رماد الينسون
14-08-2017

 

 

لم يبدُ اليوم كأيّ يومٍ آخر منذ أن استيقظ. شيءٌ ما، غامضٌ، يسوقه إلى الركض نحو وجهةٍ مجهولة.

أخذ يدور في صالة بيته ملتفًّا بروبه، متّكئًا على عصاه. ضوء بسيط من النهار يتسلّل من وراء الستارة المهلهلة. مازال الوقت مبكّرًا، فهل يعود إلى النوم؟

في الحمّام، لعن الماءَ البارد. تراجع عن تشمير ساعديْه. خرج من دون أن يغسلَ وجهَه. صبّ الينسون. لم يجلس في الشرفة ككلّ يوم، بل في منتصف الصالة. راح يرشف الينسون بسرعة، وهو ينظر إلى الحائط الفارغ أمامه.

ــــ صباح الخير يا حاج! مفتحتش البلكونة؟!

يدرك أنّ امرأته خرجتْ من الغرفة. ينوي الردّ، ولكنها تتجاوزه إلى باب الشرفة. تصل إليها بخطوةٍ بطيئة، ولكنْ من دون عكّاز. تمدّ يدَها إلى الستارة. ينظر إلى تدويرة ظهرها، فإلى مؤخّرتها. ارتشف رشفةً من الينسون. الضوء يضرب في الصالة بعدما فتحت الحاجّة سُميّة الشيش. ينظر في اتّجاهها مجدَّدًا. تستدير، فيشدّ نظرَه تأرجحٌ خفيفٌ لثدييْها المتهدّلين الثقيلين تحت الجلباب بلا حمّالة، وكأنّه يراهما لأوّل مرّة. "مالَك يا حاج؟" لا يعرف: أهو الذي يسأل نفسَه أم هي التي سألته. "اشرب الينسون."

يحدّق في الحائط أمامه، في الفراغ حوله. يتنبّه إلى نصف مؤخّرة الحاجة سميّة. ينظر إلى يديها. تحمل الصينيّة الصغيرة ذاتها، بطبق الجبن الخفيف الملح، وأنصافِ رغائف العيش الأسمر. تضعها على الطقطوقة الصغيرة في الشرفة. وتناديه:

ــــ مش يلّا يا حاج؟

يخطو إلى الشرفة. يجلس. الحاجّة تنظر إليه بوجهها السمين، وأنفها المدبّب، وحاجبيْها القصيرين، والبونيه الكحليّ ذات الخرزات البيضاء الساقط أغلبها:

ــــ ... هه؟

ــــ انتِ قلتِ حاجة؟

ــــ وكمان سرحان منّي؟ في مين إن شاء الله؟ بقولك، أخدت الدوا قبل الفطار؟

خرجتْ منه غمغمة:

ــــ لا والله يا سميّة، نسيت.

ــــ نسيت؟ طب وبعدين؟ يلّا مش مشكلة! الدكتور قال تاخده مع التاني في وسط الأكل.

يسرح: "متى قال الدكتور هذا؟ أيّ دكتور؟"

ــــ أجبهولك؟ أجبهولك... مع إنّ صحّتك أحسن منّي.

قالتها وهي تقوم بثقل.

ينظر إلى المبنى العريض المقابل. كلُّ جزء فيه أشبهُ بالآخر. مليء بالشبابيك المتطابقة وأجهزةِ التكييف. هل اشترى جهازَ تكييف في حياته؟ نعم. قبل خمسة عشر عامًا. باعه له رجل ذو صلعة مكوّرة. أمْ كان هذا مَن باع له آخِرَ غسّالةٍ شراها؟ أيّ غسالة؟

ينتبه إلى المباني الأخرى المجاورة، وإلى الضوضاء المتصاعدة على أكتاف بعضها بعضًا. السماء لا تَبين. أين العصافير؟ أين الأشجار؟ يعدّ شجرتين على الرصيف المقابل، لونُهما كَلونِ المباني: بلا لون.

خشخشة كيس الدواء تنبّهُه. يتناول الدواء كما تُناولُه إيّاه الحاجّة. أصيلة هي الحاجّة! ولكنّه الآن يستعجل الانتهاءَ من الإفطار، والانتهاءَ من كلّ شيء. ثمّ يجد نفسه محدِّقًا في شاشة التلفاز.

ــــ مش هتصلّي يا حاج؟

ــــ آه، آه.. جاي وراكي على طول.

