ساعةٌ أخيرةٌ للمحكوم
13-02-2018

 

المطر يهطل بغزارة. يقفز الطفلُ متجنّبًا بركَ الماء، متّبعًا السيلَ. يقترب بحذرٍ من المجرى. يُخرج قاربًا ورقيًّا من جيبه. يضعه في المضمار، ويركض خلفه. حتّى إذا وصلا إلى حافّة البحر، غرق القارب. يقف الولد خائبًا، وقد أضناه التعب.

يمكث في زنزانةٍ ضيّقة. قطراتُ المطر النافذةُ من الشبّاك تبلِّل الأرضيّة، ورائحةُ الملح تملأ المكانَ وتسدّ الأنفاس. يقترب من القضبان. يمدّ بصرَه أبعدَ ما يستطيع. النوارس تحوم حوله، وقلّما تحطّ على حافّة النافذة. باخرةٌ تشقّ طريقَها في خطّ فاصلٍ بين البحر والسماء. يُخرج يدَه، ويمدّ وجهَه بين القضبان الصَّدئة. تُنعشه قطراتُ الماء الباردة وقد تذوّقها.

يمشي إلى الباب. يطرقه طرقتين. ينظر إليه الحارسُ بعينيْن متجاهلتيْن. "أريد ورقةً وقلمًا." يمرّرهما الحارسُ تحت الباب. يرمي القلمَ في الزاوية. يحمل الورقة بتأنٍّ. يطويها عدّة طيّات، ويصيّرها قاربًا. يعود إلى النافذة. هناك، وراء البحر، حيث تحجب السحبُ قممَ الجبال، كان جدُّه يعلّمه كيفيّة تطويع الورق وتحويلِه أشكالًا يُطْلقها، ثم يسعى خلفها بين الحقول والمنابع الحلوة.

الانتظارُ ينهش أعصابَه. السجنُ الجماعيّ كان غرفةَ تعذيبه اليوميّة شهرًا. كلّما سمع صوتَ الجزمات وهي تَقطع البهوَ، سكنه خوفٌ قاتلٌ، وأصابه هوسٌ حرمه النّومَ، ظنًّا منه أنّهم آتون لأخذه. أمّا الآن، على بعد أمتارٍ من الموت، فالأمر يكاد يكون عاديًّا.

يتحرّك قفلُ الباب. يدخل الحارسُ حاملًا إبريقًا: "هذا بعضُ الماء إنْ أردتَ الوضوء." تمرّ حياتُه ومضةً خاطفةً أمام عينيه. يستعيد خطاياه واحدةً تلو الأخرى: لا سبيلَ إلى تطهيرها. الماء المتسرّب من الإبريق المثقوب يمتزج بماء المطر على الأرضيّة ويحيط بقدميه. يشعر ببرودتها عبر حذائه الرثّ، وبقشعريرةٍ تسري في بدنه.

 تدور فكرةٌ في خاطره: ماذا لو كان طاليس على حقّ في أنّ الماء أصلُ الوجود؟ سيكون الكونُ لامتناهيًا. يزيد ذلك من رفضه مسألةَ التطهّر، ويغرق في الانتظار. هو متّهمٌ بالتخطيط والتنفيذ.

يتأمّل في ماضيه. يبحث عن حلمٍ عابر، ولا صوتَ يخرج من ذاكرته. الموت يأتيه بطيئًا. يحاول التّنبّؤ بما يحدث في الضفّة الأخرى، فتخونه مخيّلتُه.

يُفتح البابُ ثانيةً. يدخل رجلٌ متوسّطُ القامة، بسترةٍ بيضاء. عاديٌّ ككلِّ مَن قابلهم في حياته؛ لا ملامحَ في وجهه، كأنّ الدمَ لا يسري داخله. يقترب منه بهدوء. ينكبّ على عينيه يتفحّصهما، ثمّ يميل برأسه ليفحص أذنيْه، ولا صوت غير أنفاسه البطيئة. يخرج من دون أن ينبسَ بحرف.

يعود السجينُ إلى وحدته، وهو متّهم بالصّمت.

يشفق على نفسه. يفكّر: "ألهذه الدرجة أنا مخطئ؟" يرتجف جفنُه الأيمن، وترتخي عيناه. لم يعد يحتمل. الموت على بعد مسافةٍ قصيرة.

