سبيلبيرغ يَكشف أوراقنا اللبنانيّة
18-01-2018

 

أبرزتْ "قضيّة سبيلبيرغ" نقاطَ ضعفٍ عديدةً في وطننا، على مستوى جامعة الدول العربيّة، و"النُّخَب" اللبنانيّة، والإعلامِ اللبنانيّ، والدولةِ اللبنانيّة، وحملةِ المقاطعة، والمعارضة اللبنانيّة. فقد بات معلومًا أنّ أحد أجهزة الدولة اللبنانيّة كان "ينوي" منعَ عرض فيلم ستيفن سبيلبيرغ، ذا بوست، بناءً على أحد قرارات جامعة الدول العربيّة بمنع جميع أفلام هذا المُخرج الأميركيّ، بعد أنْ تبرّعتْ مؤسّسةٌ تابعةٌ له بمبلغ مليون دولار إلى الكيان الصهيونيّ في آب 2006، أثناء عدوانه على لبنان، من أجل "إغاثة النازحين الإسرائيليين من شمال إسرائيل"![1] ولكنْ، بعد أيّام، وتحديدًا ليل 17 كانون الثاني، سمح وزيرُ الداخليّة اللبنانيّ بعرض الفيلم.
نقطةُ الضعف الأولى، ولا نقول الأهمّ، هي جامعةُ الدول العربيّة. فقراراتُها غير منتشرة بما يكفي ليعرفَها الجميع. ويكاد معظمُنا لا يعرف شيئًا عن "اللائحة السوداء" التي ينبغي أن تكون في تصرّف جميعِ الناس، لا أن تُحصَر في فئةٍ من البيروقراطيّة العربيّة تابعةٍ لهذه الجامعة ولمكاتبها الإقليميّة شبهِ المعزولة. وتعميمُ القراراتِ و"اللائحةِ السوداء" (ولا أستحبُّ هذه التسمية لأنّ أغلبَ داعمي "إسرائيل" هم من أصحاب البشرة الناصعةِ البياض) سيكون في صالح الجامعة العربيّة، وفي صالح المقاطعة، لسببيْن:

1) الأوّل، لكي يَظهر للناس أنّ أسباب المنع ليست عنصريّةً أو طائفيّة: فأفلامُ سبيلبيرغ لم تُمنع لأنّه "يهوديّ،" على ما رَوّج بعضُ الإعلام السطحيّ والمغرِض.[2]

2) والثاني، لكي يَشعر الناسُ بأنّهم ليسوا مجرّدَ أدوات تنفيذٍ لقوانينَ فوقيّةٍ "اعتباطيّة" لا يدركون حيثيّاتِ وضعها.

                                                   ستيفن سبيلبيرغ

على أنّنا لا نُغفل كذلك أنّ جامعةَ الدول العربيّة، ويا للأسف، لم تعد، منذ زمن طويل، مصدرًا يوحي بثقة غالبيّة العرب، وذلك لكونها تحوّلتْ منذ عقود إلى أداة من أدوات مشايخ النفط والغاز، ولكونها لم تستطع أن تعاقِبَ أيًّا من الأنظمة العربيّة المطبِّعة (التي تستضيف على أرضها سفاراتٍ ومكاتبَ تمثيلٍ إسرائيليّةً وتربطها بالعدوّ اتفاقيّاتٌ ومعاهدات). ويحقّ للناس العاديين أن يتساءلوا: كيف "تتمرجل" الجامعة على فيلمٍ ثمّ تحني رأسها ذلًّا وخنوعًا أمام أنظمةٍ تَخْرق بشكلٍ يوميّ قراراتِ هذه الجامعةِ نفسها، فتستقبل المجرم بيريز، أو ترسل وفودًا  وشخصيّاتٍ إلى الكيان الصهيونيّ؟

ومع ذلك، فإنّ كلَّ المآخذ على الجامعة لن تدفعَنا إلى المناداة بتجاهل قراراتها، بل سنطالب على العكس بتفعيلها وتعميمِها، جنبًا إلى جنب مع فضح تحكّم الإرادة النفطيّة بها. فالجامعة، من حيث المبدأ، ينبغي أن تشكّل الحدَّ الأدنى الجامعَ بين النظُم العربيّة، ولا سيّما في قضيّة الصراع العربيّ ــ الإسرائيليّ.