متى حجَّ؟

يمسك بالريموت. يقلّب بين القنوات. مذيع. مذيعات. فتحة صدر ذلك القميص. هل يظهر شقُّ الثدييْن؟ يدقّق في النحر والصدر المفتوح. مذيعة النشرة الجوّيّة. فستان أزرق فوق الركبة، تقف وجنبُها إلى الشاشة؛ تظهر تدويرةُ المؤخّرة وتقسيماتُها. ثدياها صغيران على الرغم من ذلك. "ماذا يحدث في العالم؟" قناة الأغاني. على الفور، تبرز مؤخّرةٌ فوق درّاجة ناريّة عريضة العجلات. ثمّ رقصات مفتعلة، وتشنّجات جماعيّة في ملابس جلديّة ضيّقة. ثمّ أجساد تُقذف دفعةً واحدة. ماذا بكَ يا حاج؟ مراهَقة متأخّرة؟ هل يشعر ببعض الانتصاب؟ وسَّع ما بين فخذيه، ولم يسترح.

دار دورةً في الصالة. ركن العصا إلى الحائط ووكز على قدميْه إلى البلكونة، ثمّ إلى المطبخ، فإلى البلكونة مرةً أخرى. على امتداد الشارع سيّاراتٌ تنطلق بأقصى سرعتها، وما تلبث أن تَعْلق كلّها في زحام منتصف الشارع. يجلس، ولا يستريح.

لم ينزل إلى الشارع منذ مدّة. لمَ لا ينزل؟ سينزل! ماذا سيفعل؟ أيّ شيء.

ــــ أنا هنزل يا سميّة!

الحاجة خرجتْ من المطبخ بوجهٍ لامبالٍ. وبنغمتها البطيئة ردّت:

ــــ أنا بأسلق الفراخ يا حاج.

همّ بأن يردّ. دائمًا ما تحبطه سميّة. جلس مزمجرًا وكأنّ فرصته للهروب قد انتهت. فتح التلفاز محدِّقًا فيه مرّةً أخرى.

بعد غداء الأرزّ الأبيض، ونسيرة الفراخ المسلوقة، وشوربة الخضار، التقط عصاه بسرعة:

ــــ أنا هنزل يا سميّة!

ــــ هتنزل فين يا حاج؟ وما أكلتش ليه؟

ــــ همشّي رجلي شويّة.

ــــ فين بس؟ أوعى تتوه!

همّ بأن يقول بغضب، لكنّ الصوت خرج عاديًّا:

ــــ أنا مش صُغيّر يا سميّة.

ــــ طب استنّى... هتنزل بالروب؟

توقّفَ: "وإيه يعني؟" مشت الحاجة بوكزتها إلى الغرفة. وبعد قليل خرجت بجاكيت صوفيّة سوداء لم يرها منذ مدّة. خلعتْ عنه الروب، وأعطته الجاكيت. ارتداها ومضى فورًا. لن تحبسيني هذه المرّة يا سميّة.

ــــ أبعت معاك حمادة ابن البوّاب؟

همّ بالرد، ولكنّه كان قد وصل إلى الباب وفتحه. انطلق على عصاه خارجًا.

***

على الرصيف راح ينظر عاجزًا. السيّارات تعْبر بسرعة. والشارع واسع. أين اختفى الزحام؟ يحاول النزولَ عن الرصيف. يتراجع. يلحظ رعشةً في قبضة يده اليمنى على عكّازه. ينقبض حين يدرك أنّه خائف من عبور الشارع.

"أنا مش صغيّر يا سمية." لماذا لم يأتِ حمادة ابن البوّاب؟ يأتي شابّ يعرض عليه المساعدة. يرفض مشيرًا بيده اليسرى. يلحّ الشاب، فيمعن في الرفض.

قطّة على الرصيف الآخر تسير باطمئنان، ثمّ ترعبها الأقدام فتتفاداها وتجري.

يدرك أنّه قد شرد واقفًا مكانه لا يتحرّك. كم من الوقت انقضى؟ بدأ يحسّ ألمًا في قدميه.

أخيرًا، جاءه شابّ آخر. سلّم له يدَه اليسرى على الفور. لم يتكلّم. رصيف يصل إليه، ثمّ الرصيف الآخر:

ــــ أيّ خدمة تانية يا حاج؟

يشير بيده ولا يتكلّم.

ها هو على ناصية الشارع يظهر. يذهب إلى الكشك الصغير:

ــــ عايز بوكيه ورد على ذوقك.

ــــ عايزه بكام يا حاج؟

يفتّش في جيوب الجاكت. يجد أوراقًا ماليّةً مطويّة؛ ثلاثين جنيهًا. أصيلة هي الحاجّة! يعطي النقودَ الرجلَ الرفيع ذا الأنف الحادّ والشارب الكثّ.

ــــ اتوصّى بقى... هه.

ــــ عينيّا يا حاج! إنّما دا لمين يا حاج؟

ــــ مش لحدّ يا أخي!

