رحيل الأحبّة
29-05-2016

 

انقدتُ طائعًا إلى رغبة كنعان في اقتناء عصافير وقفص. أوقفتُ السيّارة لصق الرصيف أمام محل طيور وحيوانات أليفة. فتح كنعان بابَ السيّارة المحاذي للرصيف، واندفع باتجاه واجهة المحلّ، وأخذ يتأمل الطيور المختلفة الألوان والأحجام.

وراء الزجاج، تحت أقفاص العصافير، يتقافز قردٌ مربوطٌ بسلسلة فضيّة اللون، وسنجابٌ في قفص يضيق بحركاته السريعة المتوتّرة. وثمّة كلبٌ صغير، أخبرني كنعان أنّه من فصيلة "كنيش،" وعيناه تغرقان في شعره الأبيض الطويل.

صاحب المحل خرج وهو يفرك يديه، وهو شاب طويل نحيل، شعره معقوص وراء رأسه.

ــــ بأمركم.

كنعان أشار إلى العصافير.

البائع ابتسم:

ــــ هذه كلها عصافير جنّة، وهي عصافير صغيرة لطيفة. الأنثى لونُها أصفر وابيض؛ والذكر أسود منقّط بأبيض أو العكس. وتوجد ألوان مختلفة أيضًا.

وقف كنعان مأخوذًا بالعصافير، وأخذ يتابع نطنطتها داخل القفص الكبير.
قال البائع مستدرجًا كنعانَ إلى الشراء:

ــــ هذه عصافير حب بديعة، وهي لا تتطلّب عناية كثيرة؛ تأكل قليلًا، وتبيض كثيرًا. إنها "لزيزة" فعلًا. تسقسق طوال الوقت. تسقسق، لا تغرّد.

وأضاف وهو ينحني على القفص:

ــــ وهي مسلّية، وغير مزعجة، وسقسقتُها ناعمة لطيفة مؤنسة.

جذب كنعان راحة يدي، فانحنيتُ قليلًا. همس في أذني:

ــــ أريد زوجًا منها.

بذكاء التقط البائع رغبة كنعان، وقال:

ــــ خيار موفّق. سأعطيك ذكرًا وأنثى. ستبيض الأنثى خلال ثلاثة أشهر، ثم تتكاثر عندك، وعندها سأشتري منك ما تستغني عنه. وهكذا تربح وتتسلّى.

سأله كنعان:

ــــ وماذا نطعمها؟

 حفن البائع من كيس حبوبًا ناعمة:

ــــ من هذه؛ فمعدتها ناعمة وصغيرة. لا تطعمها أيَّ شيء عدا هذه، لأنك قد تؤذيها. وضع لها ماءً نظيفًا.

استدار البائع وأشار إلى الأقفاص:

ــــ خذ لهما واحدًا إذا رغبتَ، مع إنني أفضّل أن تأخذ قفصين حتى تفرّق بين الذكر والأنثى كي يشتاق واحدُهما إلى الآخر. عندما تزداد سقسقتُهما ضعهما في قفص واحد، لأنّ الأنثى ستكون حينها جاهزةً لتبيض.

وبسرعة أحضر قفصين، فوضع أنثى وذكرًا بين قضبان أحدهما، وأبقى الثاني فارغًا. الأنثى لونُها أبيض وأصفر فاتح، والذكر لونُه رمادي منقّط بالأبيض.

أشار البائع، وهو يدّس إصبعه بين الأسلاك المعدنيّة:

_ تلك أنثى، وهي التي ستبيض. راقبْ حركتها بعد شهرين، أو ثلاثة.

وإذ أعاد إليّ بقية الورقتين النقديتين من فئة الخمسين دينارًا، توجّه بالحديث إلى كنعان:

ــــ هما لا يعرفان بعضهما بعضًا، ولكنهما بعد يومين، أو ثلاثة، سيتعارفان ويتآلفان.

ثمّ نظر إليّ:

ــــ هذه هي الدنيا. هكذا تمضي الحياة بين العصافير.. وبين البشر.

***

حمل كنعان قفص العصفورين بحرص، واتجه إلى السيّارة. لكنّ صوت البائع استوقفه:

ــــ عندما تبيض، عليك أن تُسدل عليها غطاءً. احمِها من البرد والحّر حتى لا تفسد البيوض.

حيّيته وأنا أحمل القفص الفارغ الثاني.

في الأيّام الأولى توتّرتُ من سقسقتهما التي تشبه حكّ سلك مدبّب على الزجاج، ولكنني تحمّلت الوضع. ومع مرور الوقت اعتدتُ هذه السقسقة التي لا تطرب، ولكنّها تؤنسني عندما أكون وحدي في البيت.