***

نقطة الضعف الثانية التي كشفتْ عنها "قضيّةُ سبيلبيرغ" هي في داخل "نُخَب" المجتمع اللبنانيّ المثقّفة. ثمّة لوثةٌ "ليبراليّة" اخترقتْ هذه النخَب، وتغلغلتْ في ثنايا طبقات المجتمع وفئاته ومشاربِه المتنوّعة، حتى تكاد لا تنجو منها بعضُ الشرائح المحسوبة على خطّ المقاومة ذاتِه. هذه اللوثة تُعْلي من شأن الفنّ على حساب السياسة، ومن شأن الشهرة العالميّة على حساب الكرامة الوطنيّة. هكذا وجدنا كثيرين من هذه النُّخَب يستنكرون منعَ الفيلم لأنّ ذلك سوف يُلْحق الضررَ بـ"سمعة لبنان" في الخارج، وبمستوى طلّابه المتخصّصين بفنّ السينما، وسوف يضع لبنانَ ومتخرّجيه في دائرة "التخلّف."

وللأسف أخفقتْ هذه النخب في أن تُظهر لشعبها أنّ "الخارج،" وتحديدًا الغرب الذي تحتفي به من دون أيّ حسٍّ نقديّ، لا يَحترم لبنانَ إلّا حين يقاوم وينتصر ويَفرض إرادتَه على كلّ من يحتلّ أرضَه ويدوس كرامتَه. بلدٌ بسياسةٍ ذيليّةٍ، كسياسة حميد كرزاي الأفغانيّ، لا يستجلب إلّا الاحتقارَ الغربيّ، والمزيدَ من التصميم على إلحاقه بالسياسة الغربيّة (وهل نحتاج إلى أمثلة عربيّة؟!).

كما أنّ الشرائحَ النخبويّة المذكورة أخفقتْ، هي نفسُها، أو لم ترغبْ أصلًا، في الخروج من الانبهار (الأعمى كما سنرى) بثقافة الغرب وقوانينِه، ومن ثمّ لم تَدحض الوهمَ الشائع أنّ المنع ــــ في ذاته ـــــ نوعٌ من الإرهاب الفكريّ. فالمنع، في حقيقة الأمر، ليس إرهابًا في ذاته، خصوصًا حين يَطول أمنَ المجتمع ووحدةَ أراضيه. كما أنّ المنعَ لا يقتصر على دولنا "المتخلّفة،" المبتليةِ بالأنظمة غيرِ الديمقراطيّة؛ ففي دول العالم الذي يفوقُنا "تمدّنًا وحضارة،" مُنعتْ، وبقرارٍ قضائيّ، أفلامٌ عديدة مثل: Antichrist للمخرج الدانمركيّ لارس فون ترير (بسبب مضمون الفيلم العنفيّ/الجنسيّ)،[3] وCannibal Holocaust للمخرج الإيطاليّ روجيرو ديوداتو (مُنع في 50 دولةً بينها إيطاليا وأستراليا)،[4] وThe Evil Dead (مُنع في ألمانيا وإيرلندا وفنلندا وغيرها بسبب مَشاهده العنيفة)، وIlsa (مُنع في النروج وأستراليا بسبب مضمونه العنفيّ والمعادي للنساء).[5] أكرّر: نحن هنا نتحدّث عن منعٍ قضائيّ، لا عن مقاطعةٍ صادرةٍ عن المجتمع وجمعيّاته المدنيّة؛ ذلك لأنّنا إذا تطرّقنا إلى المقاطعة الشعبيّة فثمّة أفلامٌ لا تُعدّ ولا تُحصى قاطعتْها شعوبُ الغرب لأنّها تحضّ على كره المثليّين أو اليهود أو "تُهين" المسيحَ مثلًا.

ثم إنّ المنعَ في الغرب طاول الكتبَ أيضًا؛ وهل نحتاج إلى التذكير بكتاب روجيه غارودي، الأساطير المؤسِّسة للسياسة الإسرائيليّة، وما عاناه بسبب قرار المحكمة الفرنسيّة، في نهاية التسعينيّات، لأنّه اتّهِم بـ"إنكار المحرقة اليهوديّة"؟

وعليه، فأين الغرابة في أن تقْدِمَ دولةٌ ــــ إذا كانت تحترم نفسَها، وتحترم سيادتَها الوطنيّة، وتحترم دماءَ شهدائها وعذاباتِ معوَّقيها وأَسراها ومهجَّريها ــــ على منع فيلمٍ أخرجه شخصٌ تبرّع بمليون دولار لكيانٍ تسبّب في تلك الدماء والعذابات؟ الغرابة هي أن لا تُقْدم الدولةُ على هذا المنع. والغرابة هي أن تحاول "نخبُ" هذه الدولة أن تبتزَّها لإصدار حكمٍ يناقض سيادتَها وكرامةَ شعبها، وذلك بدعوى الحداثة والحضارة والتمدّن والعالميّة.

