوقَ الآدميّين من الماساي.

كلُّ المياه المبتذلة؛ وكلُّ النفايات الناتجة من المُخيّمات ومن طرق التدفئة والتبريد فيها؛ كلُّ ذلك لا يؤذي الحياةَ البريَّة، ووحده "الرعيُ الجائر" مُدان؟! ضحكتُ في سرِّي حين تذكَّرتُ كلامَ صاحبة الفندق من أنّ المياه التي تقدّمها نقيّةٌ بنسبة 99.99% بشهادة خبراءَ دوليّين، فيما مُخيّمُ الماساي لا يعرف الماءَ ولا الكهرباء ولا أيَّ وجهٍ من وجوه الخدمات.

"البدائيّة" (كما سيمّونها) صورةٌ فوتوغرافيّةٌ سياحيّة تُروِّج للمحميّة، شأن ما تفعله صورُ الأفيال والجواميس والفهود والنمور والخراتيت. هذه الحيونات محفوظةٌ بعناية، إلى حدِّ إرسال الطعام المُستورَدِ إلى بعضها في المحميّة، وذلك "حفاظًا على النوع"... النوعِ الذي طرد الماساي من أراضيهم وجوّعَهم.

بيروت

نسرين حمّود
صحفية لبنانية، مهتمة في الشأنين الاجتماعيّ والثقافيّ. نشرتْ في صحف ومطبوعات عدة، وآخرها: الأخبار اللبنانية والدوحة القطرية.