ــــ مش القصد... يعني أجبهولك لونه إيه؟

ــــ نوَّعه.

ــــ طب اتفضّل يا حاج استريَّح.

لم يكن في البوكيه أزهارٌ إلّا باللونين الأحمر والأبيض، تغّلفها ورقةٌ خشنةٌ حمراء. يلاحظ الرجلَ وهو يرشّ شيئًا على البوكيه، ثمّ يسلمه إيّاها. شعر الحاجّ ببهجة جديدة.

"الدنيا كلّها هتتملي ورد، والبيت هيصحصح كدا!" يقولها لنفسه أثناء عودته إلى المنزل، مسْلمًا يدَه إلى أوّل مَن عرض عليه المساعدة.

***

ــــ ايه دا يا حاج؟

تمطّ الحاجة وجهَها عجبًا، ثمّ تلوي بوزَها.

ـــ ورد يا سميّة! ورد!

ــــ بس إحنا ماعندناش فازة.

تنسحق البهجة الوليدة داخل الحاج.

ــــ فازة إيه يا سميّة؟! مش لازم... معرفش... حطّيه في أيّ حاجة... يا سلام!

يطرح الوردَ على أقرب طاولة، ويجلس مكانَه أمام التلفاز. يجد الحاجة تعود بطيئةً بمؤخّرتها الممتلئة، وتضع الأزهار داخل كوب مياه. يرى مظهرَها الكئيب. يغتمّ. يشيح بوجهه ناحية الشرفة. الشمس الآن تغيب. ستموت الأزهارُ بلا شكّ! تواتي ذاكرتَه محاولاتُه زراعةَ نباتات في الشرفة الجرداء؛ كلّها ماتت.

الشمس الزائلة تنزل بثقلها على قلبه.

***

ــــ تصبح على خير يا حاج.

يزداد إحساسُه بما بين فخذيْه. يحس بالتشنّج. أبعْدَ هذا العمر يا حاجّ؟ يقوم. يحسّ دقّات القلب أعلى في صدره. يدخل الغرفة، والعكّازُ في يمناه. يتمدّد بجانب الحاجة التي التحفتْ، فلا يَبِين لها وجهٌ من قدم. تخيَّل أنّها تعطيه ظهرَها. جميل. يتمدّد جسده وينبسط كما لم ينبسط منذ زمن. ستنبهر به سميّة! يقترب. يرتطم بحقيقة أنّه انفجر وانتهى الأمرُ من قبل أن يبدأ. يلامس الحاجّة وهو يستدير خائبًا إلى الناحية الأخرى.

ــــ عايز حاجة يا حاج؟ متنساش تاخد الدوا.

يأتيه صوتُ الحاجة بطيئًا مدفونًا من تحت اللحاف.

تعطِّنُ أنفَه رائحةُ الضراط المُحكَمَة في الغرفة، تتخلّلها رائحةُ ينسون تأتي من بعيد.

لن يأخذ الدواء! ولن يشرب الينسون بالغد. ولن يستيقظ أبدًا.

***

قبل أن يَعْبر، رأى نفسَه يمرّ في الليل عبر شوارع فارغة. برودة الأشباح تهيم. مبانٍ عتيقة شاهقة، يرفع إليها رأسه، وينحني بحذعه إلى الوراء فلا يدرك آخرَها. إشارات مرور بأضواء عشوائيّة. إلى اليسار، يرى شيخًا كبيرًا ذا لحية، قصيرًا، يلتحف بشالٍ رماديّ. إنّه أبوه! يتجاهله، ويمضي مسرعًا.

إلى اليسار يرى مقهى صغيرًا رثًّا، جدرانُ داخله كجدران الكهف. يدخله. الناس تصير هياكلَ عظميّةً تجلس بالنرجيلة والشاي والينسون. يرتعد. يحدّق، ولا أحد يتحرّك. يمشي، ولا نهاية. يبحث، ولا مكان. يهمّ بمناداة الصبيّ، فيرى العجوز أباه أمامه يضع يديه في جيبيه. ملامحُه هادئة لكنّها حانقة. ينظر إليه بعينيه من أسفل. فجأةً تصرخ الملامح، وترتفع الكفُّ اليمنى في الهواء:

ــــ مش كنت ترقص فوق الترابيزة يابن الـ...!

يستدير ويركض هاربًا من كفّ أبيه الهاوية على وجهه. كيف يقولها أبوه وهو الذي منعه؟ يركض ولا يدرك الباب. تعرقله فجأةً قدمٌ يمدّها أحدُ الهياكل. ينكفئ على وجهه ولا يرتطم. ويسقط غريقًا في الينسون.

 

 

مصر

اسلام صلاح الدّين

كاتب وصحفيّ مصريّ.