وللتوضيح، فإنّ كلمة "النُخب" هنا لا تقتصر على الجامعيين والمثقّفين، بل تشمل ــــ فيما تشمل ــــ بعضَ الإعلاميين والمدوِّنين والمغرِّدين والفسابكة، الذين تكشّف قسمٌ لا يُستهان بهم عن تحاملٍ خبيثٍ على المقاطعة حين ربطوها بالاستبداد والديكتاتوريّة والأصوليّة، وعن جهلٍ فاضحٍ  بثقافة المقاطعة وآليّاتِها وأدبيّاتِها في لبنان والعالم (أدبيّات حملة المقاطعة العالميّة BDS مثلًا)، واكتفوْا بشعاراتٍ سطحيّةٍ عامّة توهّموا خُلوَّها من الإيديولوجيا، في حين أنّها في صميم الإيديولوجيا (لكن الرجعيّة الاستهلاكيّة اليمينيّة المنبهرة بالغرب) من قبيل: "وين بعدنا؟ شوفوا العالم وين صار؟" "بعد في حدا بيمنع؟"، و"كلّ العالم يهودي،" و"إسرائيل وين ما كان صارت،" و"خلص ما فينا نقاطع،" و"بدكم تقاطعوا إسرائيل؟ قاطعوا كلّ شي أو ولا شي،" أو "شو وقفتْ على فيلم هلق؟"...

***

نقطة الضعف الثالثة هي الدولة اللبنانيّة. فبحسب وكالة فرانس برس، وقّع وزيرُ الداخليّة اللبنانيّ قرارَ السماح بعرض فيلم سبيلبيرغ لأنّ مضمونَ هذا العمل "لا يتعلّق بلبنان أو بالنزاع مع العدوّ الإسرائيليّ،" وذلك على الرغم من اطّلاعه على قرار "لجنة مراقبة أشرطة الأفلام المعدّة للعرض" التي كانت قد أوصت بمنعه![6]

الأمر هنا لا يتعلّق بالتخبّط بين أجهزةٍ تنتمي إلى دولةٍ واحدة، أو بالتفارق بين توصيات لجنة المراقبة وقرارِ وزارة الداخليّة، فحسب، بل بمنطق وزير الداخليّة نفسه. فهل المضمون وحده هو ما يقرِّر عرضَ فيلمٍ أو حظرَه؟ ألا يستوجب التبرّعُ إلى "إسرائيل" بمليون دولار، أثناء قصف بلدنا وقتلِ شعبِنا تحديدًا، معاقبةَ هذا المتبرِّع، أيًّا كان مضمونُ أفلامه اللاحقة؟ إنّ هذا فعلًا منطقٌ عجيب: أن أغضَّ الطرْفَ عن قاتلي... لمجرّد أنه قدّم عملًا فنّيًّا "لا علاقة له" بقتلي!

ثمّ كيف وافق وزيرُ الداخلية (محقًّا بالطبع) على منع فيلم المرأة الخارقة، من بطولة الجنديّة الإسرائيليّة وملكةِ جمال "إسرائيل" لعام 2004 غال غادوت، التي خدمتْ في جيش العدوّ بين العاميْن 2005 و 2007، ثمّ سمح بفيلم مُخرجٍ تبرّع بمليون دولار لهذا العدوّ في الفترة نفسِها؟!

وكيف مُنع قبل أيّام (عن حقٍّ أيضًا وأيضًا!)، واستنادًا إلى معلوماتٍ صدرتْ عن حملة المقاطعة في لبنان،  فيلمَ الدغل، المستندَ إلى مغامرة رحّالةٍ إسرائيليّ (يوسي غينسبرغ) سبق أن خدم 3 سنوات في سلاح البحريّة الإسرائيليّة،[7] ثم سُمح بفيلم سبيلبيرغ الذي تبرّع بمليون دولار لكيانٍ مجرم يملك هذا السلاحَ واستخدمه ضدّنا مرارًا وتكرارًا وخصوصًا في العاميْن 1982 و2006؟!

لا شكّ في أنّ قرار وزير الداخليّة الأخير لم يكن حكيمًا، على عكسِ قراره الموافقة على الفيلمين الآخرين. ولكنّ ما لا شكّ فيه أيضًا أنّه لم يكن قرارًا "فرديًّا،" بل خضع لرغبات الجوّ العامّ و"النُّخب" التي تناولناها سابقًا. وربما ارتأى الوزير أن يأخذَ في الاعتبار "مصلحةَ الاقتصاد اللبنانيّ،" علمًا أنّ الضررَ اللاحق من حظر الفيلم لن يمسّ الاقتصادَ بشكل عامّ، بل يمسّ أولًا وثانيًا وثالثًا مستوردي الأفلام الذين لم يراعوا مشاعرَ الناس ولا عذاباتِهم جرّاء حروب العدوّ ضدّنا، وكانوا بالتأكيد قادرين على أن يستوردوا أفلامًا "شهيرةً" أخرى لا تسبِّب لهم (وللدولة) هذا "الإشكال."