 يُفتح البابُ مجدّدًا. يدخل رجلٌ قصيرُ القامة، حاملًا القرآن. تعود إليه فرضيّةُ طاليس ومسألةُ الماء. ماذا لو ذاب الجميعُ الآن دفعةً واحدة وصاروا موجةً في البحر؟ يبدأ الرجل بتلاوة بعض الآيات، وهو متّهمٌ بالتجاهل والتِّيه. يستعيد معاني الأشياء. بعضُ الكلمات تؤثّر فيه، فيرى نفسَه مسكينًا. سرعان ما يعْدل عن فكرته حين يتذكّر لائحةَ التهم. ينهي الإمامُ عمله ويخرج قائلًا: "سامحك اللّه." ترتسم على ملامحه بسمةٌ متواضعة؛ على الأقلّ هناك من يشفق على حاله. إنّه يستعيد طعمَ الحياة: هو متّهم بالفرح.

يقترب الموتُ إليه، فيتّجه إلى النافذة. يتشبّث بالقضبان. هذه أوّل مرّة تأخذه الرغبةُ في الهرب. يريد العودة من حيث أتى. يتمنّى لو كان قاربُه أكبر قليلًا ليحمله إلى هناك؛ حينها سيبدأ من جديد وسيكون سعيدًا: هو متّهمٌ بالحلم والحريّة.

الجنود يعْبرون البهو. يتحوّل قلبُه إلى مضخّة دمٍ تكاد تحترق. يحاول كسرَ القضبان. يُخرج يديه. يلتقط بعضَ القطرات، يمسح بها وجهه: هو متّهمٌ بالتآمر مع الطبيعة.

يدخل العساكر. يقيّدونه جيّدًا ويمشي هادئًا من دون مقاومة، وقاربُه في يده. لا جدوى من تفادي الموت: هو متّهمٌ بالخضوع.

يعْبر البهوَ لآخر مرّةٍ ويجد نفسَه خارجًا. ها هو محفلُ الموت قد أُعِدّ على أحسن وجه. منصّة الشّنق. أمامها أفرادٌ من العامّة ينادون بقتله. وإلى اليمين منصّةٌ أخرى لكبار الضبّاط. إنّه يرى العالمَ الآن من زاويةٍ أكبر. لقد قضى ردحًا من الزمن لا يرى ما يحدث خارجًا إلّا عبر مربّعٍ صغيرٍ أعلى الجدار: هو متّهمٌ بالدّهشة.

يفحص كلَّ تلك العيون وهي ترمقه كأنّهم يشهدون مصرعَ نحلةٍ تهلك بعد فقدان شوكتها.

يصعد على المنصّة. يلتفّ حبلٌ خشنٌ مدبّبٌ حول رقبته. يحسّ مرارةً وجفافًا في حلقه. يفكّر قليلًا؛ الماء لا يحلّ المشكل. يقول: "أريد بعضًا من الحلوى." يضحك الجميعُ من غرابته: هو متّهمٌ بالسخرية.

يأتيه أحدُ الحرّاس بما أراد. يدكّها في فمه دفعةً واحدة. طعمُ البرتقال والتفّاح والتوت من الأرض البعيدة يملأ فمَه. شفتاه تكتسيان لونًا كرزيًّا لمّاعًا بمفعول السكّر، والموت يصير أحلى: هو متّهم بالشذوذ عن القاعدة.

يُسحب الكرسيُّ من تحته. يتدلّى كعنقودِ عنب. ينحصر الدمُ في وجهه. ترتعش أطرافُه وهو يحاول لمسَ الخشبة. قبضتاه تنكمشان وتتصلّبان، وعيناه تكادان تخرجان من محجريْهما. ينقطع النفَس. شفتاه تنتفخان وتشتدّ فيهما الحمرة. ترتخي العضلات.

هو الآن خالٍ من الأحاسيس. تسقط الورقةُ من يده وقد فقدتْ شكلَها. يُنزل الحرّاسُ الجثّة بهدوء، وتُحمل على متن قاربٍ ليُلقى بها في البحر.

يخرج طفلٌ من العامّة. يلتقط الورقة. يطوِّعها بإتقان، ويركض بعيدًا نحو البحر: المحكومُ متّهمٌ بالخلود.

تونس

اسامة جلالي

طالب في الثانويّة العامّة في تونس، من مواليد 1999.