بعد حوالى ستة أشهر باضت الأنثى، فغطّى كنعان القفص. ولكنّ شيئًا ما حدث أفسد البيوضَ، فرماها كنعان حزينًا، وشمّس القفصَ لتطهيره، وعادت السقسقة الحادّة من جديد تفيض من القفص، وتتعالى في الصالون حيث يضع كنعان القفص، ويعلّقه في مسمارٍ كبيرٍ دقّه في الجدار بحيث لا تصل إليه القططُ ما إنْ يُفتح بابُ المطبخ.

***

بعد طول عشرةٍ، تآلف العصفوران، وأخذا ينطنطان معًا، ويتلاصقان، ويحكّان رأسيهما بعضهما ببعض، يصمتان عن السقسقة، ويغمضان عيونهما، ثمّ بانتشاء يطلقان سقسقةً ناعمةً مع نطنطةٍ جذلى تنسينا حدّة السقسقة الثرثارة.

سنتين وبضعة أيام بقيا في القفص الواحد غالبًا، إلاّ في الفترة المحدودة التي تسبق موسمَ بيض العصفورة.

 

ذات صباح ناداني كنعان:

_ انظر يا أبي.

نظرتُ مجاملة له؛ فلديّ مشاغل أهمّ من شؤون العصافير واحتياجاتها.

أشار إلى  العصفور الذكر المنطرح على أرضيّة القفص:

ــــ أترى يا أبي: إنّه يرتجف.

لفت انتباهي أنّ بدن العصفور يختلج اختلاجات سريعة، ثمّ بدأ يهمد إلى أن سكن بدنه، وهدأ جناحاه، والتصقا ببدنه الذي بدا وكأنه منتفخ البطن.

همس كنعان بحزن، وهو يدسّ يده عبر باب القفص، متلمّسًا العصفور ومحاولًا تحريكَه برفق، والعصفور لا يستجيب؛ بينما العصفورة تتجمّع على نفسها في الزاوية، تنظر هازّةً ذيلَها، صامتةً، مندهشةً ممّا يجري.

أخرج كنعان يده من القفص، وأغلق بابه. بدا واجمًا. رفرفت العصفورة بجناحيها الرشيقين، وطارت ووقفتْ على السلك في منتصف القفص.  نزلت إلى أرض القفص، وأخذتْ تدور بعصبيّة حول جثّة العصفور، محاولةً ــــ بمنقارها اللطيف ــــ أن تنبّهه من نومه. ولكنه لم يتحرّك. فزعقتْ زعقة حادّة لا تشبه سقسقتها اللطيفة، ثمّ ارتفعت وثبّتتْ قائمتيها على السلك، وركّزتْ نظرة مديدة على العصفور الساكن.

***

صبيحة اليوم التالي لم نعد نسمع سقسقةً في القفص. ولمّا ناداني كنعان، وهو يقف أمام القفص وقد وضعه على مائدة السُفرة، دهشتُ لمرأى العصفورة وقد رقدتْ ساكنةً تمامًا، وهي تيسط جناحها على صدر العصفور، ملتصقةً به.

راح كنعان إلى حيث شجرةُ الورد الجوريّ، وحفر بجوارها حفرةً صغيرةً عميقة. أخرج العصفورتين المتعانقتين بحرص، ووضعهما معًا، وأهال عليهما الترابَ. ثمّ علّق القفصَ في غصن وارف يميل عليهما، وترك بابه مشرعًا. أمّا القفص الآخر الذي كان يستعمله قبل تزاوجهما فرماه خارج سور البيت.

سألته وأنا أربّت على كتفه:

ــــ هل ستحضر عصفورين آخرين؟

نظر إليّ بحزن، وحرّك رأسه نافيًا، ثم بمال بنظره إلى حيث دفن العصفورين الراحلين.

عمّان

رشاد أبو شاور

قاصّ وروائيّ فلسطينيّ من مواليد العام 1942. انخرط في صفوف المقاومة الفلسطينيّة واستلم عدّة مناصب في مؤسّسات منظّمة التحرير الفلسطينيّة. عمل نائبًا لرئيس تحرير مجلّة الكاتب الفلسطينيّ الصادرة عن اتّحاد الكتّاب العرب والصحفيّين الفلسطينيين في بيروت. عضو في جمعيّة القصّة والرواية.

من مؤلّفاته:

البكاء على صدر الحبيب- رواية - بيروت 1974.

العشّاق - رواية - بيروت 1978.

آهٍ يا بيروت - مقالات - دمشق 1983.

الربّ لم يسترح في اليوم السابع - رواية 1986.