ثم إنّ وزيرَ الداخلية، بسماحه هذا، قد خالف أحدَ قرارات الجامعة العربيّة، ولبنانُ عضوٌ فيها. لكنْ مَن يُصغي إلى هذه الجامعة أصلًا، وهي التي خالفتْ قراراتِها بنفسها حين سكتتْ عن دولٍ مطبّعةٍ بأسْرها، بل مشت في ركابها أيضًا؟!

***

وأخيرًا، لا آخرًا، هناك نقطةُ ضعفٍ باديةٌ في حملة المقاطعة نفسها. وبعض المعترضين على أدائها مُحقّون: فهي لم تبادرْ إلى التنبيه إلى تبرّع سبيلبيرغ للكيان الغاصب قبل الآن، ولم تعمدْ إلى الكلام على أفلامه السابقة الكثيرة التي عُرضتْ في لبنان، ولم تستطعْ أن تنشرَ تعليلاتِها وأدبيّاتها بين الناس و"النخَب" على نطاقٍ واسع. وهناك عشراتُ الانتقادات الأخرى التي تستحقّ أن توجَّه إلى حملة المقاطعة، التي أتشرّفُ بأنّني عضوٌ مؤسِّسٌ وفاعلٌ فيها منذ اليوم الأوّل لانطلاقتها ربيعَ العام 2002.

لكنْ، وبعيدًا عن التبرير، نسأل:

هل تناسى المنتقِدون أنّ الحملة مكوّنة من بضعة أفراد، متطوّعين، لا متفرّغَ واحدًا بينهم، ولا طائفة أو دولة أو حزب أو صندوق وراءهم؟

وهل تناسوْا أنّ الحملة كانت الدافعَ الرئيس، والمحرِّكَ الأبرزَ، وراء منع عدّة أفلام أخرى خلال الشهور الماضية وحدها (المرأة الخارقة، رابطة العدالة، الدغل،...)؛ هذا من دون ذكر إنجازاتها الأخرى في كشف بضائع إسرائيليّة في السوق اللبنانيّة، وفي التوعية بقدوم فِرقٍ موسيقيّةٍ دعمتْ بالقول والفعل الكيانَ الصهيونيّ؟

وأين الناشطون (ولا أعني هنا المنتسبين إلى بعض المنظّمات غير الحكوميّة، المعروفةِ التمويل، والمشبوهةِ الأهداف)؟ ألا يَشمل بنكُ أهداف أيٍّ منهم مموِّلي القتلة الإسرائيليين ولو ارتدوْا ثوبَ السينما؟

وأين المناضلون في الأحزاب الوطنيّة والقوميّة واليساريّة؟ ألا يَعتبرون أنّ مقاطعة العدوّ وداعميه، ومقاومةَ التطبيع الثقافيّ والفنّيّ معه، يجب أن تكونَ في رأس أولويّاتهم؟

وأين الوزراء الوطنيون والسياديون؟ كيف يوافقون على تمرير فيلم سبيلبيرغ؟ بل كيف سكتوا عن ترشيح أحد زملائهم قبل شهور لفيلمٍ من إخراج مواطنٍ لبنانيّ سبق أن صوّر مشاهدَ من فيلمه السابق في تل أبيب طوال 11 شهرًا؟

ومع ذلك، فإنّ حملة المقاطعة تُطمئن جمهورَها، و"تبشِّر" خصومَها، بأنها ستكثّف جهودَها لفضح آليّات التطبيع ووجوهِه ورموزِه وأشكالِه. فمن دون مواجهة التطبيع مع العدوّ لن نوفي شهداءنا حقّهم علينا، ولن يستحقَّ لبنان وصفَه بالـ"البلد السيّد الحرّ المستقلّ." 

بيروت

سماح إدريس

رئيس تحرير مجلة الآداب الورقيّة (1992 ـ 2012) والإلكترونيّة (2015 ـ...). له كتابان في النقد الأدبيّ، وأربعُ رواياتٍ للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال، وعشراتُ الدراسات والمقالات والكتب المترجمة. عضوٌ مؤسِّسٌ في "حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان" (2002 ـ ...). ينتهي خلال أعوام من إنجاز معجم عربيّ  ضخم صادر عن دار الآداب.